بورتريه

ابتسامة في وجه العبث: بورتريه فلسفي لإميل سيوران

حين يصبح الوجود خطأً فلسفيًا

في ركنٍ معتم من مكتبة الفلسفة، حيث لا تصل أشعة الأمل بسهولة، يجلس إميل سيوران، متجهمًا كعادته، لا كراهب يبحث عن الخلاص، بل ككاهن للعدمية، يمارس طقوسه في تمجيد العبث واللاجدوى. هو فيلسوف لا يدعو إلى التغيير ولا إلى الثبات، بل إلى التأمل في العبث ذاته، كما لو كان هدف الفكر أن ينقض نفسه ويهوى في صمتٍ لا نهاية له.

ولد سيوران سنة 1911 في قرية رومانية صغيرة، وسط طبيعة بكر، لكنها لم تُغْره بالبراءة. منذ البداية، كان يحدّق في التشققات لا في الكمال. كتب بالفرنسية بعد أن تخلّى عن لغته الأم، تمامًا كما تخلّى عن الأوهام الكبرى: التاريخ، الدين، الثورة، وحتى الفلسفة نفسها. لم يكن سيوران فيلسوفًا تقليديًا، بل كاتبًا فلسفيًا أو شاعرًا بالنثر الأسود كما يحلو للبعض وصفه، حيث تتشابك الجمل المكثفة بالتأملات المرّة، في سطور كأنها صفعات خفيفة توقظ القارئ من سبات المعنى.

في قلب مشروعه الفلسفي يكمن الشك، لا بوصفه خطوة أولى نحو اليقين كما لدى ديكارت، بل كمسكنٍ دائم. سيوران لا يؤمن بالتقدم، ولا بالخلاص، ولا حتى بالمعاناة النبيلة. إنه ساخر رصين، لا يضحك، لكنه يسخر من كل شيء: من الله، من الوجود، من الإنسان، ومن الكتابة ذاتها. في كتابه الأشهر “مثالب الولادة” (De l’inconvénient d’être né)، يعبر عن قناعته العميقة بأن الوجود نفسه خطأ، وأن الولادة أول مأساة يرتكبها الإنسان دون أن يُستشار.

هذا الموقف لم يكن مجرد نزعة تشاؤمية رومانسية، بل فلسفة متكاملة تقف ضد النزعة الإنسانية بكل تمجيدها للكرامة والحرية والروح. سيوران لا يثق بالإنسان، يراه كائنًا مأزومًا، يعاني لا لأنه لم يحقق خلاصه، بل لأنه يوجد أصلاً. من هنا ينبع رفضه للأنظمة الشمولية، رغم أنه في شبابه اقترب من الفاشية، لكنه سرعان ما أدرك أن الحلم بالنظام ليس إلا شكلًا آخر من أشكال الهروب من العدم.

سيوران يشبه راهبًا عكسيًا: لا ينشد الصفاء، بل يتأمل الضجيج الداخلي ويُدوّنه. لا يعد بالخلاص، بل يعلّم كيف نحيا مع السقوط، دون محاولة النهوض. كتاباته ليست دعوة إلى الانتحار، بل إلى اعتراف أكثر شفافية بعبثية الحياة. وبهذا، فإن سيوران، على سوداويته، لا يخلو من لمسة تحريرية: من يقبل أن الحياة لا معنى لها، ربما يجد حرية لا يبلغها من يلهث وراء المعتقدات.

لقد كان مشروع سيوران الفكري موزعًا على عدد من الكتب التي لا تُقرأ كأنها تنظيرات، بل كأنها تأملات وجودية مكتوبة بشغف الألم، وحنين إلى اللاشيء. أول أعماله البارزة، “على قمم اليأس” (1934)، كتبه وهو لم يتجاوز الثالثة والعشرين، باللغة الرومانية، خلال نوبات أرق حادة. في هذا الكتاب، يصرخ سيوران ضد الوجود، ويُعرّي الانفعالات البشرية حتى التلاشي. إنه عمل مراهقة فكرية، لكنه يكشف منذ البداية عن طبيعته المتمردة: كل ما هو مؤسسي، أو منطقي، أو مقدّس، موضع شك وسخرية.

أما “رسالة في الانحلال” (Précis de décomposition)، الذي نشره بعد انتقاله إلى الكتابة بالفرنسية عام 1949، فقد شكّل لحظة فاصلة في مسيرته. لم يكن مجرد كتاب، بل إعلان استقلال عن كل يقين: الدين، الفلسفة، وحتى الذات نفسها. في هذا النص، يبدأ سيوران في صقل صوته الأدبي المميز، حيث تتجاور نبرات النبوة المنهارة مع نثر شعري، يفيض بالحسرة والتفكك، لكنه لا يخلو من فخامة خافتة. لقد وصفه أحد النقاد بأنه كتاب “يقطر شكًا، ويكتب بحد السكين”.

ثم جاء كتاب “سقوط في الزمن” (La Chute dans le temps)، ليعبّر عن قلق سيوران من الزمن باعتباره لعنة أكثر منه نعمة. ففي رؤيته، لم يكن الإنسان كائنًا زمنيًا بقدر ما هو ضحية للزمن. هذا الانغماس في الوعي بالوقت يُنتج عبئًا لا يُحتمل، ويدفع الفرد إلى الحافة التي يلتقي فيها العبث بالفناء.

أما كتابه الأشهر “مثالب الولادة” (De l’inconvénient d’être né)، فهو خلاصة ناضجة لذهنيته التشاؤمية. يتكوّن من شذرات قصيرة، لكنها مثل الطعنات: دقيقة، سريعة، ودامية. في هذا العمل، يطرح سيوران فكرته الأكثر رعبًا وبساطة في آن: الولادة خطأ، والعدم خيار أكثر اتساقًا. يكتب: “أفكر أحيانًا أن الإنسان خُلق ليبرّر فكرة الانتحار، لا أكثر.” هذا الكتاب لا يُقرأ لطلب السلوى، بل للغوص في أسفل قاع الوعي الإنساني، بلا أقنعة.

وفي “اعترافات وشتائم” (Aveux et anathèmes)، يواصل سيوران تحطيم كل مسلمات الفكر. لكنه هنا يبدو أكثر صفاءً، كأنه بلغ نوعًا من التصالح مع لا يقينه. الكلمات لا تُقصد لتفسير العالم، بل لتقريبه من الصمت. وكأن سيوران قد اختبر كل أنواع المعنى، ولم يبق له إلا الكتابة كتمرين على التلاشي البطيء.

في عصرٍ يضجّ بالتحفيز الزائف، وبالوصفات السريعة للسعادة، يبدو سيوران ككائن دخيل. لكنه ضروري. كمن يذكّرنا، بهدوء مرعب، أن الإنسان لا يحتاج دائمًا إلى أوهام كي يستمر، بل ربما يحتاج إلى مواجهة فراغ المعنى ذاته، واستخلاص نوع آخر من الصفاء: صفاء من لا ينتظر شيئًا.

إن سيوران ليس فيلسوفًا للمشاريع، بل للمساءلة. صوته الداخلي، المكسور كوتر كمان مهجور، يهمس للقارئ: “كن يقظًا، لا لأن الأمل قادم، بل لأن كل شيء قد ينقلب إلى لا شيء – وهذه هي حريتك الوحيدة.”

في زمنٍ يبحث فيه الجميع عن سبب للوجود، يأتي سيوران ليقول: لا تبحث، بل انظر في وجه العبث، وابتسم ابتسامة لا تحتقر الحياة، بل تفَهم هشاشتها. وفي ذلك الفهم، ربما، تكمن نكهة أخرى للنجاة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى