مذكرات

أنت مراكشي، أنت تركب البيكالة

بقلم مراكشي محب للدراجة

قبل زمن السي 90، هذه الجريمة المتحركة التي تقتل الهدوء و الأرواح، و تشحن الدروب و الشوارع بالموت و الجنون و التوتر، كانت البيكالة في مراكش علامة على أسلوب خاص في الحياة.

الدراجة في مدينة يوسف بن تاشفين ليست مجرد وسيلة للنقل، إنها أكثر من ذلك وأقرب إلى أن تكون سلوكا مراكشيا. سلوك يبثه أهل المدينة في فضاءات عيشهم المتجاورة، حيث الحرفيون و التجار البسطاء والتلاميذ يتحركون في قلبها بحميمية كما لو كانوا يتحركون في بيوتهم• يتنقلون بين أحيائها ودروبها كما لو كانوا يتنقلون بين غرف منازلهم•

 في حركة الدراجة أريحية متحررة من عنف السرعة، وتلقائية تليق ببساطة سكان تشكل الألفة لحمة جوارهم كما كان عليه الحال في مراكش العتيقة حيث لم تكن الجدران لتعزل الأهالي عن بعضهم البعض، بل تفتحهم على احترامهم المتبادل وتشاركهم الدائم في فن العيش بمرونة كافية تجعل الحياة ممتعة ومحتملة.

 تسيل الدراجات في الأزقة والدروب بدرجة مناسبة لضيقها، لاشيء يزعج فيها لذلك كانت الوسيلة الأكثر تكيفا مع طبع المراكشيين، فهي حركة أكثر من البطء وأقل من السرعة تجمع بين التأني والحزم. تنتقل في الأماكن المزدحمة بسلاسة المياه التي تخط لنفسها مجرى بين الأحجار المتكدسة.

 أصحاب السيارات يتأففون من كثرة الدراجات الهوائية بطرقات مراكش وشوارعها، ويعلنون انزعاجهم منها لأنها تضايقهم في طريق يضيق بهم أصلا، في الحقيقة العكس هو الصحيح، لأن المدينة الحمراء لم تكن أبدا للسيارات أو الشاحنات، دروبها وطرقاتها خطتها الدواب وخطوات المشاة من الناس، ولهذا السبب فالدراجات تتمتع بوجود حميم داخلها لأنها تبدو كامتداد آلي للحصان والجمل، خلافا تماما للسيارات والشاحنات التي تظهر حضورا عنيفا يمزق هدنة مكان بناه التاريخ بتأن.

 فالسيارات تحول الطرقات إلى ساحة للتنافس الشرس، للاتسامح و القسوة والسرعة التي قال عنها كونديرا أنها مرادفة للنسيان في حين أن البطء مرادف للذاكرة.

 عندما حل الإسباني خيسوس غريوس بمراكش واختار العيش بحي القصبة كان يحتكم لسيارة 4/4 محترمة، وبعد استئناسه بالمدينة لفترة قليلة استنتج أن سيارته تشكل نشازا حقيقيا داخلها، فاقتنى دراجة نارية للتنقل إلى جليز أو الداوديات، بعد ذلك اقتنى دراجة هوائية للتحرك بين ” حومات” و دروب المدينة العتيقة، محتفظا بالسيارة للأسفار الطويلة أو لجولاته في محيط مراكش.

“فزيادة على طابعها الاقتصادي ـ يقول خيسوس ـ تمثل الدراجة الهوائية احتراما أنيقا لهيبة مدينة تاريخية كمراكش وسكونها، فهي غير ملوثة وغير مزعجة وتنطوي على انسجام فائق مع طبيعة المدينة كالبساطة والخفة والمرونة والهدوء، عكس السيارة التي تظهر فظاظة حقيقية من خلال تواجدها بالممرات العتيقة والطرقات الضيقة للمدينة وهي في ذلك أشبه بكيان صلب يخترق شرايين الجسم ويمزق انسجامها وتماسكها ” فرض استواء مراكش وانبساطها إقبال السكان بكثرة على استعمال الدراجات الهوائية•

