بورتريه

إدريس كثير: حكيم بشارب نتشوي يعيش كما يفكر

هذا البورتريه،لم نرسمه للرجل عبثا أو تزلفا،بل هو  نتاج مسار فكري

حسن  أوزال

“إذا كان الفقدان بالنسبة لعامة الناس فقدانا للمال أو الجاه أو السلطة،فالفقدان الحقيقي بالنسبة لي هو فقدان العزلة:عزلة بلا اسم،لا يفقه معناها إلا شاعر كبير من عيار ريلكه أو فيلسوف تراجيدي من طراز نتشه.”حسن أوزال.

بينما كنتُ أبحثُ بين ثنايا كتب الصديق إدريس كثير،عما قد يُسعفني على شحذ الذهن و الاهتداء إلى فكرة أو تصور تمهيدي أستهلُّ به هذه الورقة،عثرتُ صدفة على كلمة خطَّها بيده ،في الصفحة الأولى من كتابه بعنوان :”نحو الفلسفة” الذي أهداني إياه يوم 3 ماي 2008 يقول فيها:”العزيز حسن أوزال،نلتقي في الترجمة و الحداثة و الفلسفة ،ونِعْمَ اللقاء،دُمتَ متألقا في تساؤلاتك”.

احتفاءا بهذه التجربة الإبداعية،اسمحوا لي إذن ،أن أتوقف مليا عند هذا البوح العفوي المؤثر،الذي يكاد يختصر كُلّيا علاقة صداقة فكرية جمعتني بالرجل لمدة طويلة ، إلى مدى ارتباكي و أنا أصوغ هذه العبارات؛وهو ارتباك ممزوج بنوع من الاندهاش،الذي لمَّ بي فجأة جراء ما توحي به الكلمة الرقيقة ،من معاني و ما تنطوي عليه من دلالات ثاوية ،لم تجعلني فحسب أستعيد ملاذ ذكريات قديمة ،بل أجبرتني كذلك، و دون عزم أو قرار مسبق على أن أفكر عميقا  في  طبيعة هذه العلاقة  وأن أتأمل بالفعل كيف جرى نسج خيوطها بعيدا عن القواعد المدرسية و بمنآى عن الأعراف الرسمية.ذلك أن هذا اللقاء الذي جمع بيننا في مجالات ثلاث بعينها و دون سواها ،لقاء ينطوي في حد ذاته على أكثر من سؤال .أولها لماذا الفلسفة بالضبط و ليس الشعر؟ ثانيها لم الترجمة بدل الرواية ؟ثالثها لم الحداثة لا القدامة؟

الحقيقة أن ثمة أشياء غريبة استفاقت بداخل كل واحد منا ،وتستدعي منا نوعا من اليقظة و الإنتباه .فعلى الرغم من أننا لم نتفق مسبقا على ترجمة نصوص بعينها ،كما لم نخطط سويا لسبر أغوار هذا الفكر الفلسفي أو ذاك  و لم نتواضع يوما على تبني هذا المنهج دون غيره،بالرغم من ذلك قلت ألفينا أنفسنا و يا للعجب وقد ترجمنا لنفس الفيلسوف و استهوتنا النصوص ذاتها (بدءا بالفلسفة اليونانية حتى المعاصرة):لقد أصدر إدريس كثير بمعية عز الدين الخطابي،كتابا لمشيل هار بعنوان فلسفة الجمال عام 2005 و صدر لي لنفس المؤلف كتاب حول التحليل النفسي عام 2007؛لنقل و الحالة هاته  أن ثمة قدرا ما يحكم هذه المعادلة ،إلا أنه قدر ينبعث بحسبي من الداخل أكثر مما يأتي من الخارج . وعلى أية حال فهذا الأمر ،غالبا ما يحصل، عند كل أولئك الذين لا يكترثون بالخلفية الخارجية للأشياء داركين أن ثمة قانونا يقبع في الأعماق .وهو قانون نصونه إبداعيا بالعزلة .عزلة قد تكبر أو تصغر حسب  مدى قدرة الأشخاص ،على التفرد بدواتهم ،و التمسك بجوّانيتهم لساعات طوال ،دونما حاجتهم لملاقاة أحد .

إنها العزلة التي لا تلقن في المدارس كما لاحظ نتشه و التي أسهب في الحديث عنها ألبير كامي و أطال في تمجيدها ريلكه داعيا كل مبدع إلى ضرورة احترامها باعتبارها رغبة .رغبة كفيلة لوحدها لا بأن تصلك بالآخرين حيثما يفشل المجتمع ،بل أيضا بأن تجعلك تتحسّن في صمت و تنمو ببطء كـ”السيبو ماتادور“،دون انتظار جزاء أو شكور.لكن من أجل ذلك ،يلزمك أن تُعوِّد نفسك على الصعب ،لأن كل ما يكون جميلا نادر و صعب المنال كما أكد سبينوزا في آخر سطر ختم به تحفته الإتيقا .في سياق هذا التنسيق  إذن ، جرى نسج خيوط هذه الصداقة-الرحلة،التي ولئن كان خلالها كل منا ينصت إلى نبض الحياة و يحاول أن ينمي حضوره في الكون فهو ما أن يغمض عينيه حتى يتفاجأ باللانهائي يقتحمه ،فيلاقيه بغيره تماما على نحو ما تلتقي الأنهار و تتقاطع الوديان ،قبل أن تصب كمجرى واحد في المحيطات و البحار.

قد يذهب  الظن بالبعض كما هو باد للعيان هنا ،إلى الإعتقاد بأننا على وثيرة واحدة أو ما شابه ؛ لكن الحقيقة أن لكل منا مجراه الخاص،وهو مجرى موسوم بطبيعة اللقاءات الفكرية ذاتها،التي ولئن كانت تدفع الناس للعزلة كما أسلفنا فهي تعمل سرا على توطيد الأواصر و عقد القرانات و العلاقات الأكثر صلابة و حميمية. هذا ما تأكدت منه عمليا،ليس مع اختمار الصداقة التي جمعتني بالرجل لأزيد من عقد من الزمن فحسب ،بل أيضا عندما أدرك كل منا أن ثمة اختلافا واضحا و تباينا صارخا بيننا ،سواء من حيث فهمنا للأشياء أو من حيث طريقة نظرتنا للوجود.ولعل أكبر شاهد على ما أسوقه هنا ،هو تصورنا للبلاغة الفلسفية مثلا؛علما أن صديقي الفيلسوف هو صاحب مؤلف بهذا العنوان،والصادر في الأردن عن عالم الكتب الحديث للنشر و التوزيع إربد-شارع الجامعة عام 2014.

كتاب بلاغة الفلسفة لادريس كثير

ولا بأس من الإشارة بالمناسبة إلى أن  إدريس كثير ،كان يتبنى موقفا خاصا في هذا الباب،موقف لم نكن نؤيده من جانبنا،فكتبنا عنه بحثا فكريا وضّحنا فيه أن المجاز و الإستعارة و التحسينات البلاغية كلها آليات تكاد تعرقل التفكير الفلسفي و تزج بنا في حبال الميتافزيقا.لكن لأعترف من جهة ثانية على أن الرجل ولئن أخطأ بنظري في عنونة الكتاب (لكل جواد كبوة)، فقد كان حصيفا في معظم ما خطه قلمه في هذا المؤلف،بدءا مما أبان عليه من جرأة على اجتراح مفاهيم فلسفية جديدة كل الجدة في الحقل العربي، من قبيل الجائحة أو الشر الجدري ،النايضة أو توس نيكوس ،الواعر أو الحريك ،الرداءة أو الميديوقراطيا ….إلى غيرها ،وصولا إلى ما تحلى به من إصرار  على الدفاع عن المحايثة باعتبارها المحك الحقيقي لكل فيلسوف.يجمع إدريس كثير،في الحقيقة بين خصال عدة،هي ما قد نوجزه في عبارة الإرادة الحسنة للفيلسوف المرح؛بحيث أن كل ما جرى لم يفسد للود قضية كما يقال ،ولم يستطع أن ينقص من قدر الحب السائد بيننا أكثر مما زاد صداقتنا صلابة و أضفى عليها رونقا.على هذا النحو.

 وفي خضم هذا الحوار الصامت ،لا أخفيكم سرا إن قلت لكم أنني كنت أقرأ أشياء رائعة للرجل،أسعفتني لا على أن أنمي قدراتي الفكرية فحسب بل  أيضا ،على  أن أتطور و أتحسن محافظا في الكتمان على هذا الوشاج الرفيع الذي مافتئ ومع مرور العمر يؤكد لي أنني بصحبة حكيم. حكيم لم أكن  أكتفي  بالإستفادة  مما يبدعه ،بل  عادة ما أجد نفسي مضطرا إلى أن  أوظفه  أيضا في تأملاتي منتشيا بمرح الإختلاف الذي إن كان إدريس أشدنا حرصا عليه،فذلك ليس إلا لأنه رجل يُقدِّر الصداقات و يصون عهدها ؛ إن لم أضف أنه ممن لا يتوانون لحظة واحدة على  الدفاع عنها  حتى النهاية و باستماتة لا تضاهى ؛و تلكم بنظري ميزة كبرى تحسب لهذا الرجل العاشق للحياة و المتخلص من كل ذحل أو حقد.بل هي لعمري وعلى حد تأويلات دولوز لنتشه ،إحدى السمات الأساسية التي لا محيد للفيلسوف عنها.لكن أليس ذلك هو أيضا ما مكَّنه من أن يمضي بعيدا على الرغم من أن كل شيء كان يتحرك ضده؟ أجل. سيما إذا علمنا على أن الرجل بشاربه النتشاوي هو من أدرك باكرا أنَّ ما لا يقتله يقويه ،و أن النجاحات لا يلوذ بها إلا اولئك الذين يقبلون بالإخفاقات .أولئك الذين يعرفون حقا أن العوز أساس الغنى و أن الفقر ثروة من لا ثروة له.

 بديهي إذن أن يغدو الفنان و الفيلسوف،كائنا  مكتفيا بذاته ،غير آبه بما يحُدّ من قواه لأنه لوحده عالم بأسره؛فيه و بداخله يَعثُر على كل ما هو بحاجة إليه.فكل ما يحققه من إنجازات إنما هو نابع من الأغوار،ونتاج بعد الأعماق،الذي بقدرما يكون غير خاضع للاستعجال بقدرما يكون نتاج ضرورة داخلية لا تكترث البتة بأي من الإكراهات الخارجية.هذا شأن صديقي الذي بقدرما عاش و مازال يعيش تجربة الفن على نحو ما تصورها ريلكه بقدرما يصر على الغوص  في رحلته نحو الخلود؛رحلة استطاع خلالها  أن يراكم العديد من الأعمال تأليفا و ترجمة،فنا و إبداعا،مما جعله يلوذ بحياة خارقة، أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها حياة بوهيمية،ارتحل فيها  الرجل شرقا و غربا،جنوبا و شمالا بين شتى المدن : وجدة و فاس ، الرباط وأصيلا،مراكش و بني ملال ،متقوقعا في عزلته منتشيا بحواسه ضد كل نزعة بارمنيدسية تجره إلى التبات.

لقد عاش صاحبي وهو الأجمل ؛عاش كما كتب،ففكر و تفلسف،مشهرا سيف صيرورته في وجه كل الأرتودوكسيات ؛غير آبه بيقينيات عصره التافهة ،متأملا في هدوء تحفة الكون العجيبة.و إن شئتم أن أرسم له بورتريها خاصا بمناسبة هذا التكريم المستحق،فسأقول دونما مزايدات: أولا إنه استثناء une excéption أكثر مما هو نموذج Modèle.ثانيا إنه يزخر بطاقة هائلة و قدرة فائقة على الإبداع و الكتابة ،مكنته من أن يكتب كما أكد لي ذات مرة حتى في البارات.ثالثا كونه ممن يفضلون إيروس عن طناطوس .رابعا إنه دائما ما يتفوق سواء في التحليل أو في التركيب.خامسا يستطيع أن يركز حالما تحدوه الرغبة على أي موضوع كان.سادسا يحظى في سياقات كثيرة بالقدرة على التصرف دونما تردد،لأنه يعرف معنى الكايروس .سابعا يتمتع بأريحية خاصة لا يستشعرها إلا من حالفه الحظ على معاشرته.ثامنا له الجرأة ،كل الجرأة على الإرتماء في فوهة الأحداث  بتعبير نتشه بلا أدنى تردد ،مجازفا و غير مبال.تاسعا ينم عن نزعة ديوجينية عز نظيرها ،جعلته يعيش حرا ،طليقا ،طيلة مسار بأكمله غير مكترث بأخلاق الجموع.عاشرا يتحلى بخصلة رواقية مكنته من أن يكون دائما  في مستوى  الأحداث .وعلاوة عن ذلك كله فهو يتميز أخيرا، بإصرار خاص على تحويل اللحظات التي تجمعه بالناس إلى لحظات فرح و متعة،حبور و غبطة.

