الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي في حوار حصري مع لوسات أنفو (1): والدي أول دكتاتور واجهته في حياتي
لوسات أنفو؛
حاوره: حمزة الضيفي
قطع منصف المرزوقي رحلة طويلة في دروب السياسة والعمل الأكاديمي والفكري، فجمع بين مهام المفكر ومهام المناضل السياسي والحقوقي في حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي أسسه عام 2001.
درس المرزوقي بالمدرسة الصادقية بتونس، ثم انتقل إلى المغرب حيث كان يعيش والده محمد البدوي، كلاجئ سياسي باعتباره أحد القيادات اليوسفية التي كان يعاديها الحبيب بورقيبة.
حصل على الباكالوريا من مدينة طنجة عام 1964. تم تابع دراسته في الطب بفرنسا حيت حصل على الدكتوراه من جامعة ستراسبورغ، كما حصل على إجازة في علم النفس، قبل أن يقرر العودة عام 1979 ليعمل أستاذ للطب في جامعة سوسة.
أصبح بعد عودته من أشرس المعارضين لنظام زين العابدين بن علي الذي اعتقله عام 1994 و طرده من وظيفته الجامعية. فهاجر إلى باريس تم دعا إلى العصيان المدني. ولم يتوقف عن معارضة بن علي حتى سقوطه.
تولى المرزوقي رئاسة الجمهورية بعد الثورة التونسية، أشرف خلالها على المرحلة الانتقالية التي أعقبت الإطاحة بزين العابدين بن علي، قبل أن يترك المفاتيح ويعود إلى بيته بعد خسارته للانتخابات الرئاسية.
في هذا الحوار المطول يتحدث المرزوقي عن نشأته و بداياته الأولى في الدراسة بين تونس والمغرب وفرنسا، ويغوص في أحداث عايشها خلال فترة حكم بورقيبة وزين العابدين بن علي. كما يعود بنا إلى أسباب اندلاع الثورة التونسية وعوامل عودة النظام القديم وكيف أدى ذلك إلى إفشال الثورة التونسة. وبحكم رئاسته لتونس فللمرزوقي رأي حول عدة مواضيع يعبر عنها بين ثنايا الحوار.
النشأة والدراسة
• بداية السيد الرئيس حدثنا عن نشأتك وطفولتك؟
ولدت يوم 7 يوليوز 1945 ضواحي مدينة قرنبالية جنوب تونس العاصمة، وسيولد لي أربعة أشقاء وسبعة أخوة من أكثر من أم في تونس وفي المغرب، إذ كان والدي مزواجا مطلاقا على الطريقة الشرقية القديمة.
وكان الأمر لعنة كبرى على والدتي تمخض عن خير كبير لي إذ لا أفخر بشيء قدر فخري اليوم بعدد أخوتي وتوزعهم على تونس والمغرب.
بصفة عامة كانت طفولتي غير سهلة أو سعيدة والوالد بين السجن والمنفى ونحن نتخبط في فقر مدقع كالأغلبية الساحقة من التونسيين في بداية الخمسينيات، لكن في ظل الخطر المتواصل، حيث كان بيتنا مستودعا لسلاح المقاومة وكانت أمي تعيش في رعب متواصل من مداهمات البوليس.
وفي الواقع فإن هذا الخطر لم يتبلور إلا سنة 1955 عشية الاستقلال والصراع المرير على السلطة بين اليوسفيين والبورقيبيين. فقد تعرضت لمحاولة اختطاف من قبل مجهولين وتعرض والدي للتهديد بالقتل كما أسلفت فكانت فترة عصيبة تنذر بما سيتتابع من فترات عصيبة. وفي سنة 1956 بدا الاستقلال بالنسبة لي كحفلة مظلمة لا تعني شيئا خاصة وأنا أقاد لمركز البوليس السري لأول استجواب في تاريخي القصير. وأذكر أن المحقق تلطف معي كثيرا وأنه نظر لحذائي وقال لي بكثير من الرقة إذا قلت لنا أين ذهب والدك فسأشتري لك حذاءا جديدا. ولا أدري هل لمع في عيني آنذاك كل الاحتقار والاشمئزاز الذي شعرت به تجاهه وهل أدرك أن هذا الطفل الذي لم يتجاوز التاسعة قد شعر بإهانة لن يغفرها له طول حياته.
وقد رويت القصة لأحفاد هذا البوليسي وهم يستجوبونني مفتعلين اللطف وقد تجاوزت الأربعين مذكرا أنني لا أبيع أبي ولا وطني بحذاء جديد.
• و ماذا عن والدك؟
والدي محمد البدوي المرزوقي أصيل مدينة دوز بالجنوب التونسي، كان معروفا بالشجاعة والذكاء الحاد والثقافة الواسعة وكان وسيما بالغ الأناقة، بالغ الاعتداد بنفسه وصاحب شخصية طاغية جعلت منه أول دكتاتور أواجهه.
عمل والدي وكيلا عدليا ومارس الصحافة زمنا، لكنه كان بالأساس مناضلا سياسيا، هو أول من كون خلية الحزب الدستوري في دوز في الثلاثينيات وكان منخرطا في المقاومة المسلحة يجمع السلاح ويخبئه في بيتنا. أذكر أنه كان يأخذني للتجمعات الضخمة وأنا لا أتجاوز التاسعة وأنني وقفت مرة بين رجلي الزعيم صالح بن يوسف وهو يلقي خطابا ناريا من شرفة دار في باب منارة.
انخرط في الأمانة العامة عندما انقسمت الحركة الوطنية عشية الاستقلال وكان قريبا جدا من زعيمها الشهيد صالح بن يوسف الذي أمر بورقيبة باغتياله.
• ما سبب الخلاف بين الزعمين صالح بن يوسف والحبيب بورقيبة؟
الخلاف كان بين شق بورقيبة الفرنكفوني المرتبط أساسا بالدولة الفرنسية، وبين شق بن يوسف العروبي والإسلامي الذي كان يهدف إلى الاستقلال التام لتونس. وللإشارة فإن الشهيد بن يوسف كان يوفد والدي للمغرب الشقيق كممثل له. عند انتصار الشق البورقيبي لم يجد والدي من حل غير الفرار إلى المغرب بعد أن أتته الأخبار بأنه على قائمة الاغتيالات، وعاش في البلد الشقيق 33 سنة مكرما معززا.
• ماذا كان يشتغل الوالد بالمغرب؟
كان يشتغل في البداية نائبا عاما لمدينة طنجة، وكان الملك محمد الخامس هو من عينه في ذلك المنصب الذي لم يحبه الوالد، لأن الناس كانت تناديه بـ “الغراق”. استقر بعد ذلك في مدينة بني ملال وعمل كوكيل عدلي أمام المحاكم الشرعية، لكن مع شعور حارق بالظلم والغبن والنفي مات بعيدا عن الأرض التي ساهم بالقلم والسلاح في تحريرها ودفن في مدينة مراكش.
• ماذا تتذكر عن مراحل دراستك الأولى؟
في سنة 1957 حصل أخطر تحول في حياتي حيث وجهت إلى المدرسة الصادقية بالعاصمة. ولم يكن لي أدنى فكرة عن هذه المدرسة ولا أظن أن حتى والدتي كانت تعرف، وهي تتلقى نبأ قبولي فيها، أنها مدرسة النخبة لا يوجه إليها إلا أنجب التلاميذ. إلا أن المسألة كادت تتوقف عند شهادة النجاح في مناظرة الدخول للثانوي إذ لم يكن لوالدتي ما تدفع به ثمن الاشتراك في القطار حيث كنا نسكن مدينة حمام الأنف ولم يكن هناك أي إمكانية لنسكن تونس ونحن نعيش على كرم أخوالي ووالدي عاجز في تلك الظروف على أن يمدنا بأي عون.
يشاء الحظ ألا يقف بي قطار الحياة عند مسألة اشتراك سنوي في قطار الأحواز فتبيع والدتي كل ما تملك من حلي لأدخل المدرسة العريقة التي ستغير مجرى حياتي. لا شك أنني لن أوفي أبدا بالدين الذي بذمتي تجاه المدرسة الصادقية وتجاه أساتذتي فيها وهم الذين علموني حب المعرفة وقواعدها الأساسية ولهم مني أحياء أم أموات عرفان لا نهاية له. وقد أردت دوما أن أعبر عنه بمحاولة التشبه بهم والعمل على منوالهم في نقل المعرفة إلى طلبتي بتلك الشدة الرقيقة والمحبة والإخلاص الذي كان يطبع كل تعاملهم مع تلامذتهم.
لم تكن فترة الصادقية التي امتدت إلى سنة 1961 سهلة. فكم من طفل اليوم، ينهض في الخامسة صباحا والليل ما زال مرخ سدوله، ليأخذ قطار الأحواز في السادسة، حتى يكون أول من يدخل القسم، ويبقى في الشارع فترة انقطاع الدوام يقضم قطعة خبز جاف كغذاء منتصف النهار، ولا يعود للبيت إلا في السابعة ليلا ليعمل على دروسه إلى العاشرة. إلا أن هذه الفترة نمت الاستقلالية وتحمل الحياة الصعبة والانضباط لأن القطار لا ينتظر من يخلف موعده. ونمت في خاصة عادة القراءة اليومية إبان السفر الطويل يومها والتي ستصبح عادة مستحكمة ثم نهما يكاد يكون مرضيا.
ورغم هذه الصعوبات فإن المدرسة كانت توفر لي قسطا كبيرا من المتعة وهي تشبع فضولي الجارف إلى العلم وتوقي إلى التفوق. وإبان السنوات الأربع فرضت سيادتي المطلقة على عرش الإنشاء العربي والفرنسي في حين كنت أقنع بالمرتبة الأخيرة في الرياضة. ومن أين لي التفوق فيها والحال أنه لم يكن يعنيني في الوجود شيء قدر التهام القصص التي كنت أستعيرها من المكتبة جالسا أو مستلقيا على الفراش وهما وضعيتان قلما تعدان لنيل الميداليات الرياضية، أتذكر إلى اليوم دهشة المكلف بالكتب وهو يرى هذا الطفل الغريب يخرج بالقدر الأقصى المسموح به من الكتب ليعود من الغد أو بعد الغد على أبعد تقدير لحمولة جديدة.