أيام السينما التي لا تنسى
لوسات أنفو
الإضافة الوحيدة التي عرفتها مراكش خلال العقد الأول من هذه الألفية، هي المركب السينمائي متعدد الشاشات . وازى ذلك انقراض عدد من القاعات المنتشرة في مختلف أحياء المدينة آخرها كانت سينما الريف مملكة بوليود بالمدينة الحمراء. المثير في الأمر هو أن المركب الجديد عندما شيّد اختير له مكان بعيد عن الأحياء الشعبية في قلب منطقة عامرة بالقصور الضخمة و الفيلات الراقية و الفنادق الفخمة . كما لو كانت بذلك تفتتح تاريخا جديدا للفرجة يتخلى عن قاعدته الشعبية .
في الماضي كانت أغلب القاعات السينمائية بالمدينة في قلب الأحياء التي يقطنها الشعب ، كانت مجالا لدهشة البسطاء من الناس المؤسس على القرب من ألفتهم . و كانت جزءا من حميمية وجودهم الاجتماعي . مثلا سينما الحمراء و الزهرة التي اغلقت منذ مدة غير يسيرة كانت في عمق المدينة العتيقة و سط مساكن الفئات الشعبية بعرصة الحوتة . و سينما غزالة التي تحولت إلى قيصارية بنفس الإسم كانت في قلب صخب حي درب ضبشي القريب من جامع الفنا و وسط دروبه . و سينما موريطانيا التي دارت بها الوقت، كانت بحي القصبة التاريخي ، و كذلك الأمر بالنسبة لسينما الأطلس و الريف و الفتح و غيرها …
كانت القاعات ممتزجة بالإيقاع اليومي للحياة العادية للإنسان البسيط ، و جزء لا ينفصل من وجدانه ، ومكون أساسي من سردياته . كانت تقيم في القرب مما هو أعمق و أقوى و أجمل من وجوده. و كان الذهاب إليها التزام منه مع الحياة و بحث دائم عن الأجمل فيها . بمعنى ما ، كانت القاعات السينمائية جزءا من أسلوب جمالي في الحياة يعتبر الفرجة حقا لا ينبغي التفريط فيه .
القاعات كذلك كانت موردا غنيا لخيال الناس . ملصقاتها الكبيرة المعلقة بجدران مختلف أحياء المدينة ، بالموقف ، بالرميلة ، بباب تغزاوت ، بالشارع الرئيسي بجليز قرب السوق الذي دمر هو الآخر ، كانت مصدر دهشة الناس و مثار انطلاق خيالهم . صور الأبطال الضخمة الموحية بانطلاق فصول طويلة من الأحداث المثيرة ، تدفعهم إلى تبادل قصص هذه الأفلام و إغراء بعضهم بمشاهدتها .
كانت القاعات تمنح حياة للسينما بين الناس . و كان ذلك سببا في تطوير خطاب مصاحب لها يقسم منتوجاتها إلى أجناس و يوفر مصطلحات واصفة و معايير نقدية لم تكن في حاجة لنقاد متخصصين لبلورتها . كان مصطلح ” الولد ” يغطي المدلول العام للبطولة ، و ” فيلم لامور ” يدل على جنس خاص من الأفلام هي الأفلام الرومانسية حيث قبلة واحدة في الشريط تكفي لإشعال حماس خيال لا حدود له . و ” فيلم الدّبزة أو الكراطي ” يدل على افلام بروسلي . ” و الكوبول ” لأفلام رعاة البقر . و ” الهندي ” للسينما الهندية ..
كانت كلمة ” أنتراكت ” ذات دلالة قوية يضرب مضمونها في عمق دمقرطة الفرجة . حيث يمكن دائما انتزاع الحق في مشاهدة منتصف السهرة بنصف السعر. كان كل شيء مهيأ حينها ليكون الفن و الفرح من نصيب الجميع .
لعبت القاعات السينمائية دورا ثقافيا مهما بمراكش . في المسرح مثلا ضمنت هذه القاعات حياة للأعمال المسرحية لعقود طويلة . فمنذ إحراق المسرح البلدي الذي كان متواجدا بجنان الحارثي سنة 1958 ، لم يكن لأبي الفنون من مأوى غير هذه القاعات التي احتضنت ألقه و قوته أيام مجده . كان لها أيضا دور لا ينكر في حياتنا الديمقراطية . ففيها صدح كبار الزعماء بخطب لا تنسى، في مناسبات و ظروف لها مدلول كبير في تاريخنا المعاصر .
عندما أغلقت هذه القاعات ، لم يكن الأمر يتعلق بإغلاق أمكنة يمكن أن تعوض بغيرها ، و لكن وبشكل محزن كان الأمر في عمقه يهم طي صفحة تاريخ جميل و أنيق ، هو تاريخ الأمل عوض اليأس ، و الفرح عوض البؤس ، و التعايش عوض الحقد.. كانت بموقعها القريب من حياة الناس و في قلب أحياء عيشهم تعين المكان الحميم للفن في نسيج وجودهم ، وتدل على أن الفرجة كانت مكسبا للجميع و ليست استثناء النخبة .. كانت تدل على زمن جميل كان الناس فيه قريبين من الفن لذلك ظلوا بعيدين عن الحقد و التزمت …