الدولة الاجتماعية… غموض المفهوم وشروط التنزيل
حسن أوزيادي
كثُرَ الحديث مؤخرا عن الدولة الاجتماعية، سواء بين أوساط المهتمين أو في الخرجات الإعلامية للحكومة وعزمها الشروع في لتنزيل برنامج الدعم الاجتماعي المباشر من خلال صرف إعانات مالية للأسر الفقيرة والهشة. أُولاها ستكون ابتداء من نهاية شهر دجنبر2023، بهده الخطوة، ترغب الحكومة في إرساء نظام يقوم على تقديم دعم مباشر للأسر، تستفيد منه الفئات الاجتماعية التي تعاني الهشاشة، ويهم الأطفال في سن التمدرس، والأطفال في وضعية إعاقة، والأطفال حديثي الولادة، إضافة إلى الدعم المباشر للسكن 2024 .
لن تتأت عدالة الدولة الاجتماعية إلا بالتوزيع العادل الثروة والدخل، ليتمتع جميع المواطنين بمستوى معيشي مقبول، بغض النظر عن دخلهم أو وضعهم الاجتماعي.
في ظل هده المتغيرات والمستجدات التي عرفها السياق المغربي، خصوصا بعد جائحة كورونا وزلزال الحوز، ظهر بشكل ملموس وصارخ فشل كل التجارب والبرامج والمشاريع التنموية السابقة. مما يطرح مجموعة من علامات الاستفهام.
فما الضامن لإنجاح الدولة الاجتماعية؟ إذا اقتصرت كسابقاتها على الأجرأة التقنية دون الاهتمام بعمق المشاكل الحقيقية للمجتمع. في ظل الفشل الدائم و الرهان على مجتمع تكافؤ الفرص والتنمية المجالية الشاملة والمستدامة.
لهدا يبقى السؤال الحقيقي والاصل في «حكاية النهوض المغربي” هو طغيان وهيمنة المقاربات التكنوقراطية والتقنية وسلطة المال في معالجة الإشكالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فغياب العمق الفكري والفلسفي والكفاءة السياسية في معالجة إخفاقات التنمية هو من يَرهن مستقبل المغاربة إلى اليوم.
الدولة الاجتماعية وغموض المفهوم
الدولة الاجتماعية مفهوم فلسفي مؤَسسٌ له تاريخيا و منذ القرن التاسع عشر، قبل أن يكون مجرد إجراءات اقتصادية تهدف توفير الحماية الاجتماعية للفئات الهشة والفقيرة في أي مجتمع. هي فلسفة اجتماعية تهتم بدراسة التفاعلات الاجتماعية والسلوكية بين شخصين أو أكثر، حيث تدرس ديناميكيات المجموعة وتنظيمها وتحديد هويتها ورصد الاهتمامات السياسية والانشغالات الاجتماعية، الفردية منها والجماعية. فمكون الحرية لدى الفرد والمجتمع يعنبر أساسيا، فهو عنصر من عناصر المجتمع الجيد، بنظام عادل للعدالة وسلطة سياسية مصدرها الصناديق الشفافة للتأسيس للدولة الديموقراطية الحديثة التي تضمن شروطًا تحديد المسؤوليات والحقوق والواجبات والمساهمة في تطور الفكر السياسي وتعزيز فكرة الديمقراطية وسيادة القانون.
الاصل في «حكاية النهوض المغربي” هو طغيان وهيمنة المقاربات التكنوقراطية والتقنية وسلطة المال في معالجة الإشكالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
لا يمكن استيفاء الحديث عن الدولة الاجتماعية دون هدا التقعيد والتأطير النظري. وإلا ستكون مشروعية هدا النظام الجديد محط تساؤلات واستفهامات عدة، كباقي المشاريع السابقة. فالتأسيس للدولة الاجتماعية ليس هو مجرد إجراءات تقنية واقتصادية تروم تحييد الهشاشة الاجتماعية والقضاء عليها. بل إن المسألة أعمق من ذلك ومرتبطة أساسا بالبنية السياسية والثقافية والفكرية للمجتمع. إن عملية التأسيس للدولة الاجتماعية لا تكون برغبة ذاتية أو حلم يقظة، عبر قرارات فوقية، بل هي عملية عسيرة وصيرورة طويلة تستدعي وضع اللبنات و الأسس التصحيحية والصحيحة وتصليب الأساسات الحاضنة لها بمقاربات تنهل من فكر وقيم الفلسفة الاجتماعية أولا ثم الأجرأة الاقتصادية ثانيا.
الدولة الاجتماعية هي كل لا يقبل الانتقاء. منظومة كاملة تتداخل فيها عوامل معقدة. من فكر وسياسة واقتصاد حقل تجريبها الأفراد و المجتمع بتفاعل وبالشراكة في المصير. لتوفير الشروط الذاتية والموضوعية للتأسيس وباتالي النجاح.
