الذكرى الـ20 لرحيله خارج المكان: إدوارد سعيد الحاضر الغائب
لوسات أنفو: عادل أيت واعزيز
“أنا فلسطيني ولكني طردت منها منذ الطفولة، وأقمت في مصر دون أن أصبح مصرياً، وأنا عربي ولكني لست مسلماً، وأنا مسيحي ولكن بروتستانتي، واسمي الأول “إدوارد” رغم أن كنيتي “سعيد” !”
هكذا يختصر إدوارد سعيد بطاقة هويته، وهو الذي حمل مشقة اسمان متوازيان مختلفان، الأول إنجليزي مفخم يتجاوزه، والثاني شريك عربي يؤكد عليه.
لِيِ اسمانِ يلتقيان ويفترقان
ولي لُغتان, نسيت بأيَّهما
كنتُ أَحلُمُ،
لي لُغَةٌ إنجليزيَّةٌ للكتابة،
طيِّعةُ المفردات،
ولي لغةٌ من حوار السماء مع
القدس، فضيَّةُ النَّبْرِ، لكنها
لا تُطيعُ مخيّلتي!
(م.د)
هو إدوارد وديع سعيد، مفكر ومثقف فلسطيني أمريكي ومنظر أدبي، رأى نوره الأول 1 نوفمبر 1935 بالقدس، وغادر العالم 25 سبتمبر 2003. سافر لأمريكا مكرها، وهو في الرابعة عشر من عمره سنة 1951. وبين حيرة دراسة الطب أم الموسيقى، استقر في دراسة الآداب ،وتخرج من جامعة برينستون سنة 1957، ثم حصل على ماجستير الآداب سنة 1960، وعلى على الدكتوراه في النقد الأدبي والأدب المقارن سنة 1963 من جامعة هارفرد. ليعمل كأستاذ جامعي للنقد الأدبي والأدب المقارن في جامعة كولومبيا في نيويورك، كما يعد من مؤسسي الدراسات النقدية لما بعد الكولونيا لية.
كان إدوارد سعيد صدى فلسطين خارج فلسطين، صوتها الذي لا يتوقف عن الصمت، وهو نقيض الفكر الصهيوني، عرف بدافعه المستميت عن القضية الفلسطينية قلبا وفكرا وقلما، وقام بكتابة وثيقة إعلان دولة فلسطين مع الشاعر محمود درويش، التي تم إقرارها سنة 1988م بالجزائر، وكان عضوًا في المجلس الوطني الفلسطيني، هذا قبل أن يستقيل منه احتجاجًا على اتفاقية أوسلو، بين منظمة التحرير والإسرائيليين.
والهويَّةُ؟ قلتُ
فقال: دفاعٌ عن الذات…
إنَّ الهويةَ بنتُ الولادة, لكنها
في النهاية إبداعُ صاحبها, لا
وراثة ماضٍ. أَنا المتعدِّد. في
داخلي خارجي المتجدِّدُ… لكنني
أَنتمي لسؤال الضحيَّة.
(م.د)
ألف مجموعة مؤلفات بلغت الخمسين، تتراوح كلها بين النقد والأدب والموسيقى والفكر. وأعطى كتابه الاستشراق الصادر سنة 1978م شرارة لنظرية جديدة تحلل علاقة القوة بالمعرفة، وبأداء الخطابات الاستشراقية، ليتبعه بمؤلفين آخرين يشكلان تتمة له، الأول القضية الفلسطينية سنة 1978م، وتغطية الإسلام: كيف تحدد وسائل الإعلام والخبراء الطريقة التي نرى فيها العالم سنة 1981، وفي سنة 1993 ألف كتابا أنيقا سماه ” الثقافة والامبريالية”.
ولأن فهم نظريته ومؤلفاته، لايتم بمعزل عن نزعته الأدبية، فأن فهمنا لسؤال التكيف لدى إدوارد يتحتم بنا العدوة لمؤلفاته الأدبية من قبيل: وزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية 1966م، ما بعد السماء الأخيرة: حياة الفلسطينيين سنة 1986م، العالم والنص والناقد سنة 1983م، القومية والاستعمار والأدب: ييتس ونهاية الاستعمار سنة 1988م، خارج المكان: سيرة ذاتية سنة 1999م. وفي سنة ألفين ألف: تأملات من المنفى ومقالات أخرى، إدوارد سعيد القارئ، نهاية عملية السلام: أوسلو وما بعدها…
لا يكتمل حضور المثقف الغائب إدوارد، بدون الموسيقى، وهو الذي يكتمل معها ويعزفها كما كتب عنها، فالموسيقى عنده شأنها شأن فلسطين ” قضية” ، أرادها كينونة له، فألف فيها: متتاليات موسيقية 1991م، المتشابهات والمتناقضات: استكشافات في الموسيقا والمجتمع سنة 2000م، عن النموذج الأخير: الموسيقى والأدب ضد التيار 2006م.
نيويورك، إدوارد يصحو على كسل
الفجر. يعزف لحناً لموتسارت. يركض
في ملعب التنس الجامعيّ. يفكّر في
هجرة الطير عبر الحدود وفوق الحواجز.
يقرأ ((نيويورك تايمز)) يكتب تعليقَهُ
المتوتّر. يلعن مستشرقاً يرشد الجنرال
إلى نقطة الضعف في قلب شرقيّة.
يستحمُّ. ويختار بدلَتهُ بأناقة دِيكٍ.
ويشرب قهوته بالحليب. ويصرخ
بالفجر: هيّا، ولا تتلكَّأ /
(م.د)
وهو في منزله بأمريكا، لا يفتأ زوار من طينة جاك دريدا، كريستوفر إيريك هيتشنز الذي ألف معه كتاب “لون الضحية”، إبراهيم أبو الغد، محمود درويش، شفيق الحوت…وآخرون لا يقلون عن هؤلاء زوارا وأصدقاء.
ومكانة إدوارد تتضح معالمه جيدا، حين تولى رئيسا لجمعية اللغة الحديثة، ومحررا في فصلية دراسات عربية، وعضواً في الأكاديمية الأميركية للفنون والعلوم، وعضو تنفيذ في نادي القلم الدولي، والأكاديمية الأميركية للفنون والآداب، والجمعية الملكية للأدب، والجمعية الأميركية للفلسفة.
وفي سنة 1993م استدعي لإلقاء محاضرات في البرنامج الإذاعي السنوي لدى “بي بي سي”، كما كان ينشر بشكل دوري مقالات في دورية “ذا نيشن” وصحيفة الجارديان، ومجلة “لندن ريفيو أوف بوكس”، وصحيفة “ليموند ديبلوماتيك”، وصحيفة “كونتربونش”، وصحيفة الأهرام، وصحيفة الحياة.
ولأن المنفى ذهنية الشتاء وحالة العذاب المبدع، عاد إدوارد سنة 1992 في أول رحلة له لفلسطين، ومع اقترابه لتخوم منزله إلا أنه رفض دخوله، لأسباب تصفها زوجته بالمعقدة.
وقفت على الباب كالمتسوّل.
هل أطلب الإذن من غرباء ينامون فوق
سريري أنا… بزيارة نفسي لخمس دقائق؟
هل أَنحني باحترام لُسكان حلمي الطفوليِّ؟
(م.د)
قال عنه نعوم تشومسكي: كان إدوارد عقلا مستقلا جدا، ونزاهته تامة لا تدين لأحد”، وكتب عنه درويش قصيدتين، الأولى انبسط بها إدوارد اثناء ميلاده الستين، والثانية رثائية حزينة نقلها لها درويش إلى عالمه الاخر.
منفىً هو العالم الخارجيُّ
ومنفىً هو العالم الداخليُّ
من أَنت بينهما؟
لا أُعرِّفُ نفسي تماماً
لئلاّ أُضيِّعها. و أَنا ما أَنا
وأنا آخري في ثُنَائيّةٍ
تتناغم بين الكلام وبين الإشارةْ.
(م.د)
ويبقى كتابه ” الاستشراق” الذي وضع تحت مجهر النقاد والعقلية المستعمر، وخزا لكل المسلمات الغربية حول الشرق. والاستشراق وهو يحاول الإجابة عن سؤال لماذا حينما نفكر في الشرق الأوسط، نحمل تصورات مسبقة عنه؟ وكيف يمكن فهم الغرباء عنا والذين نختلف عنهم؟
يكتب إدوارد سعيد في كتابه:«الاستشراق بصفته المؤسسة الجماعية للتعامل مع الشرق –والتعامل معه معناه التحدث عنه، واعتماد آراء معينة عنه، ووصفه، وتدريسه الطلاب، وتسوية الأوضاع فيه، والسّيطرة عليه: وباختصار بصفة الاستشراق أسلوبا غربيا للهيمنة على الشرق، وإعادة بنائه، والتسلط عليه».
لا الشرقُ شرقٌ تماماً
ولا الغربُ غربٌ تماماً
لأن الهويَّةَ مفتوحةٌ للتعدُّد
لا قلعةً أو خنادقَ/
(م.د)
شكل استشرق إدوارد سعيد، ثورة في الدّراسات الإنسانيّة، ليس في الغرب فقط، حيث صدر، بل زحفت أصداؤه لأرجاء المعمورة، وكشف بشكل فاضح عن العمليات الثقافيّة الاستعلائيّة التي يمارسها كتاب ومستشرقو ومفكري الغرب، تجاه عالم الشرق وحضاراته منذ قرون عديدة، تحت طائلة مركزية العقل الأوروبي. ليس هذا الأمر فحسب، بل أحدث الكتاب منعطفا حاسما في نسق البنيوية واللسانيات.
مثل إدوارد سعيد صورة المثقف المثخن بجروح الحاضر، والقلق إزاء أسئلته الكبرى، فتعرض لتهديدات عديدة ووصلته رسائل تصفية، أقلها حرق مكتبه في كولومبيا.
أثار سؤال الانتماء والمنفى للسيد إدوارد، زوبعة ظلت تحوم عليه وهو يقضي أيامه في نيويورك، ولعل الأمر ما جعله يعنون سيرته الذاتية بخارج المكان، والخارج الإدواردي تتداخل فيه نيويورك مع القاهرة وبيروت، الآداب مع الموسيقى، الشرق مع الغرب، الأكاديمية مع البوهيمية، وجميع جولات وأسفار إدوارد وابحاثه كلها محاولات لإيجاد مكان خاص به ينتمي إليه، لا فكريا ولا موسيقيا.
وقال: إذا متُّ قبلك
أُوصيكَ بالمستحيلْ!
سألت: هل المستحيل بعيد؟
فقال: على بعد جيلْ
سألت: وإن متّ قبلك؟
قال: أُعزِّي جبال الجليلْ
(م.د)
قد تحث الأزمنة والأمكنة على سعيد الصمت، بعد أن عاش قصتي حب لا يملك إلا مسافتهما البعيدة، وهو في العقد الأخير من حياته بدأ الموت يقتحمه ببطء شديد، بعد أن فاوض عقله وقلبه وأنامله، وواجه عنف الوحدة وضراوتها، وهو ينتظر هذا الحاضر فيه، توفي عن عمر يناهز 67 عاما، بعد صراع دام 12 عاما مع مرض ابيضاض الدم الليمفاوي المزمن “اللوكيميا” ودُفن في مقبرة برمانا الإنجيلية في جبل لبنان تنفيذا لوصيته سنة 2003م، فيما أعادت جامعة بيرزيت تسمية مدرستها الموسيقية باسم معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى تكريماً له.