حسن أوزال
الصورة للفنان أحمد بن اسماعيل

.لكن من الجدير بالذكر ،بعد هذا الوصف،أن نشير إلى أن هذا البورتريه،لم نرسمه للرجل عبثا أو تزلفا،بل هو  نتاج مسار فكري دأب هو نفسه على بناءه بجهده الخاص منذ أمد بعيد،وذلك بطبيعة الحال عبر المران الدؤوب و الإجتهاد المتواصل لا الكسل و الخمول.فهو جراء ما يتحلى به من خصوبة فكرية لم يكن يركز في حياته إلا على مسألة واحدة هي عمله الإبداعي و مشروعه الفكري،وثمة بالفعل يكمن الفرق بين المبدع و العامي.حيث أن الإنجاب بالنسبة للثاني إن كان ينحصر في الجنس و الإنسال ،لتكون الحصيلة بالنسبة إليه هي كائنات من لحم و دم لا غير،فهو بالنسبة للأول  يتجاوز ذلك بكثير.إنه خلق لإمكانات عيش جديدة و ذلك عبر ما يخطه بقلمه أو ريشته،فكره أو عقله،ليخلف وراءه تحفا فنية أرقى ما تكون من الذرية .تحف من حبر وورق،تسمو به عاليا،لأنها تفيد الآخر و تؤسس للمستقبل دون أن تزعج صاحبها أو تكلفه عناء مبتذلا.لكن لنضف من ناحية أخرى على أن هذه الخصوبة الفكرية لا بد لها أن تتقاطع عند الفيلسوف مع خصوبتين اثنتين لا يحظى بهما العامي بتاتا هما: الخصوبة العاطفية و الخصوبة الإرادية.

وإذا كان كل مبدع حقيقي،يتمتع بخصوبة عاطفية منقطعة النظير،فذلك ليس إلا لأنه كائن يستلذ بما يتقاسمه مع الآخرين،ويستمتع لمجرد شعوره بأنه أفاد أو أعطى و أغدق دونما انتظاره لأي جزاء أو شكور.ذلك أن من شيمه  أن يختبر قدرته على العطاء ،كما أن من طبعه السخاء خلافا للشحيح مثلا أو للطفل الذي يجهل معنى التقاسم و لا يعرف سوى أن يستلذ لوحده.لعل الإنسان الراقي و الحالة هاته هو من يتفادى نزعتين اثنتين:فهو بقدرما يكره أن يعيش لذاته  بقدرما يكره أن يعيش فقط لغيره.

أما خصوبة الإرادة فهي بقدرما تفترض في صاحبها أن يكون دائما  بحاجة للخلق و الإبداع،بقدرما تتطلب منه أن يحرص كل الحرص على ترك بصماته الفنية على وجه الكون،علما أن ذلك بطبيعة الحال هو ما لا يتأتى إلا بفضل العمل و الكد.ربما لذلك كان كبار المبدعين يشكلون استثناءا و سيظلون كذلك ،لما ينطوون عليه من هذه الخصال الثلاثة التي جعلتهم يخلدون في التاريخ كأيقونات ترفع من شأن الحياة مناهضة كل نزعة ارتكاسية .نقول هذا ونحن نعلم أن حتى الكلام كما أكدّ غاندي ذات مرة،هو فعل بوسعه أن يغير مجرى التاريخ،لكن شريطة أن نمنحه حيا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى