أقطف نهاري وأمضي… عبد الصمد الكباص يتذكر
عبد الصمد الكباص
“الصدق أن تصمت إلى الأبد” كانت صديقتي تفتح نصوصها المنشورة في بيان اليوم الثقافي بهذه العبارة. حينها كنت أتلمس طريقي لأكون شاعرا منذورا للفشل والإفلاس. خابت القصيدة بين يدي فتركتها تسقط. نشرتُ معها نصوصا مشتركة. وقرأت عليها أخرى ب”البارك” على الكراسي.
كنا نتأخر في غفوة الشعر والحب تحت الأشجار الباسقة الى أن يقطر علينا القمر وتطردنا النجوم. أدركت صديقتي أن للصدق مرادفا هو الصمت.
فاتح غشت. أستيقظ في الخامسة صباحا لاستقبال دياندرا بمحطة الستيام الجديدة. لم أنم جيدا الليلة بفعل الحرارة والكوابيس المريعة. أخرج في السادسة وأتوجه الى المحطة.
أنتظر كثيرا. أسأل أحد العمال عن الحافلة القادمة من أرفود، يخبرني أنه لا حافلة آتية من هناك. ربما من فاس يقول.
تتصل دياندرا تخبرني أن الحافلة على مشارف المحطة، أدخل الى صالة الانتظار أتفحص الوجوه دون جدوى، أهاتفها، لتقول لي إنها بالباب، لم أجد هناك امرأة جديرٌ جسمها بأن يكون نورفيجيا. فعاودت الاتصال . فهمت للتو أنها توجد بالمحطة الطرقية لباب دكالة.ساعدني حفيظ في الحصول على غرفة لإقامتها. تناولنا فطورنا بالميلينيوم. جسمها جميل أكثر من اللازم الى حد لا يحتمل. تفيض من عينيها زرقة صافية.
قالت ان جدها النورفيجي ،رحالة عالمي مشهور وصل الى مدينة آسفي وكتبت عنه سيدة تسمى عائشة كتابا، وأمها فرنسية، وهي إسبانية، تذكرت أوسلو أيام كنت أخطط للوصول إليها. وطلب اللجوء السياسي بها كجزائري مزيف.
في نهاية التسعينات زارنا بمراكش الكاتب العراقي وليد.حصل على الجنسية النورفيجية وأقام بها وتفرغ لأبحاثه في الدين.
صادف مقامه بالمغرب صدور عدد جديد من مجلة “فكر ونقد” يحمل نصا فلسفيا أنجزته بعنوان “الزمن الأيقوني” قرأه فأعجب به كثيرا.
وطلب مني نصا آخر.
فمددته بنقد الفكر التشميلي الذي صدر في عدد سابق من نفس المجلة.
حدثني كثيرا عن أجواء “أوسلو” الثقافية وعن جدية العمل الفكري هناك، وعن القيمة التي تكنها الدولة للكتاب والاعتبار الذي يوليه المجتمع لهم.
صمت وليد الكبيسي قليلا قبل أن يوجه إليَّ هذه العبارة “أحسن لك هناك.ستكتشف حقيقة أن تكون كاتبا. ستفكر بشكل أقوى وستكتب نصوصا فلسفية أعمق.”
في اليوم الموالي قاطعني قائلا “لو كنت عراقيا أو جزائريا لحصلت على اللجوء بالنورفيج.لكن بالنسبة للمغرب مستحيل لأنه بلد أكثر انفتاحا في السنوات الاخيرة. وسمعته تحسنت دوليا.”
“صمت ثم استأنف “هناك طريقة اعتمدها بعض الاصدقاء ونجحوا فيها. ستأخذ الطائرة المتجهة الى روسيا التي لها محطة عبور بأوسلو.ستدمر أوراقك ولن تغادر رفقة الطائرة. وتطلب لقاء المسؤولين لتخبرهم أنك جزائري هارب من الحرب الاهلية تطلب اللجوء. عليك أن تكون دقيقا. تحدث الفرنسية بلكنة جزائرية.وتدرب جيدا على لهجة الجزائريين. سيحققون معك أكثر من مرة.وفي كل مرة سيتغير المحققون. وبما أنك ستدعي أنك جزائري فستستمع إليك موظفة من أصل جزائري تجيد الحديث بالعربية. احذر ستستدرجك لأسماء بعينها وأمكنة وأحداث لتتأكد من جزائريتك.
