أمينة رشيد: أمجاد السينما و المسرح التي لن تتكرر

 

إ.م.بنصالح

تبدو كئيبة للغاية سينما رويال بالعاصمة الرباط، المحاذية لنزهة حسان والمدينة العتيقة، فأبوابها موصدة، وبهوها الفسيح حزين، يحفه الصمت من كل مكان، إلا من صور باهتة لأفلام قديمة في غاية الأفول. بالأمس القريب كان هذا الفضاء، الذي يوصلك إلى المسرح الوطني محمد الخامس ووزارة الثقافة والمعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي، وكأنه مركب رياضي عشاقه يدخلون من كل حدب و صوب،فرادى وجماعات،ورواده مبتهجون فرحون، كل الداخلين في انتظار اللقطة الأولى من الفيلم الجديد. من هذا المكان مر كثير من نجوم السينما المغربية والعربية، حيث وجدوا فيها متعة لا تعد لها متعة، وانتشاء بسحر السينما منقطع النظير. حميدو بن مسعود،الهاشمي بنعمر،حسن الجندي،عزيز موهوب،محمد الجم،نزهة الركراكي،ثريا جبران،مليكة العماري،حبيبة المذكوري،و الكبيرة أمينة رشيد، التي تتصدر ذكراها  كوكبة كبيرة من نجوم السينما المغربية الذين مروا من هنا،وجدوا في سينما رويال والمسرح الوطني و الإذاعة نخوة التمثيل، لأفلام لا تزال موشومة في الذاكرة المغربية… أمينة رشيد مرآة أمجاد التمثيل الصقيلة..

الإذاعة الوطنية و المسرح الوطني… نبع الشغف الأول

لا تزال الإذاعة الوطنية والمسرح الوطني، يحتفظان بكثير من العشق اللامحدود، لأفلام ومسرحيات رفعت بالمشهد السينمائي المغربي في سماء النجوم. ومن خلف أبواب الإذاعة الوطنية والمسرح، كانت الراحلة أمينة رشيد تشق طريقها بحماس وولع شديدين، مؤمنة بأن مستقبلها سيكون مع المسرح والسينما بأي ثمن، فتحدت بذلك الأعراف والتقاليد، في ذاك الوقت الذي كانت فيه مهنة التمثيلحكرا على الذكور فقط، والذين كانوا يقومون بأداء أدوار النساء. وبعد 83 سنة قضت معظمها في عالم الفن، نزلت عن خشبة المسرح للمرة الأخيرة، وترجلت عن صهوة الحياة، تاركة وراءها رقما قياسيا من التمثيليات خلال مسيرتها الفنية الحافلة الممتدة لستة عقود، حوالي 3500 عمل فنيتنوع ما بين،الإذاعي والتلفزي والمسرحي و السينمائي.

لالة حبي.. لقب ابنة الرباط

لالة حبي، عنوان الفيلم الذي أصبح لقبا ثانيا للراحلة جميلة بنعمر، المعروفة بلقبها الفني الأول أمينة رشيد.ابنة الرباط، التي أبصرت فيها النورفي الحادي عشر أبريل سنة 1936، في واحد من أحياء العاصمة الراقية حيث تقيم الأسر الرباطية العريقة، إذ تعتبر الراحلة رباطية اصيلة، فهناك ازدادت وتربت أمينة رشيد أو جميلة بنعمرعلى التقاليد والضوابط الصارمة والراقية لحياة سكان الحاضرة الرباطية، وهو ما يميزها عن باقي الممثلات من جيلها الذين شكلوا الرعيل الأول من مؤسسي السينما والمسرح بالمغرب، حيث ينحدر أغلبهن من أوساط اجتماعية متواضعة. فوالدة أمينة رشيد سليلة أسرة فاسية عريقة وابنة قاضي القضاة بالرباط ،أما والدها فقد كان رجل أعمال ينحدر هو الأخر من أسرة بنعمر الرباطية العريقة والمحافظة، وقد جعل هذا المحيط الاجتماعي المحافظ، من البداية الأولى لأمينة رشيد في دروب الفن صعبة للغاية، بحيث كان والدها يحرم عليها الخروج من بيت الأسرة دون مرافق، أو دون ارتداء اللباس التقليدي الذي كان سائدا حينها ألا و هو النكاب.

