أركون ، الجابري ، فؤاد زكريا و حامد ابوزيد.. عقلانية في مواجهة السبات الدغمائي
باسم الشغوف
إنها لسنة سوداء بدون منازع بالنسبة للفكر العربي و للثقافة النقدية العقلانية . ففي سنة 2010 و في ظرف أشهر قليلة لا تتجاوز خمسة أشهر فقدت الثقافة العربية كبار رموز الفكر العقلاني الذين استثمروا مجهودهم الفكري لما يزيد عن ثلاثة عقود لترسيخ الروح النقدية و المعالجة العقلانية لما حملته الصيرورة التاريخية لهذه الثقافة من أسئلة مؤرقة و حاسمة ظلت الإجابة عنها محملة بكثير من الدوغما و محكومة بعماء الأحكام المسبقة و الأجوبة التي صيغت قرونا طويلة قبل حتى أن يطرح السؤال .
فكان الرحيل المفجع لأربعة من المفكرين العرب الكبار الذين انسحبوا تباعا مخلفين فراغا لا يقبل التعويض. الأمر يتعلق بالمفكر المصري فؤاد زكريا المشهور بدراساته الهامة حول نيتشه و اسبينوزا في زمن متقدم و بطرحه العلماني الجريء ، و الثاني المفكر المغربي محمد عابد الجابري بمشروعه الكبير نقد العقل العربي و برؤيته الثاقبة في إعادة تناول سؤال القرآن استنادا لرؤية قد تبدو بديهية لكن صداها و مفعولها ظلا مقموعين إن لم نقل مطموسين على امتداد التاريخ العربي الإسلامي ، و الثالث ناصر حامد ابو زيد الذي شكل حدثا ثقافيا كبيرا في عقد التسعينات بإصداره دراسته الخطيرة “مفهوم النص” و التي دفع مقابل جرأتها ضريبة قاسية من حياته تواصلت بتطبيق الصف الظلامي المعادي لحرية الفكر و التنويرمفهوم” الحسبة” في حقه انتهى باستصدار قرار قضائي غريب يقضي بتطليقه من زوجته الباحثة اعتدال يونس باعتباره مرتدا و انتهى باختياره المنفى بهولاندا كما لو كان يستعيد بذلك لجوء الفيلسوف الكبير باروخ دي اسبينوزا إلى نفس البلد بعد الاضطهاد الذي طاله على يد ظلاميي عصره . و يأتي الرحيل الصادم لمحمد أركون الذي ظل اسمه محملا بنداء نقد العقل الإسلامي ليعمق فذاحة الفقد التي ألمت بالثقافة العربية هذه السنة .
تحت اسم هؤلاء تتجمع جرأة كبيرة و شجاعة فكرية لا نظير لها و رغبة قوية في التجديد و صيانة قدسية السؤال و الاحتكام للعقل و استثمار التراكم المعرفي الذي حققته العلوم لتجاوز ماكان قد أسماه الفيلسوف الألماني إيمنويل كانط في كتابه العتيد ” نقد العقل المحض ” بالسبات الدوغمائي في التعامل مع أسس التاريخ الإسلامي و إخضاع المقدس لنظرة التاريخ و وضع النص في حدود الشروط الموضوعية لتكونه . فقد كانت معركة هؤلاء في عمقها حربا ضد الأحكام المسبقة التي حجّمت علاقة المسلمين بتاريخهم و ثقافتهم، فأرست لديهم نظرة لاتاريخية عقّدت علاقتهم بالعالم الذي يعيشون فيه و بالمكتسبات الحقوقية و القيمية و العلمية التي حققتها الإنسانية مابعد الثورة الفرنسية حتى أضحى الإيمان لديهم مرادفا للعداء لكل مختلف عقائدي و لكل مبتكر علمي و لكل مكتسب إنساني ، أي تحوله إلى معركة مستمرة ضد العصر .
لقد اثبت هؤلاء الأربعة أن التاريخ هو ما ينقص نظرتنا لذاتنا و لتاريخنا نفسه و لثقافتنا ، مواجهين بذلك مخلفات ذلك التصلب القاسي في شرايين الوجدان الديني الذي يرى أن أصول الإسلام تكونت دفعة واحدة خارج التاريخ و أهواء البشر و نزواتهم و رغباتهم ، و أن الدين ظل فكرة صافية تتجول فوق الزمان و المكان و ستظل كذلك إلى الأبد . و هكذا جاء محمد أركون واضحا في رؤيته المشددة على ضرورة إجراء نقد جريء للعقل الإسلامي محددا مفعول هذا النقد في صيغة جلية ظل وفيا لها حتى أنه من المستحيل أن نجد كتبا له أو حوارا أو مقالا أو لقاء تلفزيونيا أو محاضرة تخلو منها و هي : ” إخضاع النص الديني و أصول الثقافة الإسلامية لمناهج العلوم التاريخية و الاجتماعية ” مستندا في ذلك إلى تمييزه الشهير مابين المعنى و آثار المعنى ، أي ما بين القول القرآني و بين ما ترتب عنه من صياغة بشرية لمعناه و ما انتزع منه من أحكام . و هي الرؤية طبعا التي جعلته في صدام دائم مع المتشددين أنصار الانغلاق و الدوغما . مثلما جاء محمد عابد الجابري بمشروعه الضخم القاضي بضرورة إرساء علاقة نقدية مع التراث من خلال نقد العقل العربي الذي وصل إلى قمة نتائجه في الجزء الثالث المخصص للعقل السياسي العربي و الذي خلص فيه إلى أن القطيعة لن تتحقق إلا من خلال تحويل العقيدة إلى مجرد رأي ، وواصل مجهوده العقلاني بإخضاع آيات القرآن للترتيب الزمني أي لمنطق الصدور التاريخي وهو مشروع لا تخفى جرأته على أحد . و عمل نصر حامد أبو زيد على تطبيق سميوطيقا الثقافة على النص و مفاهيمه المؤسسة من وحي و نبوة و غيرها . و استثمر فؤاد زكريا مكتسبات الفكر العالمي لتصريف طرح واضح لفكرة العلمانية و تخليص السياسة من ورطة المقدس .
