المترجمة الألمانية دوريس كليباس: كل ما يحدث في العالم يحدث في حارة نجيب محفوظ
في عددها الصادر في يناير 1996 خصصت مجلة القاهرة ملف عددها للكاتب نجيب محفوظ، تضمن مذكرات لكُتّاب مع نجيب محفوظ، و دراسات نقدية و حوارات، من ضمنها حوار مع مترجمة أعماله إلى الألمانية دوريس كلباس التي خصصت أزيد من ثلاثين سنة من حياتها لنقل الأدب العربي الحديث إلى الألمانية بغاية تعريف قارئ هذه اللغة بعوالم المتخيل العربي و سردياته. و دوريس كليباس ترجمت ايضا، إلى جانب نجيب محفوظ، لمحمد شكري و جمال الغيطاني و لعبد الحميد ابن هدوقة. احتفاء بذكرى وفاة الأديب العالمي السابعة عشرة، نقدم لقارئ لوسات أنفو مقاطع من هذا الحوار الهام.
س: يهمنا أن نعرف رؤية السيدة الأوروبية دارسة و استاذة الأدب التي تعيش مع اللغة العربية و آدابها لمضمون أدب نجيب محفوظ، ماذا يعني عالمه بالنسبة لك و للقارئ الألماني؟
ج: معروف أن نجيب محفوظ لا يحب التجوال في العالم، و لا حتى داخل مصر، و لا أعرف له رواية تدور أحداثها في الضواحي في حي عمالي مثلا. هذا في حد ذاته شيء فريد أن يظل الكاتب في موقع واحد، طبعا أسمع من تجار الكتب أصحاب المكتبات تعليقات مثل: هاهو يكتب عن حارته مرة أخرى ( السكرية)ن و لكن الذي أدافع عنه هو أن الرجل الثابت جدا، يبقى في حيه، في بيئته، و يقول لنفسه على ما يبدو: ” إن ما يحدث في العالم الكبير لابد أن يحدث يوما في هذا الحي.” لا، لم يعد يوجد شيء خارج العالم، في كل الروايات. في زقاق المدق تتحول بنت إلى الدعارة في زمن الحرب العالمية الثانية، مجبرة لكي تعيشن و تحصل من الجنود البريطانيين على نقود كثيرة، كل ما يحدث في العالم يحدث في حي نجيب محفوظ. هذا انسجام من الكاتب، البعض يرى فيه تصلبا. هو يقول هذا مجالي فيه أرى كل العالم و لاأغادره، و نجيب محفوظ يكتب من موقعه عن الحياة و الموت، عن الشباب و الشيخوخة، عن الحب و الكراهية، عن الآباء و الأبناء، عن كرامة الرجال و خضوع النساء، يكتب عن الرجل و المرأة، عن الدين و المادية، عن الراديطالية اليسارية و اليمينيةن عن العزة القومية و عن ضيق الأفق القومي، عن العالم الداخلي و العالم الخارجي. و هو ينسج نسيجا تمثل الأسرة بدايته و مركزن و هذه تربطها خيوط كثيرة بكل ما يمثل الحياة. إنه يرسم أشخاصه بملامحهم الخارجية، بأحاسيسهم الملموسة، و بحاجياتهم الداخلية بانعكاساتها و بهمومها و تساؤلاتها الثاقبة عن العالم، و يضعها في قلب الأحداث ، إنه يلقي حجرا في الماء و يترك الأمواج تنشر دوائرها. إنه الواقعي الذي ينظر إلى ماض و حاضر و مستقبل مجتمعه نظرة نقدية.
س: ومكانة الثلاثية في أدب نجيب محفوظ و في الأدب العربي الحديث؟
ج: الثلاثية تمثل ذروة و خاتمة نجيب محفوظ الواقعية النقدية. و كم هو تزامن تاريخي جدير بالتأمل أن ينهي كاتب مصري في سنة 1952، ثورة يوليو بالضبط، كمؤرخ قصاصن تسجيل الزمن الذي سبق هذا الحدث و الذي بدونه ما كانت التغيرات التي جرت متصورة . لأول مرة في الأدب العربي الحديث يحيط عمل أدبي بفترة زمنية بهذا الطول، تبدأ سنة 1917 بعد الحرب العالمية الأولى ، و تنهي 1944 قبل نهاية الحرب العالمية الثانيةن و في بانوراما شاملة يرسم حياة ثلاثة أجيال من أسرة مصرية من الفئات المتوسطة، و يتتبع تاريخ التحولات الجارية في المجتمع المصرين السياسية و الاجتماعية و القواعد الاجتماعية و القيم الفردية.
س: قمت بترجمة لنجيب محفوظ و لمؤلفين من الأجيال التي جاءت بعده و التي تتميز بالقطع مع جيله، و لكن هل من صلةن هل من استرارية؟
ج: منها خرج عدد من الذين ولدوا بعدهن و كتبوا بعده، عن طاعة أدبية للأستاذ الكبير، مثال رشيد بوجدرة و صنع الله إبراهيم و كثير غيرهما، فقد قرأ جميعهم الثلاثية. عندما يدعي جيل نجيب محفوظ لنفسه أنه ” خرج من معطف موباسان” يخيل إلي أحيانا أن جيل المؤلفين الذين ولدوا بعد سنة 1940 لم يخرج فحسب من معطف نجيب محفوظ ، بل من تحت معطف ثلاثيته، أين شاهدنا من قبل شخصية أم مثل” أمينة”؟ أين التقينا من قبل ذلك بشخصية أب مثل ” سيد عبد الجواد” هذا السيد الذي يجمع في شخصه كل شيء فهو الرجل المؤمن، و السكير العربيد المهزار، وهو الطاغية المستبد المسيطر على أسرته؟ أين سبق وقوبل هذا بتفهم؟ و لماذا رغم كل الاستبداد تحب الزوجة و الأطفال هذا الأب الجبار؟ و أين قرأنا من قبل الثلاثية مثل هذا الوصف المغري بملذات الجنس؟