الثورة من منظور هربرت ماركيوز
لوسات أنفو، ايوب داهي
هربرت ماركيوز فيلسوف و منظر سيكولوجي و عالم اجتماع و سياسي ألماني كان عضوا في الحزب الاشتراكي الديموقراطي, لكنه غادره بعد اغتيال روزا لوكسمبورغ و كارل ليبنخنت, و التحق بعد ذلك بجامعتي برلين و فرايبرج حيت درس مع مارتن هيديجر, و فيما بعد انضم الى معهد فرانكفورت للأبحاث الاجتماعية.
بعد وصول النازية للحكم توجه ماركيوز الى جنيف, حيث عمل بالتدريس لمدة سنة , ثم هاجر للولايات المتحدة الامريكية. و عمل من عام 1934 حتى عام 1940 في معهد الابحاث الاجتماعية الذي انتقل من فرانكفورت الى جامعة كولومبيا. كما مارس التدريس منذ عام 1967 بجامعة كاليفورنيا حيث اصبح أستاذا للفكر السياسي بمدينة سان ديجو الجامعية.
ما يهمنا بالخصوص, و ما سنحاول تسليط الضوء عليه هو عصارة النظريات السياسية لماركيوز, التي حققت شعبية واسعة في دوائر المثقفين و الطلاب في العالم الغربي, خصوصا نظريته حول دور الطبقات في انجاز المهام الثورية.
أظهر ماركيوز قدرة صريحة على دراسة المجتمع الرأسمالي الحديث, و ادراك ما هو جديد فيه, و قد اكتسبت نظرياته السياسية ذيوعا أكبر بعد صدور كتابه ” الانسان ذو البعد الواحد”. هذا العمل الذي ساعد الباحثين و الاكاديميين , من فهم اعمق لبعض من ظواهر الرأسمالية المعقدة و استخلاص اتجاهات جديدة تمكن من رؤية أوضح لشكل الثورة الاجتماعية القادمة و طبيعتها.
يعتبر كتاب ” الانسان ذو البعد الواحد” المرجع الرئيسي لفهم التفكير السياسي لماركيوز, حيث يشكل أحد أكثر العروض التي عالج فيها مسألة دور القوى الطبقية في الثورة الاجتماعية في العالم الغربي الصناعي.
يستند ماركيوز في تحليلاته الى التطورات البنيوية في اقتصاد الولايات المتحدة الامريكية, و يرى ان التقدم العلمي قد وفر زيادة هائلة في الكفاءة, و مستويات في العيش مرتفعة و متزايدة على الدوام , زادت من ثراء و قوة المجتمع , حيث شكلت الرأسمالية نظاما يقوم باخضاع كل قوى المعارضة و استيعاب كل الاتجاهات المناوئة لهذا النمط, و تلعب في هذا النظام وسائل الاعلام دورا محوريا في توجيه كل احتياجات الانسان المادية بل والتحكم الناعم في حريته نفسها, حيث تحولت وسائل الاعلام لمعامل لصناعة و تشكيل الرأي العام.
يقوم هذا المجتمع حسب ماركيوز على تحالف بين رأس المال الكبير و الطبقة العاملة, التي تم استلابها عبر الآلات الاعلامية, و تعرضت لغسيل دماغ جراء الوفرة النسبية و الدائمة للبضائع غير الاساسية التي تتمكن من شرائها. و هو الشيء الذي جعل من هذه الطبقة, طبقة مستلبة استحكمت فيها مخالب المجتمع الاستهلاكي و حولها الى طبقة فاسدة و مطبعة مع الوضع, و فاقدة لاتجاهها السياسي و روحها الثورية. بل بالعكس أصبحت طبقة ذاعنة, متقبلة للاستغلال و منافحة شرسة عن الوضع القائم.
لقد اندمجت في هذا النظام, كل المؤسسات السياسية و الاجتماعية, كما ان الحقوق الديموقراطية التي انتزعها الشعب بما في ذلك الاحزاب السياسية و النقابات دون استثناء الاحزاب الشيوعية قد التحقت بالركب و اصبحت جزءا من بنية هذا النظام. و لم تعد الطبقة العاملة و تعبيراتها السياسية و النقابية نقيضا لهذا المجتمع, بل غدت احد المتواطئين الرئيسيين.
يقول ماركيوز في كتابه الانسان ذو البعد الواحد ” ان التقدم التكنلوجي قد تحول الى نظام سيطرة و تمثيل, خالقا أشكالا جديدة من الحياة و السلطة يبدو انها توفق بين القوى المعارضة للنظام و تهزم كل احتجاج باسم الافق التاريخي للتحرر من الكدح و السيطرة, فيبدو ان المجتمع المعاصر أصبح قادرا على احتواء التغيير الاجتماعي وهذا أبرز انجاز للمجتمع الصناعي المتقدم.”
لازال ماركيوز يؤمن بأن الرأسمالية الحديثة تضم قطبين متناحرين هما البرجوازية و البروليتاريا, و انها الطبقتين الاساسيتين. غير أنه يزعم ان التطور الرأسمالي غير تركيب هاتين الطبقتين و وظيفتهما بحيث لم تعودا عاملين للتحول التاريخي. بل بالعكس ان مصلحة غالبة تنحو الى المحافظة على الوضع القائم و تحسينه و توحيد مصالح النقيضين في اكثر مناطق المجتمع المعاصر تقدما.
يعيش ماركيوز حالة من التذبذب طيلة الوقت, بين فرضية ان الرأسمالية الحديثة قادرة على احتواء التغيرات الاجتماعية في المستقبل المنظور و بين فرضية بروز قوى و اتجاهات جديدة قد تحطم امكانيات هذا الاحتواء و تفجر المجتمع. بل و في كثير من الاحيان يبدي ماركيوز رغبة جامحة في التخلص من هذا النظام, لكن افتقاره الشديد الى الثقة في الشعب, و رهبته الفعلية من النظام الذي يعيش تحت ظلاله و الذي يبدو واسع السعة و شامل القدرة يجعلانه يتشبث بفكرة المجتمع الحاضن للجميع. حيث يقول في كتابه” ان استقلال الفكر, و النزعة الاستقلالية و حق المعارضة السياسية, تحرم من وظيفتها النقدية الاساسية في مجتمع يبدو قادرا بشكل متزايد على اشباع احتياجات الافراد من خلال طريقة تنظيمه”.
و يضيف ” السمة المميزة للرأسمالية الحديثة هي خنقها للاحتياجات المطالبة بالتحرر, ففي ظل مجتمع الوفرة تتحول الحرية لأداة قوية للسيطرة”.
في النهاية يبدو غريبا ان يدعي ماركيوز انه ماركسي , ففي كتابه لا نجد الا تحذيرات على الدوام من الهزيمة امام نظام الرأسمالية الحديثة, و لا نجد دراسة حقيقية للصراع ضد النظام و اثاره. عكس الماركسية التي تعتبر ان الصراع الطبقي هو أحد أهم أسسها, و قد أكد ماركس و انجلز و لينين و غيرهم من مؤسسي العلم الماركسي دور الطبقة العاملة في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة, باعتبارها القوة الاجتماعية الحاسمة للقضاء على الرأسمالية و بناء الاشتراكية.