البداية الأولى… لقاء رفيق الدرب

تعود بدايات الراحلة أمينة رشيد، إلى أوائل عقد الخمسينيات من القرن الماضي، وتجسدت انطلاقاتها الفنية الأولى من خلال عمل إذاعي، بعنوان (نخليوهم فقهوتهم)، وتحديدا في الإذاعة الوطنية، كانت أنذاك أمينة رشيد في سن الرابع عشر، حيث نظمت مدارس محمد الخامس،زيارة مدرسية إلى مقر الإذاعة الوطنية وتحديدا فرقة المسرح،تشرف عليها أستاذة الراحلة، الفنانة حبيبة المذكوري، وكان الجميع حينئذ يرتدين النقاب وفقا للتقاليد والأعراف السائدة وقتها.

وبمقر الإذاعة الوطنية،اكتشفت موهبة أمينة رشيد الفذة، من طرف رئيس الفرقة المسرحية، الذي سيصبح فيما بعد رفيق دربها، عبد اللهشقرون.تقول الراحلة في واحد من استجواباتها الصحفية:(يومها قام رئيس الفرقة المسرحية عبد الله شقرون بإعطائي دورا لإلقائه، وكانوا حينها يتدربون على مسرحية إذاعية عنوانها “نخليوهم فقهوتهم”، وأذكر كيف صحح لي الأستاذ شقرون نطقي لحرف القاف الذي كنت أنطقه ألفا، وهو ما حرص عليه حين كان يدرسنا قواعد النطق والنحو في سبورة معلقة على الحائط إلى جانب الأداءالمسرحي).حينها فكرت طويلا في كيفية إخبار والداي بعزمي على الالتحاق بالإذاعة الوطنية، كنت خائفة جدا، وقمت بالتمهيد للأمر، بقراءة بعض القرآن أمامهم، كي يفرح أبي لحظة دخوله، وهو يشاهدني أتلو القرآن، حينها قلت له، إنني سوف ألتحق بالإذاعة الوطنية للتدرب على فن المسرح، فقال لي: موافق لكن شريطة أن يكون معك مرافق من أحد إخوانك.وبعد هذه اللحظات بدأت أمينة رشيد خطواتها الأولى في مسيرتها الفنية التي امتدت ستة عقود كاملة، أثمرت عنها علاقة حب استثنائية، وأعمال فنية خالدة لا تعد ولا تحصى، أدت خلالها الراحلة روائع المسرح العالمي، من أعمال لشكسبير وموليير وغيرهم.

جميلة و شقرون…قصة حب جميلة

بعد اعتلائها سلم الفن، تحولت علاقتها بأستاذها الأول ورئيس فرقة المسرح إلى علاقة حب جميلة مع عبد الله شقرون، الذي كان مخرجا ومنتجا في الإذاعة المعروفة وقتها ب”راديو ماروك”، لم تكن تعلم جميلة بنعمر حين ولجت باب الإذاعة الوطنية، أنه خلف أبواب الإذاعة، مخبأ لها قصة حب استثنائية، ستتكلل بزواج طويل الأمد، زواج اعتبره الكثيرون من جيلها،نهاية مبكرة لمسارها الفني، لكن شقرون المخرج المثقف، لم يعارض يوما على مواصلة رحلة جميلة بنعمر في عالم التمثيل والفن.

وفي هذا السياق قالت عنه الراحلة في أحد تصريحاتها الاعلامية: (هو أستاذي ومن علمني ومن أوصلني، ولولاه لم أكن لأجلس أمامك الآن، الفضل كله يعود إليه، وقد تربيت على يديه، فهو من علمني وأرشدني إلى الطريق، ولقنني درسا في كيف أتحدث دون أن أجرح الناس لأنني صريحة جدا.).

استمرت علاقة أمينة رشيد بشقرون قرابة ستة عقود، أثمر عنها ثلاثة أبناء،رجلا أعمال و طبيبة، وكلهم جعلوا من أمينة جدة لطيفة، إذ منحوها أحفادا وحفيدات شملتهم بعنايتها الدائمة، مثل عنايتها الفارطة مع أبنائها تماما،فبالرغم من التزاماتها المهنية والاجتماعية، ظلت أمينة رشيد الأم والجدة صارمة في ملاءمة برنامجها العملي مع حاجيات أبنائها في البيت و المدرسة دونما هوادة أو تغافل.

ألف زوجها المخرج عبد الله شقرون، سيرة زوجته في كتاب، حمل عنوان “أمينة رشيد..ممثلة في الإذاعة والمسرح والتلفزيون والسينما” وثق من خلاله التجربة الفنية التي راكمتها كريمته في مجال التمثيل الإذاعي والمسرحي والتلفزيوني والسينمائي على امتداد ستة عقود، وقد تضمن الكتاب العديد من الصور التي تؤرخ لمحطات أساسية في مسيرة الممثلة الطويلة، كما تضمن شهادات في حقها بأقلام شخصيات فنية معروفة.

وفي نحو الساعة التاسعة والنصف ليلا،بعدما تناول الزوجان وجبة العشاء متبادلان أطراف الحديث، باغت الموت فجأة عبد الله شقرون.رحل شقرون قبل أمينة بسنتين،ففي أواخر سنة 2017، ترجل الزوج عن صهوة الحياة، ملبيا نداء الرفيق الأعلى، تاركا رفيقة دربه مكلومة مقهورة. وقد نعته لحظة وفاته بكلمات ومشاعر منكسرة للغاية: ( أنا اليوم لم أفقد زوجي فقط، بل فقدت كل شيء، اتألم بشدة، وأنا في اقصى درجات الألم، لم أعد أقوى على التنفس حتى، قلبي محطم و جسدي منهك، وكأن تعب السنين ترامى علي في لحظة واحدة، عشت مع عبد الله شقرون أفضل أيام حياتي، و لا أظن الحياة بعده ستكون حياة).

لالة حبي… والأدوار المتنوعة في التشخيص

تقول أمينة رشيد عن فيلمها (هذا الفيلم أعطى انطلاقة للسينما المغربية بعدما ماتت، ولقي نجاحا منقطع النظير، حتى إنني كنت أدخل إلى قاعات السينما متنكرة وأجلس لأراقب الجمهور،فألاحظ وجود أناس متأنقين، وآخرين متواضعين، وأشخاصا فوق الستين من العمر، وشبانا وأطفالا، وكلهم معجبين بهذا الفيلم.

حقق الفيلم المذكور لمخرجه محمد عبد الرحمان التازي انتشارا كبيرا سواءفي قاعات السينما أو بعد عرضه على شاشات التلفاز سنة 1996، الذي شاركها فيه دور البطولة الراحل العملاق حميدو بن مسعود ويعتبر في حقيقة الأمر جزءا ثانيا لفيلم سابق حقق نجاحا كبيرا هو الأخر سنة 1993،عنوانه (البحث عن زوج امرأتي) لنفس المخرج أيضا، وقد شاركها البطولة الراحل حديثا البشير سكيرج.

أما انطلاقة مسيرة أمينة رشيد في عالم السينما بدأت سنة 1955، بفيلم يحمل عنوان(طبيب بالعافية) المقتبس عن رواية لموليير بعنوان(طبيب رغما عنه)ويعتبر عملا سينمائيا من إخراج الفرنسي جاك هنري، وهو إنتاج مشترك فرنسي مغربي ومصريجرى تصويرهبإحدى المواقع التاريخيةفي العاصمة الرباط،يومها خاضت أمينة رشيد تجربة التمثيل إلى جانب ممثلين مصريين كبار، هم كمال الشناوي، أميرة أمير ومحمد التابعي، ثم ممثلين مغاربة هم البشير سكيرج الطيب الصديقي والعربي الدغمي وغيرهم.

وهكذا تعاقبت أعمالها السينمائية التي كانت تؤدي فيها أدوارا متميزة اشتهرت لدى المغاربة، منها فيلم (زينب..زهرة أغمات)للمخرجة فريدة بورقية،و(سارق الأحلام) لحكيم النوري و(مصير امرأة) لنفس المخرج،وفيلم(فيها الملح و السكر وما بغاتش تموت) لحكيم النوري أيضا، والعديد من الأفلام ك (أيادي خشنة) لمحمد العسلي2011، و(قصة وردة) لمجيد الرشيش2000، (ملائكة الشيطان) لأحمد بولان و(القلوب المحترقة) لأحمد المعنوني2007، و (وداعا أمهات) لمحمد اسماعيل2008، وغيرهم،إضافة للعديد من المسلسلات، أشهرها، سلسلة (رحيمو) و(العوني) و(السيدة الحرة) و (كيد النسا)،و (هنية ومبارك و مسعود)، وغيرهم.

المرأة المتسلطة…شخصية الحماة

عرفت الراحلة بشخصية تكاد تكون متكررة في معظم أعمالها، فقد ارتبط اسمها الفني عند كثير من المغاربة، بدور الحماة المتسلطة والصعبة الطباع، وهو دور أوكله إليها العديد من المخرجين في الأعمال التلفزيونية والسينمائية.إلا أن أمينة رشيدمرارا ما أكدت أن هذا الدور لا يطابق حياتها اليومية داخل أسرتها ومحيطها العائلي،وبالرغم من أنها لعبت أدوارا غيره الكثير، تنوعت بين الفكاهة والدراما، غير أنها ظلت وفية ومحافظة لدور المرأة القوية الشخصية والمهابة الجانب بكثير من الوقار والنخوة، خاصة باعتبارها امرأة رباطية متشبثة بتقاليدها ولهجتها الأصيلة.

التكريمات.. توشيح بالوسام الملكي

وشح الملك محمد السادس، أمينة رشيد في صيف 2006، بوسام يعد من بين أعلى ما يمنح للشخصيات والرموز الوطنية، وهو وسام العرش من درجة قائد،ناهيك عن سلسلة طويلة من التكريمات، ففي سنة 2001 حظيت الراحلة بتكريم في المهرجان الوطني للسينما،وفي 2003 كرمت في المهرجان الدولي للفيلم بمراكش،وكذلك كرمت في الدورة الحادي عشر للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة سنة 2010 ، إضافة لمهرجان مراكش للضحك سنة 2015، وآخر تكريم حظيت به أمينة رشيد قبل شهر فقط من رحيلها،في صيف 2019 الثالث والعشرون يوليوز،وذلك ضمن فعاليات مهرجان سينما الشاطئ (سيني بلاج) بالهرهورة في الرباط.

لالة حبي..ترحل لدار البقاء

اعتلى هذا العنوان، جل الصحف المغربية و العربية في اليوم الموالي لوفاتها،صبيحة الإثنين 26 غشت 2019،وقد نعى وقتها الملك محمد السادس سيدة الشاشة المغربية ببرقية تعزية وجهها إلى أسرتها، وقد استحضرت التعزية الملكية الخصال الفاضلة التي كانت تتحلى بها الفقيدة كإنسانة وكفنانة،حيث ورد فيها بقلم جلالته: [ستظل رحمها الله خالدة في الذاكرة المغربية، باعتبارها من الفنانين الرواد،وعلما من أعلام المسرح و السينما والتلفزيون،لما قدمته طوال مسيرتها الفنية والإبداعية الحافلة بالعطاء من أعمال خالدة،نالت كل الإعجاب والتقدير،فضلا عما كانت معروفة به من غيرة وطنية،وولاء وإخلاص للعرش العلوي المجيد].

قبل العصر، انطلق موكب رسمي من منزل الراحلةصوب مقبرة الرحمة،وسط حزن عميق ودموع منهمرة من أفراد اسرتها وأصدقائها الفنانين، ممن عاشوا معها لحظات فنية لسنوات طويلة.داخل مقبرة الرحمة بالدار البيضاء،كانت الحشود غفيرة،بحيث حضر الطيفين معا، الشعبي والرسمي،فشيعها المواطنين والفنانين والوزراء والمسؤولين الحكوميين والمنتخبين والجنرالات ورجال الأعمال،الكل حضر لتوديع الراحلة. أدوا عليها صلاة الجنازة بمسجد المقبرة،قبل أن يتم نقلها إلى مثواها الأخير.

بإخلاصها وتفانيها في العمل،خطت الراحلة اسمها في سجل الخالدين من فناني المغرب،رحلت وهي مؤمنة بأن قيمة الإنسان تكمن في أخلاقه ولا تقاس بما يملكه من أموال وانتماء أسري،وبأنه لا قيمة للشهرة إن لم تكن سلوكا وأخلاق وتصرفات إنسانية،ترضي بها خالقك،وتكسبك محبة الغير.

كانت هذه الكلمات،اخر تصريحات الراحلة،حول مسيرتها التي امتدت لعقود لم يفتر خلالها نشاطها ولا حضورها،بل لم يزدها التقدم في السن إلا تألقا ونخوة،سواء في المسرح أو السينما أو التلفزيون أو عبر الأثير،لتبقى أعمالها شاهدة على أنها من فنانات الزمن الجميل وأيقونة الشاشة المغربية.