هذه تفاصيل سنعرف جيدا كيف سنتغلب عليها. بعد ذلك ستودع بمركز تابع للصليب الاحمر لمدة قد تصل الى ستة أشهر. قبل أن تمنح حق الإقامة كلاجئ.”
لست أدري ما الذي حدث لي بالضبط. لكن بمجرد ما سمعت كلام وليد اختفت مراكش من مجال رؤيتي، ولم يعد المغرب بكامله سوى نقطة عبور ، وأصبح العالم برمته مدينة اسمها أوسلو. أما التاريخ فيختزل في ثلاث محطات هي مطار محمد الخامس، مطار أوسلو والإقامة بالنورفيج.
كان في ذلك تجربة طريفة: أن تعيش تحت سقف نهار يخفي وجهه لنصف سنة.وتضبط إيقاع حياتك ببرد ينتقم من حرارة مراكش التي أغرقتك كسلا وخمولا. وتسكن لغة تذكرك دائما أننا لا نقيم إلا في قلب ما نفقد.
علي إذن أن أدعي أنني مستهدف من الجيش والجماعات الاسلامية المسلحة التي تطاردني، وأنني تعرضت للاختطاف عدة مرات وعذبت بوحشية. هناك تلزمني وقائع حقيقية وأسماء أخرى تثبت هنا صحة ما أزعم أمام المحققين. علي أولا أن أختار مكانا لتواجدي بالجزائر. ومن الأفضل أن يكون مرتبطا بأحداث معينة، إما اغتيالات شهيرة أو اختطافات. وبما أني كنت عضوا دوليا في منظمة العفو الدولية ومنسقا سابقا لمجموعة قيد التأسيس تابعة لها، كنت أتوصل بتقاريرها بشكل منتظم. ضحايا العنف بالجزائر تأخذ حيزا مهما منها. وتقدم معلومات دقيقة عنهم. اخترت ثلاث من الحالات الواردة في التقارير والمتعلقة بالاختطافات. إضافة الى حالة صاحبة صالون للحلاقة اغتالها المتطرفون وقطعوا رأسها. جمعت أكبر قدر من المعلومات حول ظروف الاختطاف من خلال شهادات بعض المختطفين أو ذويهم. إضافة الى بعض التفاصيل الصغيرة التي اشتهرت بها مأساة الجزائر في عقد التسعينات كقطعة القماش الابيض والصابون التي كان يتوصل بها المهددون بالقتل من قبل الجماعات الاسلامية.
بحثت عن صور للجزائر العاصمة ونقبت عن كل ما يكتب عن الوضع الداخلي بالجرائد والمجلات.وبدأت أستعد لتنفيذ الفكرة.
التخوف الوحيد الذي يشوش على إصراري هو أن يرفض النرفيجيون منحي اللجوء فيعيدونني الى الجزائر.
وصلت الى المرحلة النهائية. تدبير تذكرة السفر الى روسيا مرورا بأوسلو.بالنسبة للأصدقاء والمعارف فالأمر يتعلق باستكمال الدراسة بفريبورغ. وبالنسبة لي الوجهة مختلفة والمغامرة أكبر. أكبر حتى من البوح بسرها قبل أن تنفذ لأنها مشروع للقطع مع تاريخ واسم ولغة وجنسية.
بقيت على إصراري الى أن التحقت بالاتحاد متعاونا ثم محررا، فتلاشت شحنة المغامرة وبهثت نصاعة الفكرة. فعدلت عن تنفيذها.
التقيت الرئيس أحمد بن بلة رفقة بعض الاصدقاء بمنزل عبد الحق بن كيران. سمعه خف قليلا بحكم السن، لكن هيبته حاضرة. قالت لي زوجته انه لم يعد يرغب في الحديث في السياسة. رغم تجاوزه التسعين كان يجلس باستقامة وحركات موزونة ونظرات شامخة وابتسامة لا تترك وجهه الرزين. يرتدي بذلة سوداء ناصعة وقميصا بزرقة خفيفة وربطة عنق رمادية، قال لي “لنترك الوقائع الصغيرة ولنتوجه الى المشكل في أساسه، أي الفكر الذي انبنى عليه التاريخ الحديث. ليس هناك حل لمشاكل محلية ما لم يطرح المشكل الفكري للعالم برمته” فمضى محللا مرتكزاته منذ هوبس وآدم سميث وكارل ماركس.
تحدث قليلا عن كواليس حرب الرمال وعلاقته بالحسن الثاني. قال بصوت خافت أنه يتوسط في الحوار ما بين السلطة الجزائرية والجماعات الاسلامية المسلحة. كنت أستمع إليه وأرشف قهوتي وأتذكر أيام كنت أستعد لأتحول الى جزائري مزيف بأوربا.
أستمع لمقاطع جميلة من الموسيقى. الموت الذي أحمله في خطواتي يغني بمرح للغياب. البحر يغوي أمواجه. والكلام يسحق صمته. وكل شيء متلف الى الأبد. أحلم أن ترقص السماء في خطوة نملة. وأن يكتب الظلام وصايا فراشة تائهة في القلب.
أضفت هذا الصباح عشر صفحات للسر والتوبة سيكون جاهزا للنشر في مارس المقبل. قرأت هذا المقطع عند أدونيس: “أقسم دانتي ـ (وأدخلني جحيمك) إن فرعا واحدا من غصن واحد ينتمي الى شجرة الحياة، أكثر ألوهة، وأكثر بهاء، من جميع غابات الموت”.
طلبت “دياندرا” الذهاب الى المسبح لقهر الحرارة. قصدنا نادي التنس ممتطين دراجة أحمد القادمة من إيطاليا. في جمالها شيء محرج ومربك.العيون تتلصص علينا بوقاحة.الزرقة التي تغمر نظراتها تذكرني باليونور التي سحرتني أيام الجنون والانطلاق.الشفاه طازجة بحمرتها وامتلائها.والصدر نافر والبشرة صافية كوجه البحر تحت القمر.والفواكه الخفية تدعو للفتنة والاندثار.
أجلس قرب مسبح النادي الملكي للتنس. دياندرا تتمدد على العشب الاخضر بمايو تركوا، نعومة لا تحتمل تسيل من جسدها. تتمدد على بطنها وتفتح مذكرة صغيرة وتشرع في الكتابة بقلم ناعم الزرقة.
كلما غرقت في صمتها تأخذ في الكتابة وتملأ الصفحات تلو الصفحات وبسرعة، لست أدري بالضبط ما الذي تكتبه. تركتها قرب المسبح وصعدت للمطعم أنتظرها للغذاء، طلبت شرابا باردا ودجاجا مشويا وسلطة خضراء، التحقت بي منتشية ببرودة المياه.
أحرجتني كثيرا وهي تحدثني عن أماكن زارتها بالمغرب خلال إقامتها القصيرة لم أتمكن من زيارتها أنا الذي ولدت به وقضيت عقودا وأكاد أموت.
بدأت الحلقات الأولى لحياة عادية بمراكش سيتي تظهر بالجريدة. وبدأت معها ردود الأصدقاء. قال المبارك “اكتب الرواية” وضحك بومعيز “جميل.أنت عفريت..” وواصل معي عزيز المسلسل من الدار البيضاء، وقالت صباح “أعجبتني سخريتك من الهاتف المحمول” وقال رشيد “زد اكتب” ولم يقل حسن شيئا .
صحبت “دياندرا” الى المطار.العيون مسمرة على جسدها بشراهة. على المرأة أن تكون كالغابة، مكانا رحبا للضياع. ذلك ما قالته فراسواز ساغان.لذلك كانت إيديث بياف تغني بكثير من الدهشة للمرأة التي تمشي على الريح، أقطف نهاري وأمضي. في مراكش مليون سفينة مشرعة للهباء…