هل نحن أمام الدولة الراعية؟ أو الدولة الحاضنة؟ أو الدولة الحامية؟ أو الدولة الاجتماعية؟
أسس الدولة الاجتماعية
الأساس السياسي: تنبني الدولة الاجتماعية في الادبيات العالمية على مجموعة من المفاهيم والمقولات السياسية الأساسية كالعدالة الاجتماعية والرفاه الاجتماعي للمواطنين، ثم المساواة والحرية بغض النظر عن الجنس أو الدين أو العرق أو الطبقة الاجتماعية. إن الحق في الحرية السياسية هو صمام أمان لاختيار النخبة السياسية الكُفئة و القادرة على تحمل المسؤولية السياسية بالنزاهة اللازمة لتحصين العدالة الاجتماعية لتكون ضامنة للحق في التعليم والرعاية الصحية والعمل والسكن وغيرها من الحقوق الأساسية، لا بنخب ورتت ريعا سياسا ومسؤوليات حساسة عن ظريق الانتماء العائلي أوالقبلي. إن الدولة الاجتماعية لن يُكتب لها وجود في غياب التكافل الاجتماعي الحقيقي بين أفراد المجتمع عبر برامج الحماية الاجتماعية للمواطنين الأكثر احتياجا لتقليص الفوارق الاجتماعية .
الأساس الاقتصادي: لن تتأتى عدالة الدولة الاجتماعية إلا بالتوزيع العادل الثروة والدخل، ليتمتع جميع المواطنين بمستوى معيشي مقبول، بغض النظر عن دخلهم أو وضعهم الاجتماعي. أما الرفاه الاجتماعي للمواطنين فيأتي بتوفير الخدمات العامة، مثل التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية والسعي الدؤوب لضمان التمتع بمستوى صحي جيد. كما تعمل الدولة الاجتماعية على تحقيق التنمية الاقتصادية بتوفير البنية التحتية اللازمة للأعمال التجارية، ودعم البحث والتطوير الهادف إلى تحقيق نمو اقتصادي مستدام، يوفر فرص عمل للجميع، ويحسن مستوى المعيشة للمواطنين بإعمال السياسات الرقابية لفرض قيود على بعض الأنشطة الاقتصادية مثل الاحتكارات والأنشطة الضارة بالبيئة وضمان المنافسة الشريفة والعادلة وتنظيم الأسواق من أجل حماية المستهلكين والفئات الهشة والفقيرة في المجتمع.
شروط تنزيل الدولة الاجتماعية
أكد دستور 20011 في “الفصل 31 على أن تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، على تعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة، من الحق في العلاج والعناية الصحية؛ والحماية الاجتماعية والتغطية الصحية، والتضامن التعاضدي أو المنظم من لدن الدولة؛ للحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة؛ والسكن اللائق؛ والشغل والدعم من طرف السلطات العمومية في البحث عن منصب شغل، أو في التشغيل الذاتي؛ والتنمية المستدامة.”
فمنذ دستور 2011 والدولة تحاول التأسيس للدولة الاجتماعية، ومنذ حينه يظهر التعثر وإكراه التنزيل مما يطرح مجموعة من التساؤلات حول الإشكال الحقيقي الذي يطبع الدولة في علاقتها بالمجتمع لأنها كانت دائما خارج السياق باعتمادها نارة على استجلاب أقليات للحكم، ما جعل المسؤولية الاجتماعية للدولة متعثرة وتارة، عبر مسؤولية الحاكم المسؤول عن رعيته. الشيء الذي يربك ويعقد الإطار الإجرائي للدولة الاجتماعية، لتصطدم بثقافة سياسية عتيقة وتقليدية ظاهرها حديث وعمقها موغل في السلف ،وفي تناقض تام مع مستجدات الحداثة والتحديث.
تصور ومقاربة تجعل المجتمع رهين للوصاية والرعاية، كالطفل الذي لم يُكمل بعد عملية النضج، إلى أن ابتُلي المجتمع بحدثين مهمين: جائحة كورونا وزلزال الحوز، جعل عقارب الساعة تدور من جديد ومنبه الفاجعة يوقظ الدولة من سباتها العميق ، ليُستجد النقاش حول الدولة الاجتماعية. كانت نقطة تحول في اتجاه تنزيل نظام حماية اجتماعية، يتكفل بالمواطنين. الشيئ الذي يضعنا أمام إشكالات حقيقية للفهم.
هل نحن أمام الدولة الراعية؟ أو الدولة الحاضنة؟ أو الدولة الحامية؟ أو الدولة الاجتماعية؟
إن الرهان على الدولة الاجتماعية هو رهان صعب يتطلب القطع مع البنيات التقليدية في السياسة والتفكير والثقافة والاقتصاد. وجعل المجتمع في قلب الفعل السياسي والاقتصادي . كفاعل بكل شرائحه ومكوناته وطاقاته.