التمييز بين المسلمين خلافا لمبادئ الدين الاسلامي
إ.المجداوي بنصالح.
شهد المغرب منذ قرون، ظواهر اجتماعية عدة يصعب استيعابها أو تفسيرها! من بينها اضطهاد مغاربة مسلمون وينحدرون من آباء مسلمين لكن أحد أجدادهم كان من أصول يهودية، وأسلم فيما بعد لسبب أو لآخر! لعل هذا ما يفسر معاناة العديد من الأسر اليهودية التي أسلمت وبقيت تعاني من الميز والإقصاء، على الرغم من تناسل هذه الأسر عبر أجيال وترعرعها في بيئة إسلامية، كسائر مكونات المجتمع المسلم بالمغرب.
وإذا كان الفتح الاسلامي بالمغرب قد تميز بدرجة كبيرة من التسامح، الذي مكن لمعتنقي الديانات السماوية الأخرى أن يحتفظوا بمعتقداتهم، ويمارسوا شعائرهم الدينية بحرية ليست متوفرة حتى في المجتمعات الغربية، فإن بعض ولاة الأمر المغاربة خضعوا في بعض الأوقات لضغط من التيارات المحافظة، بل والمتطرفة في تأويلها للإسلام، وبهذا أداروا ظهورهم لمبادئ الدين الإسلامي السمحة، ومارسوا سياسة الاقصاء والميز تجاه من استظلوا بحماية المجتمع الإسلامي.
لعل الباحث في هذا الشأن سيجد أن التسامح الديني عرف تراجعا ملموسا طبعه تعصب على مستوى العامة واستهداف لليهود خاصة – ما عايناه سابقا- في عهد المرينين، مما جعل نفر كبير من اليهود أن يعتنقوا الاسلام كرها. لكن لا مراس في أنه خلال تاريخ المغرب الممتد لقرون، بادر نزر غير يسير من اليهود إلى الانضمام للدين الإسلامي عن طواعية وحرية اختيار، سواء اقتناعا منهم بالإسلام، أو رغبة منهم في تحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، فضلا عن التخلص من وضعية الذمة والتي بموجبها يتم حرمانهم من امتيازات كثيرة وتجعلهم رعايا من درجة ثانية.. وهو ما شاهدناه سابقا – في الأحداث التي طالت المجتمع الفاسي خلال عصر المرينيين، والتي من أبرزها اضطرار العديد من يهود فاس إلى الانضمام للدين الإسلامي على إثر اضطرابات وتجاوزات طالت يهود فاس الذين عرفوا فيما بعد ولقبوا ب “المهاجرين” لأنهم أسلموا كرها وبالتالي فإنهم -كما يقال- هجروا دين آبائهم وأسلافهم ذوي الأصول اليهودية وأسلموا.
منذ بداية العصر السعدي، أصبح هؤلاء المهاجرون، يلقبون بلقب آخر هو “البلديين”، ربما تمييزا لهم عن غير المحليين من الوافدين على الإسلام من يهود الأندلس، خاصة عقب سقوط الحكم الاسلامي بالأندلس وبالتالي لجوء العديد من مسلمي ويهود اسبانيا إلى المملكة المغربية. لكن ذهبت فئة أخرى في القول بأن سبب تسمية اليهود بالبلديين مرتبط بحومة “البليدة” بمدينة فاس، حيث كان يقيم اليهود منذ بداياتهم.. وهكذا استمر أهل فاس بنعت الإسلاميين أو المهاجرين ب”البلديين” على سبيل (اللمز والميز والسبة) وفقا لقول المؤرخ محمد حجي.
الميز العنصري يمس رابطة العلماء.. علماء “بلديون”:
لا مشاحة في أن العصر السعدي شهدانتشارا كبيرا لظاهرة الميز العنصري تجاه اليهود الذين أسلموا، وقد مس هذا الميز حتى رابطة العلماء المرموقين من ذوي الأصول اليهودية، إذ لم يكونوا يتولوا المناصب الشرعية السامية من قبيل القضاء والإفتاء والخطابة والإمامة، رغم علو كعبهم في المعرفة والعلم والدين والتدين. ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك “العالم أحمد المنجور” الذي تولى رياسة العلوم بفاس، بل وتقلد كراسي التدريس بجامعة القروين، وبالرغم من ذلك لم تكن له أطماع في تقلد منصب في الدولة رغم ما كان له من حظوة لدى بلاط المنصور السعدي، إذ كان السلطان أحمد المنصور يجل أحمد المنجور ويكن له التقدير والاحترام، بل ويقدمه على غيره، حتى أنه أراد أن يقدمه يوما للصلاة، فلما هم المنحور بدخول المحراب أوقفه القاضي الحميدي، فتدخل السلطان السعدي وقال له: 《دعه فقد قدمه علمه》، فأجاب الحميدي: 《إن قدمه علمه فقد أخره نسبه》.
جاء في كتاب للعالم محمد ميارة “نصيحة المغترين وكفاية المضطرين في التفريق بين المسلمين بما لم ينزله رب العالمين”، أن العديد من العلماء لم يتمكنوا من التعبير عن آرائهم خوفا من “إرهاب العامة”، وفي هذا الإطار يذكر كيف أن العامة قامت في أحد الفترات بتحطيم دكاكين التجار البلديين ونهب بضاعتهم مما دفع حاكم المدينة إلى أخد مشورة العلماء واستفتاءهم في الأمر، لكن 《معظمهم لاذ بالصمت أو أجاب بأجوبة مقتضبة لا تخلو من إبهام، مما يدل على خوفهم ممن دعاهم ميارة بهمج العوام》.
حري بالذكر أنه نبغ العديد من العلماء في مجال العلوم، لكن هم أيضا طالتهم تسمية البلديين، ومن أمثال هؤلاء هناك عبد القادر بن شقرون والطيب بنكيران شيخ الجماعة في عصره. وقد كان السلطان المولى سليمان على علاقة جيدة بهؤلاء العلماء لأنه نهل منهم وتعلم على عدد منهم، بل ومن شدة تقديره لأستاذه عبد القادر بن شقرون أصدر أوامره بدفنه في الضريح الإدريسي عند وفاته، بالرغم من معارضة الشرفاء الأدارسة. والدارس لهذا السياق سيجد اتهام المولى سليمان مرات عدة بتفضيله العلماء البلديين وفسحه المجال لهم للتقرب إليه.
يتبع…