 ربما القرار في ذلك يعود إلى يوسف بن تاشفين الذي اختار أن يبني مدينته فوق أرض منبسطة• يذكر المراكشيون جيدا ” دونيس ماسون ” المستشرقة الفرنسية التي أقامت بمراكش عقودا طويلة منذ أيام شبابها إلى أن فارقت الحياة سنة 1994 حيث عكفت برياضها بباب دكالة على دراسة الثقافة العربية الإسلامية وترجمة معاني القرآن بتصديق من جامع الأزهر• يذكرون وفاءها للدراجة الهوائية التي كانت تمتطيها للتحرك بالمدينة ولقضاء أغراضها ، دراجة سوداء بهيكل حديدي متين مازالت معروضة إلى اليوم في مدخل رياضها بدرب زمران الذي تحول إلى مؤسسة ثقافية تابعة لوزارة الخارجية الفرنسية.

 البشكليت اسم يغطي فرحة خاصة بأطفال المدينة العتيقة، في الستينات والسبعينات بل إلى حدود السنوات الأولى من الثمانينات كان بعض “السيكليسات” يقومون بكراء الدراجات ب 10سنتيمات، فكان الأطفال يقبلون على كرائها بشراهة وخاصة في أيام العيد كنوع من الاحتفال و الفرح. كان بامهاود أحد أشهر هؤلاء السيكليسات بباب تغزاوت الذي يعرف إقبالا كبيرا.

 اليوم اختفت هذه الظاهرة وانتقلت إلى الأحياء السياحية بين الفنادق حيث انتشرت وكالات كراء الدراجات الهوائية للسياح الأجانب بأسعار باهظة!!

للدراجات ارتباط خاص بالنساء بمراكش، في الخمسينات والستينات كان بعض النسوة يمتطين البسيكليت بلباسهن التقليدي الجلباب و القب، منهن تلميذات ومعلمات وممرضات ومستخدمات، لكن ذاكرة المراكشيين تقول إن النساء الأوائل اللائي استعملن الدراجة الهوائية بمراكش هن اللائي كن يشتغلن كخادمات ببيوت المعمرين في فترة الحماية، الاسم الذي كان يطلق عليهن حينها هو الكارسونات.

تبلغ درجة الألفة بين المراكشي ودراجته حدا يغدو فيه متماهيا معها كما لو كانت جزءا حيا منه• كما يؤكد ذلك سي أحمد في وصفه لعلاقته بدراجته: أشعر أن الدورة الدموية التي تجري في عروقي تمتد إلى دراجتي وتجري في أجزائها• إنها شيء ينتمي إلى كياني الخاص ولا يمكنني التخلي عنه.

أحد سكان سيدي عبد العزيز بالمدينة العتيقة مشهورا باصطحابه الدائم لدراجته الهوائية التي لم يركبها قط، لكنه يصحبها معه في كل تحركاته، يمشي على رجليه ويده تدفع البسيكليت كما لو كانت رفيقته في الحياة ذلك طبعا من فرط عشقه لها.

 لايتعلق استعمال الدراجة الهوائية بمراكش العتيقة بالفقر أو الغنى، بالإشباع أو الحرمان، طبعا هناك من يستعملها مرغما في انتظار اقتناء دراجة نارية، لكن هناك من يستعملها عشقا وتفضيلا رغم يسر إمكانياته، إنها بالنسبة إليه ليست مجرد وسيلة مؤقتة في انتظار إيجاد أحسن منها ( سيارة أو دراجة نارية ) و إنما اختيارا لأسلوب الحياة الذي توفره، وللعلاقة التي تربطها بالطريق العام الذي يصبح معها مجالا للتأمل المتأني والانتشاء واللقاء، إنها علامة أخرى لمراكش مدينة الشمس والحلم والبشكليت• أنت مراكشي، إذن  أنت تركب البيكالة..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى