روبورتاج

الراب المغربي: عودة قصيدة الرفض والغضب

لوسات أنفو: عادل أيت واعزيز

يبرهن فن الراب الذي يدخل ضمن تركيبة رباعية لعناصر الهيب هوب؛ الدي جي، البريك دانس والكرافيتي، أنه لاينشأ من حاجة الإنسان إلى الرائع، بل من مجموع الإحتياجات الإنسانية. ليشمل كل ما يهم الإنسان المعاصر، فهو ليس لذة جمالية فحسب، إنما وسيلة معرفة وتعبير واحتجاج، وموقف من الحياة والمجتمع.

كلما تلافى الفنان عن ذايته، وذاب في معطيات الحياة وتدفقات الإرادة والقوة، صار أكثر قربا من المفهوم الحقيقي للفن. وهذا جوهر فلسفة الفن لدى الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، فعودته لأسطورة ديونيزوس، عودة لتمثلاث النشوة والغريزة وقوى الطبيعة وانفلاتاتها من إدراكها، وهذا ما يغذي الفن.

حيث بدأت الكلمة والإيقاع

يستعصي تعقب الأصول الأولى لظهور الراب في العالم، أمام تعدد الحاملين لمشعله بدءا من الولايات المتحدة الأمريكية، خلال ثمانينات القرن الماضي، مع؛ ميلفين جروفي، كول هيرك، راكيم، البيجي ثم كروك ليسان الملقب بـ” توباك شاكور” المعلم الأول، والبعد الإنساني والإجتماعي والسياسي للراب، الذي يتصدى في أغانيه لكل أشكال العنصرية، ليلقي حتفه اغتيالا في لاس فيجاس سنة 1996.

 ثم كالفن كوردوزار الذي يطلق عليه “سنوب دوغ “، الكائن الذي ينفث الدخان أغان. فأبى إلى الآن مع رفيقه مارشال بروس الملقب ” بـإمينيم “، الماكينة الشفوية للراب الأمريكي، أغلب أغانيه، مبارزة لغوية مفرطة مع الإيقاع، يظهر فيها غنائه كأنه بلع آلة موسيقية! إلى جانب “الدكتور دري”، المنتج الموسيقي ومغني الراب الأكثر شهرة، زخم ألبوماته مع الحضوة التي يحضى بها، جعلته يشرف على العديد من الأعمال مع إمينم وسنوب دوغ، ومع ” فيفتي سنت ” ؛ أنجح المغنيين من حيث المبيعات، حيث كان لأغانيه صدى كبير وسط ساحة الراب، وبعد أن تلقى تسع رصاصات في أنحاء جسده بسبب أغانيه، عاد من موت محقق!

 شكلت هذه المرحلة مع هؤلاء الفنانين فترة الأولد سكول – المدرسة القديمة- الراب المجرد، بإيقاع بسيط موضوعه القضايا السياسية والإجتماعية، شرارة عنيقة لتوسع هذا الفن خارج الولايات المتحدة الأمريكية.

بدايات الراب المغربي

أحدث بروز العولمة والإنفتاح، عبورا سريعا لفن الراب نحو البلدان الأخرى. وأحد هذه البلدان؛ المغرب. الذي اخترق الراب شوارعه ومنصاته الفنية، ومنازل مواطنيه، فانتزع مكانته بين الفنون الموسيقية الأخرى، بل أصبح المتربع الآن في أحيان كثيرة على الترند، كأكثر الفنون استماعا، بل تطور الأمر مع طفرات التكنولوجيا بإنتاج فيديوهات مصورة، تحمل في طياتها رسائل سياسية واجتماعية وثقافية. فتحول الراب لنشاط أخلاقي للإنسان المغربي يشمل القبيح والمهمش والجميل والمسكوت عنه. وبما أن الأعمال الفنية كلها تقول وتعبر عن شيء ما، فإن للراب طريقته الخاصة لقول الأشياء.

 في التسعينات من القرن الماضي، وفي بلد كالمغرب، لم تكن بيئته مهيأةً بعد للترحيب بهذا الغريب، كبلد محافظ، كان الراب لحظتئذ غريبا بين أفراد ومجموعات قليلة كانوا أوفياء لأسلوب المدرسة القديمة – اولد سكول- و” فاس سيتي كلان” إحدى هذه المجموعات التي كانت ستكون في بداياتها جمعية تجمع شمل حركة الهيب هوب بمدينة فاس، ولصعوبة عملية التجميع، اكتفوا بانتقاء مغنيين -الإمسي- بين كل مجموعة.

 أيضا ضمت المجموعة القديمة ” لزنقة فلو “، فنانين لازالوا يصدرون إنتاجات جديدة، أحدهم محمد الهادي المزوري، الملقب ” بمسلم” لكن بدرجات أقل تنفصل أحيانا عما كان يكتبه ويغنيه فيما قد مضى. نفس الأمر يطال مجموعات أخرى أهمها “الفناير” ، حيث ساهمت المجموعة بنقل أصوات عديدة من المجتمع. ويبدو اسم “زنقة فلو” كافيا لمعرفة المواضيع التي تتناولها المجموعة، ومع “كازا كرو ” التي تضم الرابور “الماسطا فلو” أحد أعمدة ورواد حركة الهيب هوب بالمغرب.

وكان إضافة على هؤلاء، مغنيين آخرين لا يقلون وزنا عن هؤلاء ، أهمهم ؛ القيصر، أمينو فيس، ومجموعة ” أش كاين” وغيرهم كثير.

وباختلاف اتجاهات هذه المجموعات، حيث كان يتراوح غناؤهم بين “الأندركرواند” و “الكوميرسيال “، أحدثت مجموعة “مافيا سي” رجة فنية، لمواضيعها ولاحتوائها لطليعة مغنيي الراب المغربي، كمصطفى السلامور أو ميستر كابريس، أستاذ الميكرفون كما يشاء الجميع تسميته، الرابور الهادئ والمحترم، الذي بدأ مسيرته سنة 1998، بعد تأثيره بموجة الراب العالمية، كذلك لتأثيره بفنانين جزائريين “كالشاب حسني وخالد”. كان مصطفى سلامور ، يلتقي بمدينة المحمدية قبل دخول الألفينيات بمغنيين آخرين أمثال؛ “الإمسي جو” و “الدون بيغ”. فكانوا يصنعون مواد غنائية تحمل رسائل هادفة رغم صعوبة الوصول للآلات وأجهزة تسجيل الإيقاع ، كمجوعة ڤومبير التي كان معها “الماسطا فلو”، حيث كانت تُعِدُّ الإيقاع بجهاز البلاي ستيشن!

ظلت الأحياء الشعبية بالمدن المغربية نقطة وصل لالتقاء أغلب مغنيي الراب، من بينها مكان يدعونه بـ” لاكاج “، لتبدأ موجة الراب تتوسع وتظهر أكثر فأكثر. وكان إبداع توفيق حازب “الدون بيغ” يتجلى في إنتاجه للعديد من الأغاني والألبومات، لها مكانة بين أغاني ومغنيي الراب ومتابعيه، كألبوم ” مغاربة تل الموت ” ثم ” بيض وكحل” إضافة لألبوم ” الثالث” الذي أصدر في سنة 2015. وتفاعلا مع ما كان يكتبه توفيق المزداد سنة 1983، بمدينة الدار البيضاء ، تعرض لموجة من الانتقادات سنة 2011 من طرف المتابعين وعلى رأسهم نشطاء سياسيين، بعد أن أصدر أغنية “مابغيتش ” التي هاجم فيها الأحزاب السياسية واحتجاجات عشرين فبراير.

لم يجد البيغ، الطالب الذي كان متخصصا بشعبة الحقوق، ضالته إلا في الراب، ولازال إلى الآن يصدر أغاني وفيديوهات مصورة بجودة عالية مقارنة بالماضي ، وآخر هذه الأعمال ألبومه الرابع الذي عنونه بـ” اربعين” ، ولكن، باختلاف وتحول أقرب للجذري عن الراب، فانزاح عن طقوسه وأدبياته، وأصبح فقط نصيرا للموسيقى. ما يضعه دوما في صدام وصراع مستمر مع مغنيي الراب الآخرين، وبالخصوص مع موجة الجيل الجديد.

الجيل الجديد يحلق عاليا

مع بدايات الألفينيات، بدأت حركات الراب مرحلتها الجديدة بتغير جوهري على مستوى الأسلوب، يإحداث قطيعة مع العصر القديم الذي ينحو للتراكيب وأشكال القوافي البسيطة، وبابتكار أنماط أكثر تعقيدا وفظاظة. فأصبحت محط نقاشات ثقافية وسياسية، وأصبح لهم مريدون و متابعون كثر، وصار الإعلام منفتحا شيئا ما عليهم، وصرنا نشاهد الرابور على المنصات الغنائية وفي الحفلات والمناسبات. أما البولفار بمدينة الدار البيضاء ، فقد كان ملاذا منعشا لمغنيي الراب لاستعراض أغانيهم، ومكانا يتوافد الآلاف من الجماهيرإليه، وأبرز هؤلاء الجدد الذين استفادوا من تطور تقنيات التسجل والتصوير والمونتاج وذاع صيتهم بالمغرب والخارج، أمثال؛ شايفين، ميستر كريزي، بوز فلو، والغرندي طوطو الرابو… المشاكس الذي احتل ألبومه ” كاميلون” المرتبة السادسة عالميا ، وفرض أغنيته “لوف إين وان تيتي” على 135 مليون أذن، من حيث الإستماعات، كأول فنـان مغربي بالشرق الأوسط لسنة 2021 يحقق هذا الإنجاز. بالرغم أن طوطو قد واجه متاعب بسبب خرجاته ، لكن متابعيه ظلوا متضامنين معه، وخرجاته الغنائية التي يحضرها الآلاف من الجماهير، بينة على ما يصنعه في الراب.

