بورتريه

إرنست همنجواي… من المجد إلى الانتحار

عبد الإله إصباح

شكل همنجواي قفزة نوعية في مسار تطور الرواية الأمريكية من خلال اسلوبه البسيط في الحكي وفي بناء شخصياته وأبطاله. عالمه الروائي مستوحى من أسفاره ومغامراته كمراسل حربي لعدد من الصحف

روايته لمن ” لمن تقرع الأجراس ” تعكس أجواء الحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثينية القرن الماضي.لقد كان حاضرا في هذه الحرب ليس فقط كمراسل، وإنما ايضا كمغامر لا يرتاح إلا في أجواء الخطر وفي حدود التماس مع الموت. روح المغامرة لديه جعلته من عشاق الرهان على الخيل بما يحمله من مخاطر الإفلاس والبدء من الصفر. الكتابة لديه هم مؤرق، يحرص على يكتب يوميا بمثابرة وانضباط صارم. كلما كتب عدد من الصفحات يجازي نفسه بوجبة لذيذة مع نبيذ فاخر مرددا” لقد اشتغلت اليوم جيدا”

زار العديد من بلدان العالم، وبالطبع زار باريس التي كانت تستقطب العديد من المبدعات والمبدعين الأمريكيين. خلد تلك الزيارة في يومياته ” الوليمة المتنقلة ” وهي إحدى روائعه التي لا يمل المرء من إعادة قراءتها لأنها لا تكف عن الإمتاع والإبهار، يوميات حافلة ببهجة الحياة  ومتعة الكتابة ولذة الأكل والشرب في المطاعم البارسية الرائقة والأليفة. كما أنها تسلط أضواء على مجموعة من أصدقائه المبدعين عبر تسجيل حواراته معهم، ورسم بورتريهات عنهم تعكس جانبا من شخصياتهم وأمزجتهم

عاش فترة في كوبا، وعاشر الصيادين بهذه الجزيرة لأنه كان يعشق الصيد ويمارسه، إذ من خلاله يجدد علاقته بالمغامرة كنمط عيش، والبحر فضاء مثالي لهذه المغامرة بما انه محفوف بكل المخاطر. روايته  ” العجوز والبحر ” تحكي عن صياد كوبي يعقد العزم على صيد حوت كبير، تواجهه صعوبات وعراقيل ومخاطر متعددة، لكنه يتغلب عليها بعزيمته  و صبره ومثابرته. نجحت الرواية في نقل انفعالات الصياد المتأرجحة بين الياس والأمل، بين الاستسلام والصمود خلال رحلة الصيد الشاقة. وقد لاقت الرواية نجاحا كبيرا حيث تم بفضلها تتويج همنجواي بجائزة نوبل للآداب

حياته هذه الحافلة بالمغامرة، والأسفار  والزاخرة بالعلاقات النسائية و الانغماس اليومي في طقوس الكتابة،  والاستمتاع بالشرب  لم تمنعه من الرغبة في الانتحار رغم ما أدركه من نجاح  وما تذوقه من شهرة ومجد.

كتاب سيرته الذاتية انصرفوا في تفسير انتحاره بالاكتئاب الذي أصابه، ولم يكن له منه مهرب لأنه ورثه في جيناته من أبيه الذي عرف نفس المصير  عندما مات منتحرا. غير أن انتحار همنجواي لا يجد سببه فقط في العامل الوراثي. لعل مفهومه للحياة لعب دورا في ذلك، فهي كانت مقترنة لديه بالمغامرة والعيش على حدود الخطر. هذا النمط من الحياة بدا يفتقده عندما أخذ يتقدم في السن وبدأت الأمراض تتوالى عليه وتعوق رغبته في العيش كما ألف وتعود. يضاف إلى ذلك أن قدرته في التأليف صارت تتناقص ، ولم يعد قادرا على مواجهة بياض الورق، هو الذي كان ينتابه إحساس بالتيه والضياع عندما ينقطع عن الكتابة ليوم أو يومين، فمفارقة الالة الكاتبة هو بالنسبة إليه تبديد للوقت الثمين دون طائل. فأن يصبح عاجزا عن مواصلة حياته كما اعتاد، لهو في الحقيقة موت تدريجي لا يجب على مثله ان يتحمله، ولذك اختار أن يموت دفعة واحدة، مرة واحدة بطلقة من بندقية الصيد التي كانت بحوزته. ولعله كان مقتنعا أن الإنسان ينبغي أن يعيش الحياة التي يريد أو ينسحب منها دون اكتراث او تردد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى