حسن أوزال:الصديق “محمد الشارخ” باعتباره حدثا عربيا بامتياز
حسن أوزال/مفكر مغربي
يكاد الحديث عن محمد الشارخ لا يستقيم بنظري دون استحضاري لتلك اللقاءات النادرة و الرائعة التي لاقتني بالرجل منذ بداية الألفينات ، حيث جمعتني الصدف به لأول مرة في إطار دعوة موجهة لي من أجل المساهمة في ندوة ثقافية تخص مجموعته القصصية بعنوان :”عشر قصص”. هكذا إذن ساقتني الأقدار لمجالسته ذات مساء جميل بمطعم “طاروس بالصويرة” حيث تعشينا سويا بحضور زوجته موضي الصقير أم فهد كما يحلو له أن يناديها و كان برفقتي عندها أيضا الصديق الشاعر عبد الحق ميفراني .لقد كان اللقاء شيقا للغاية لا من حيث نوعية الضيوف و روعة الفضاء فحسب بل أيضا جراء النغمات الموسيقية الممتعة التي كانت تتخلل حواراتنا المتشعبة حينها و التي دارت على ما أتذكر حول الإبداع و هوس الكتابة و ما بوسعه أن يجعل الفلسفة تتقاطع مع الرواية و إدمان سبك القصص و غيرها من المواضيع. ولعل من بين محاسن هذا اللقاء الأول بالمناسبة، ما خلفه في أنفسنا من أثر جميل تكلل بتحفيزي على استثماره فكريا فيما بعد ، حيث انتهيت إلى كتابة بحث بعنوان “هوس الكتابة” شكّل كفقرة من بين فقرات أخرى صلب مؤلفي الصادر عام 2013 عن دار إفريقيا الشرق “منطق الفكر و منطق الرغبة” .و قد حاولت فيه ما أمكن أن أفكك شفرات هوس الكتابة باعتباره ما يؤسس لنوع من العلاقات المُحطِّمة للفوارق الطبقية و المُبدِّدة للتفاوتات الإجتماعية جاعلة كما تساءلت حينها الأثرياء يُنصِتون لأندادهم الفقراء. ذلك أن فضل هذا النزوع للكتابة حدّ الهوس إن كان يتجلى في شيء ما فإنما يتجلى على ما يبدو في قدرته على اختراق الحدود الطبقية ليعْقِد صلات متينة بين الناس شريطة أن تكون هي الأخرى عاشقة للحياة و متذوقة للفنون بشتى أصنافها. بهذا الشكل إذن يمكنني القول على نحو نتشه و هو يستحضر غوته :”إن سي محمد الشارخ هو آخر عربي أكِنُّ له تقديرا و احتراما كبيرا…” وذلك لاعتبارات عدة . أوّلها كونه “رجل كامل « un être intégral » بكل ما ينطوي عليه هذا الوصف من معنى. ذلك أن “سي محمد” فضلا عن كونه قاص متميز و روائي متمكّن، فهو أيضا و كما لا يخفى على جل أصدقاءه من المولعين كثيرا بالموسيقى و المسرح و الغناء و التلحين .لنقل إذن أنه بقدرما كان يحيا حياة الأناقة و الغندرة بتعبير بودلير il vit en dandy بقدرما كان يجد نفسه مهووسا بالأدب حدّ الجنون و متورطا في الفن حتى الثمالة. هذا على الأقل ما عرفته عن كثب عن هذا الرجل الذي يملك أكبر مكتبة سينيمائية تحوي أعظم الأفلام العالمية ناهيك عن توفره على سلسلة من اللوحات الفنية النادرة لرسامين عرب و أجانب. و على مقاس ما أورده مُحِقا ، صديقنا المشترك “ابراهيم داوود” ، ألاحظ بدوري كذلك أن الشارخ من طينة أولئك الذين يتركون أعمالهم التجارية جانبا و يدعون أشغالهم المقاولاتية الربحية من أجل أن يحضر “أوبيرا” في فيينا أو أن يقرأ رواية جميلة حديثة الصدور أو أن يمتطي الطائرة لزيارة الأصدقاء بشكل مباغث. ولعل آخر لقاء جمعني به بمراكش ذات ليلة بمطعم “السلام” بجليز أنا و صديقَيَّ عبد العزيز بومسهولي و عبد الصمد الكباص ،يؤكد هذا الأمر السالف الذكر و يعضده حيث لا يسألنا “سي محمد” إلا عن الإبداع و ما استجد في الساحة الثقافية من مؤلفات فكرية قبل أن يفاجئني شخصيا، كقارئ حصيف ، باستشكال ماركسي يتعلق بمقال لي منشور في مجلة عربية. إن للرجل عين لا تنام و يتمتع بذاكرة قوية لا تضاهى ، جعلته يحظى باحترام عز نظيره بين كل أصدقاءه و معارفه .لذلك ربما وغيره أحتفظ للشارخ بهذا الود الكبير كصديق ظل منصفا مع ذاته حتى في لحظات الظلم و عاش متواضعا بالرغم من كونه المزهو بنفسه. و على حد تعبير “بتهوفن” الذي عشق موسيقاه حتى الثمالة أجرؤ على القول أن “سي محمد” دائما ما كان في قرارة نفسه يعتقد “على أن كل إنسان خطاء لكن على نحو مختلف عن الآخرين”. لعل استفراده بهذه الخصال التي نادرا ما تجتمع في إنسان واحد، هو ما دفعه إلى التشبث بالصداقات أكثر من التشبث بالمال و رجال الأعمال. و خلافا حتى “لبتهوفن” نفسه ،يمكنني أن أضيف على أنه دائما ما كان يتحدث عن الفن و الأدب و الفكر أكثر من حديثه عن المال . ولئن كان قدر الرجل إذن هو أن يعيش مكتملا وغير منقوص من أي شيء كما أوردت فذلك ليس لأنه لم يدع غريزة الإمتلاك تُسمِّم حياته فحسب بل أيضا لأنه كان يُغَلِّب عليها نزعة الوجود. يتبدى هذا الأمر من خلال تلك الزيارات المتكررة التي يحط فيها الرِّحال بمدينة مراكش ، حيث يفاجئك بدعوة للعشاء بالمامونية أو بمطعم السلام بجليز دون سابق إنذار. وما أن تشرع في مجالسته حتى تغمرك رقة الرجل و خفة دمه إذ لا يمل المنصت إليه من حكاياته و طُرفِه التي تنساب كالنهر قولا قبل أن تُدَوَّن على الورق حبرا و مِدادا . هذا من جهة أولى أما ثاني الإعتبارات التي جعلتني أحترمه احترام نتشه للشاعر غوته، فتعود بنظري إلى كونه بالفعل “حدث عربي” un événement arabe بامتياز .و ذلك ليس فحسب لتمويله للعديد من المشاريع الثقافية في الوطن العربي ،بدءا بمشروع “كتاب في جريدة” مع اليونسكو عام 1997 وصولا إلى مساهمته في دعم مركز دراسات الوحدة العربية و المنظمة العربية للترجمة ،بل أيضا جراء تلك الخدمة الجليلة التي قدّمها للغة العربية من خلال تشييده لشركة “صخر” التي حصلت على ثلاث براءات اختراع من مكتب البراءات الأمريكي في حقل اللغة العربية للنطق الآلي و الترجمة الآلية و المسح الصوتي. وخلافا لدعاة التعريب و المتعصبين مجانا للغة الضاد، يجب على المرء أن يتحلى بقدر وافر من الحصافة ليلاحظ كيف مضى “الشارخ” بعيدا جراء عشقه للغة العربية و غَيْرتِه عليها أكثر من أي كان حيث لم يكتف بالإبداع فيها روائيا و فنيا فحسب ،بل تجاوز ذلك، حدّ إقدامه على تحويل قواعد اللغة العربية و تصريفها إلى “Binary system ” في خضم علم جديد حديث النشأة حينئذ هو علم معالجة اللغة الطبيعية الذي يستعين بتقنيات الذكاء الإصطناعي . فبادر الشارخ حينها باستقدام إحدى المتخصصات البريطانيات في البرمجيات لتفيدنا في هذا العلم الجديد الذي لم يكن يُدرَّس في الجامعات العربية. وعلى هذا النحو استطاع “سي محمد” لوحده ، أن يقيم أرشيفا للمجلات العربية يضم حوالي مليوني صفحة من الصحف و المجلات الأدبية (لقد ضم مشكورا مجموعة من مقالاتي المنشورة ببعض المجلات العربية إلى هذا الأرشيف الضخم )فضلا عن المعجم المعاصر للغة العربية الذي يتكون في نسخته الأولى من 125 ألف معنى و تركيب تحت 80 ألف مدخل و 35 ألف مترادف و مضاد و 150 ألف مثال حديث .هذا طبعا دون أن ننسى القاموس العربي/ الإنجليزي الذي ييسر لكل متصفح للجرائد أو الكتب أو البريد الإلكتروني العثور بسهولة على معنى كل كلمة بالعربية و لغات أخرى. لنقل بالأحرى ،أن سي محمد حدث و استثناء في نفس الآن جراء ما يتمتع به من خصال نادرا ما تجتمع كما أسلفت في غيره من الناس بحيث أنه أنجز لوحده أشياء لم يستطع مئات الرجال مجتمعين أن ينجزوها، فندر حياته خدمة للفن و الإبداع و الثقافة مؤمنا بأن الإنسان لا يخلد إلا من خلال ما يُخلّفه من وراه من أثر جميل ،إذ خلافا للجموع التي لا تصنع التاريخ نلاحظ أن الرجل ابتكر و أبدع في كل مناحي الحياة ،فأعطى شكلا لهذه القوة الإبداعية التي كان ينطوي عليها حتى لا تبقى مخفية و بلا شكل. و مثل كل عظماء التاريخ يمكنني أن أضيف على أن صاحب رواية “العائلة” كان يصر على أن يمنح الأشياء” شكلا ما ” il informeحتى لا تبقى بـ”لا شكل” sans forme .ذلك ما تعهَّد به معي شخصيا كصديق له دون اتفاق مسبق و على نحو مفاجئ ،ما أنْ أصر ذات عام على طبع قولة لي على ظهر روايته السالفة الذكر إلى جانب “شذرات ” ثلة من الكتاب العرب من عيار صبري حافظ و سامي خشبة و فيصل دراج و عبد المالك التميمي .قولة ارتأيت أن أختتم بها هذا المقال و هي مقتبسة للذكرى من مداخلة لي بالصويرة أفردتها لمجموعته بعنوان :”عشر قصص” كالتالي :”أسلوب السبك و الحكي عند محمد الشارخ يمنح المخيلة إمكانية هائلة للإنفجار، كما لو كان الأمر يتعلق بالحلم”.