كان هؤلاء ينجزون مشاريعهم التنويرية في مواجهة ضارية مع تصاعد المد المتطرف و أنصار الصوت الظلامي و اعداء الحرية ، في زمن عصيب كانت فيه المجتمعات بالمنطقة العربية الإسلامية تتلقى صدى الثورة الخمينية و مفعول ملايير الدولارات التي صرفت لنشر الفكر الوهابي في مختلف هذه البلدان ومارافق ذلك من تصاعد للتيارات التكفيرية و التنظيمات الجهادية و الحركات السلفية التي تطورت حدتها و انفجرت بشكل دموي في عدد من الاقطار كالجزائر و مصر و السودان فكانت ضحيتها الأولى حرية الفكر و الإبداع و النزوع إلى التجديد الذي عانى من اختناق شديد بفعل تفاقم المد الذي يسعى إلى جعل الحاضر نسخة ممسوخة لأصل لم يكن سوى في مخيلة الناس و تعليب كل القضايا القومية بملفوف ديني و قرصنة بعضها من قبل الحركات الأصولية .
كان لهؤلاء المفكرين دور آخر هو استمرا الروح التي ارساها رواد النهضة كمحمد عبده و سلامة موسى و لطفي السيد و غيرهم بخلق شروط وعي جديد بالسؤال التاريخي للمجتمع العربي الإسلامي و إنضاج شروط التجديد . ورغم البون الفكري و المنهجي الكبير الذي يفصل مابين مفكرينا الأربعة و رواد النهضة ، إلا أنهم تحملوا مسؤولية تاريخية ضمنية تتمثل في كون التجديد لا يهم الأجوبة فقط و إنما كذلك الأسئلة الملحة التي بقيت مشمولة بمنطق القمع ، ليكونوا في محصلة عملهم ضمانا لاستمرار ذلك النفس الفكري الذي أرسته اصوات مثل علي عبد الرزاق و طه حسين و الذي كاد ان ينقطع في فترات سيادة الابتذال و سطوة الشعارات و غلبة المتزاعقين ..
ما أنجزه محمد عابد الجابري و فؤاد زكريا و نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون ، كان شيئا أقوى حتى مما كان يتصورون هم أنفسهم ، فقد كانوا يحفرون في نفس الأفق الكبير الذي سبق للودفينغ فويرباخ أن رسخه بعملية طويلة النفس اسمها الانتقال من التيولوجيا إلى الانثروبولوجيا لجعل الإنسان جوهر الدين ومركز العالم ومصب الأخلاق و القيم . مثلما كانوا ينخرطون فيما يسميه مشيل انفراي و جيل دولوز قبله بالمقاومات الصغيرة التي تقوم على رسم خطوط للمقاومة تسمح بخلق الأمل و انتصار المستقبل .
إنهم أشكال مختلفة من المقاومة التي انتصبت في وجه زمن قدم توصيفه الدقيق الفيلسوف الألماني لودفينغ فويرباخ في ” جوهر المسيحية ” ( 1841) قائلا : ” وبدون شك فزماننا يفضل الصورة عن الشيء ، و النسخة عن الأصل ، و التمثل عن الواقع ، و المظهر عن الكائن ، و المقدس بالنسبة إليه ليس شيئأ آخر غير الوهم. ” لذلك سيظل هؤلاء الأربعة في رحيلهم الأبدي ضرورة ملحة لمصيرنا حتى لا نضحي بالإنسان في سبيل أوهام تاريخية ترسخت فأصبحت يقينا مقدسا ،ويكف التاريخ عن ان يكون عداء أبديا بسبب العقيدة ، و ليكون المستقبل فرصة للإعلاء من قيمة الحياة و مناسبة لخلق فرديات جميلة سندها أسلوب متحرر في الوجود وفن متألق في العيش جدير بالقيمة المستحقة للإنسان، أي أعلى قيمة في الوجود .