دون أن ننسى الديزي دروس أو عمر سهيلي ، الذي تشبت بأسلوب المدرسة الجديدة للراب ووضع بصمة في تاريخ الراب المغربي، بعد أن ساهم في إظهار للخارج وانطلق اسمه فيه، وكان الفيديو الذي صوره في الآونة الأخيرة ” مع العشران ” وميضا من الرسائل السياسية والإجتماعية، متهكما من عملية التدبير الحكومي بالمغرب. ويصور لنا ديزي نفسه داخل مع لعشران – الذي حصد أكثر من 15 مليون مشاهدة في أسبوع واحد، باحتلاله لأرقام قياسية على الترند العالمي، والأول بعد إصداره في المغرب وفرنسا وألمانيا- كمسؤول حزبي أحيانا وكصحافي ومعتقل ومسجون. ولم يُشْفِ غليله إلا بعد أن صور المغني ” الدون بيغ” داخل سيارة مقيدً يديه ومكمما فمه، في رسالة من الديزي إلى أن البيغ لم يعد كبيرا. وليست المرة الأولى التي يتساحنان فيما بينهما ، بعد أن أبان الديزي دروس في أغنيته القديمة ” المتنبي” عن قدراته الكلامية والبلاغية في الرد على أغنية شرسة للبيغ سميت بـ170 كيلو.

الغربة في عالم الراب

وكما لاتخلو أية أغنية عن خلفية صاحبها الفكرية والثقافية والأيديولوجية، جسّد الرابور جواد أسردي الملقب بـ ” بوز فلو “، شخصية الفنان المثقف، ببسط الثقافة والفلسفة والأدب في جميع الأعمال التي ينتجها، فكان له نصيب وافر من الإطلاع، مكّنه من خلق أغان بشاعرية مفرطة تنتقل بين استعمالاته اللغوية للمصطلحات. مع نزعا فوضوية تتقاطع مع السائد، ويضعنا بوز في كتاباته الإستعارية ولوازم أغانية وقوافيه، وجها لوجه أمام ذلك المرعب واللامعقول، بجرعات مسرفة، تتمثل في قساوة الوجود الإنساني، مصورا تآكل بنى المجتمع والاقتصاد والثقافة وانحطاط قيمة الإنسان أمام المعتقدات والدوغسا، وأمام القمع السياسي والمدرسي والعائلي الذي يمارس على المواطن المغربي، رافضا الإستخدامات المستمرة للدين لصالح السياسة في أحيان كثيرة. كل هذا يقدمه في أعمال مثل؛ هلوسة، نوستالجيا، نيرفانا، زاناكس، أوروبوروس، فورناكس، سادو، سوسيوباث… آخر هذه الأعمال، صدر مؤخرا في اليوم العشرين من شهر فبراير لهذه السنة، تحت عنوان “ميتامورفوز” أي المسخ أو التحول، نسبة لرواية الكاتب التشيكي فرانز كافكا، ويعمل مؤخرا بوز على عمل أصدر جزءا منه سماه “الهابيتوس”، كفهوم فلسفي وسيوسيولوجي يعود للسيوسيولوجي بيير بورديو.

 في الميتامورفوز يعيش المستمع في سبعة أغان متفرقة، التقلبات التي مر منها جواد منذ يفاعه الأول. ويظهر بوز في صورة الجزء الأول من ألبوم المسخ ، بنصف بشري ونصف خنفسائي، يعبر فيه عن اختلال معايير المجتمع وعبثية الحياة، وعن الزمن الذي يتحول فيه الرابور إلى مجرد مردد لكلمات يعيش عليها، وبين جنبات الصورة تظهر دواة بلون دموي قربها ريشة كتابة، مصورا فشل مؤسسات الدولة على رأسها المدرسة في بناء مواطن حقيقي، ويتوسط القفص الخنفسائي ميكروفونا، يريد من خلاله بوز إفهامنا بتقلص حرية التعبير.

وعلاقة بالرواية التي تحول فيها جريجوري سامسا لخنفساء بعد استيقاظه من النوم، لانعثر فيها على أي ملمح إنساني، ارتأى بوز أن يعكس الحياة البئيسة للعالم كما يراها، نقتبس كلمات من إحدى أغانيه يقول؛ “كَإِميل سيوران مصارح ذاتي” وفي مقام آخر يقول؛ “أحسن طمأنينة فكرش امي جنين، ملقيتها فلينين ملقيتها فستالين”، مازجا أحيانا بين الأمازيغية والعربية في قالب رومانسي بين الإيقاع والكلمات.

حتى وإن كان الراب لازال يعتبره البعض وسيلة وشكلا من أشكال التعبير الأكثر بدائية ، فهو جدير بأن يعيدنا إلى المنسي، إلى الطبيعة وإلى الرعب، نحو واجهة مغاييرة للرؤية، وأخيرا إلى ما ليس بعد موضوع تفكير داخل الفضاء العمومي.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى