مذكرات

يوميات مغربي في البرازيل(4)

ساندرا الجميلة، إذ تقول لي:لتأت إلي كي أواصل الرقص معك، بعد أن تحرروا فلسطين، وليس قبل ذلك..!

عبد الرحمن بلحداد (كاتب مغربي مقيم في لشبونة)

” قل للحياة، كما يليق بشاعر متمرس:

سيري ببطء كالإناث الواثقات بسحرهن و كيدهن

لكل واحدة نداء ما خفي

هيت لك…ما أجملك”. الشاعر محمود درويش.

 

” المعاناة من الوحدة هي أيضا من المآخذ؛ لم أعان على الدوام إلا من الكثرة”. نيتشه. ص 62من كتابه ” هذا هو الإنسان”، ترجمة علي مصباح، منشورات الجمل، الطبعة الثانية.

لك الله ومعه كل آلهة السماء، يا جادة باوليستا! يا لبهائك بكل من وما فيك. لكأنه حلم جميل ذلك الذي داعب رأس آخري، أي صاحبنا، إذ رمت به يد قدرمبتهج وسعيد إلى حضنك الدافىء. وربما لولاك لما تعلق آخري ببرازيل يؤجل شعبه أحزانه إلى أجل غير مسمى، راقصا فوق نارها، خالقا من كل فراغ بهجة أبدية و فرحة غامرة. لولاك لما نسي صاحبنا مآسيه تلك، كلما مرت حواليه جميلات سامقات عاريات كاسيات بهن كل طهر لا تراه أعين كهنة المعبد إلا في السر وبين أفخاذهن … كل منهن إلا وتقول لأختها ولك أنت: لن تجاريني أي منهن في الحسن، ليست هي، بل أنا الأجمل. في كل واحدة منهن خليط عطر من روما، من دمشق، من برلين، من طوكيو ومن بيروت. كلهن جميلات أنيقات، مبتسمات، بقوام متناسق ممشوق، معطرات ومهذبات حد الدلع، وببعضهن غنج وتلوي تصاحبه رأس راقصة وصدر يخترق الفضاء الذي أمامه… ثم إن بكثيرات منهن فيض من أنوثة وكأنه يزيد عن حاجتها، لكنها ترفض أن تعيره لأخرى  كي لا تفوقها حسنا و أنوثة…. كل منهن إلا وتعتني بالمؤخرة و ما يليها بنفس درجة الإهتمام بالوجه وأناقة اللباس، على ما تعشقه و ما حلمت أن تراه عينا قادم لتوه من تصحر أنثوي أنتجه ويهيمن على غرائزه كهنة المعبد ومجتمع ذكوري وأد نصفه الثاني، نصفه الحي المدفون.. ما إن وصل آخري في أول يوم إلى جادة باوليستا بساو باولو في أول مرة  و ما إن وجد نفسه بين بناياتها الشاهقة الجميلة، حتى تمنى لو كان له بهذه الجادة ولو سكن بسيط، مجرد خيمة صغيرة تسمع اثنين، حتى إذا طل من بابها استمتع بذلك الجمال الأنثوي المغذي للروح والبطن معا. حتى إذا أسعفته رمية شبكة، أدخل إلى الخيمة واحدة منهن فأشبعها بلذاذة الجنس وعسل الحب، معوضا كبث سنين… ولأن قدرا سعيدا وتعيسا، في ذات الآن، أراد لي أن أكون خارج ساو باولو المدينة و جادة باوليستا فلا مناص للذهاب إليك، يا مدينة كامبيناس. فكر آخري، حينها، أنه ما دامت هذه الأخيرة قريبة من ساو باولو المدينة، فلابد أن تقرضها  هذه الأخيرة و لو بعضا من ذلك الجمال الأنثوي، فلا يحزن قلب صاحبنا، مهما تكن الظروف… لكن صاحبنا كان سعيدا بما سمعه وحدث معه في المركز الثقافي السوري، إذ خرج منه بأول فرصة عمل في البرازيل وبمائة ريال برازيلي في الجيب، وكانت في ذلك الوقت بحوالي مائة دولار. شعر صاحبنا، وهو يخرج من المركز الثقافي السوري أنه إنسان مثل غيره من البرازيليين. عبر الطريق بقامة منتصبة و بوجه دافئء محمر لأول مرة في بلد المهجر. كيف لا ومهاجر غير شرعي، مثله، قد وجه فرصة عمل، بل وفي فندق من درجة خمس نجوم، دون أن يكون مستطيعا التحدث باللغة البرتغالية عل النحو الصحيح والمفهوم و دون حيازة وثائق البلد… ؟! وكان في المركز السوري سوري له سنوات في البرازيل، فما إن سمع بالخبر، حتى قال لمدير المركز: هل من فرصة لي مثلها…؟

خرج صاحبنا من المركز الثقافي السوري من شارع أوﮔوستا والفرح يغمره، خرج ثم سار باتجاه شارع فيرﮔيرو، حيث البانسيون والذي لا يبعد عن محطة باراييزو لميترو الأنفاق سوى بحوالي خمسين مترا. خرج آخري، عابرا جادة باوليستا من جهتها اليسرى فانحشر بين جموع المارين، ممزقا الطريق لا يرى أمامه غير حقيبتين وجب أخذهما على وجه السرعة في رحلة السفر إلى مدينة يجهلها، قالوا له إن اسمها كامبيناس، وأن قلبه سيسعد في هذه المدينة التي أن عدد ساكنتها اليوم يربو على المليون و200 ألف نسمة (تفوقها ساو باولو في هذا بحوالي 12 مرة)، وكانت، أي كامبيناس، آنذاك، أي في سنة 1997 توشك أن تكون بمليون نسمة من السكان.

وفي المركز الثقافي السوري، أي قبل الخروج منه، تلقى صاحبنا من مديرالمركز،خلال استقبال الأخير له، رقم هاتف ابن أخت صاحب فندق “نعومي” الكبير بكامبيناس، وهذا الرجل، أي ابن الأخت والراحل أديب حنا، كان هو الآخر رجل أعمال له فندق أو اثنين في مدينة من مدن ولاية سان باولو… وفكر صاحبنا، وهو خارج من المركز، أن عزيمته وإصراره على البقاء في البرازيل، رغم توفره على تذكرة العودة للمغرب كان بدوره ما شجعمدير المركز على تقديم يد المساعدة. ذلك أن صاحبنا رد على مدير المركز الذي حاول إقناعه بالرجوع للمغرب، أنه، أي صاحبنا لن يجبن في أرض المعركة، مهما يحدث، وأنه قد ترك المغرب خلف ظهره…. وكان صاحبنا كلما نام أو مشى في الطريق إلا وتذكر مشاهد و مواقف سابقة عززت قناعته البقاء في البرازيل…

خلال رحلة السفر من مدينة ساو باولو إلى كامبيناس، والتي تستغرق حوالي ساعة وعشرين دقيقة، إذا بذكريات قديمة وأخرى جديدة تطفو على سطح مخيلته. حيث إنه تذكرأنه، ما إن وصل للبرازيل في يومه الثالث، حتى ذهب للسفارة الأمريكية كي يحظى بتأشيرة الذهاب إلى الولايات المتحدة الأمريكية كمهاجر غير شرعي بقناع سائح، فتم رفض طلبه، مما دفعه للذهاب إلى محلات بيع الدراجات العادية(دراجات المسابقات الرياضيةالماراطونية)كي يشتري واحدة منها، فيذهب بها إلى المكسيك، بصحبة مغربي آخر، ومنها يعبر إلى الأراضي الأمريكية بطريقة غير شرعية، لكن المال الذي بقي بجيبه، خاصة بعد دفع رسوم التأشيرة المرفوضة و دفع مستحقات المبيت في المأوى، لم يسعفه ذلك كي يأخذ معه الزاد في طريق سفر طويل ومستحيل ودونه دول و حدود ومخاطر كثيرة… تذكر كيف اصطادته بائعة هوى مغربية بساحة الحمام، أي ساحة محمد الخامس بمدينة الدار البيضاء، وكيف أن صاحبنا ذاته كان من بحث عنا، قبلا كي يتذوق آخر تفاحة مغربية، ولو “خامجة”، فلا يتحسرأنه ترك ماهو بلدي، ما هو مغربي دون يلقي عليه آخر تحية وسلام…لكن رائحة جسدها جعلته مصابا باختناق، بانقطاع في التنفس تلاهما تهيب للتقيء، فلبس صاحبنا سرواله، على وجه السرعة بعد غسل وجهه و دفع مقابلا ماليا لمجرد الدخول للبيت وسرقة دقائق من وقتثمين لامرأة هي أكثر عفة وطهرا من سارقي البلد… تذكر صاحبنا في رحلة السفر تلك حبه الأخيروالحقيقي، فتيحة، ذات الحسن والدلال وكأجمل فتيات سيدي يوسف بن علي، بل و كأجمل فتيات مراكش في ذلك العهد… ثم إن صاحبنا، وهو في رحلة السفر تلك إلى مدينة كامبيناس، عقد العزم بأن يبعث بأول رسالةلأمه، يخبرها فيها أنه بخير، وبأنه “لا زال في السما قمر، لا زال في عيني بصر، و ثوبي العتيق حتى الآن ما اندثر”.  وتذكر صاحبنا، خلال رحلة السفر تلك المرأة المسنة، والتي تجاوزت السبعين في عمرها، وكيف أنه بدت على وجهها بدت معالم ألم وتعاطف، مما جعلها تصر على مساعدة الشاب الذي كنته، في بداية عمره التاسع والعشرين من عمره، حاملة عنه، ورغما عنه، حقيبة من حقيبتيه خلال مهمة الصعود في آخر درج من ميترو الأنفاق بعد ساتعمال سلالم متحركة من ثلاثة أطباق تحت أرضية… مثلما تذكر صاحبنا تلك الفتاة الجميلة، والأنيقة الملبس والتي غاضت المكبوث الذي كنته أو الذي لا أزاله وهي تتبادل قبلا حميمية حارة مع أحد متشردي الشوارع، الذي كان قبيحا (وفق المعايير المغربية للجمال)، مثلما أن ملابسهكانت رثة ومتسخة، شأنه في ذلك شأن غالبية متشردي الشوارع المتسكعين…. ثم فكر صاحبنا، وهو يتذكر هذا الأمر، أنه مادام أن لهذا المتشرد حق في تلك القبل، فلابد لمغترب عن أهله من صدر أنثوي يتعاطف معه ويحضنه، مخففا عنه مآسيه تلك…

وصلت إلى مدينة كامبيناس واتصل على الراحل و رجل الأعمال السوري، السيد أديب حنا، فإذا به يأتي إلي شخصيا وبسيارته الفاخرة ثم أخذني إلى الفندس مباشرة، مخبرا إياي أن اليوم الأول لن أعمل فيه، بل فقط لتناول وجبة الغذاء ثم للتعرف على الناس والمكان. وكانبالفندق مغربي من الدار البيضاء تشرف على مطمه الفخم، فإذا بها تقول لي أن صاحب الفندق استغرب كوني جد نحيف ولم أتناول في مطعم الفندق سوى القليل من الطعام الذي كان في مائدة جلست وإياي فيها بطلب منه.

بعد تناول وجبة الغظاء والتعرف على زملائي في الفندق بحوالي ساعتين، صاحبتني الفتاة المغربية إلى بيت كبير حجزت لي فيه غرفة لمدة شهر إلى غاية أن أبحث عن شقة خاصة بي… وهكذا كان…  ولم تنس الفتاة المغربية، مشكورة، أن تقرضني حوالي 150 دولار، أرجعتها لها بعد استلام أول راتب. بعد أول شهر من العمل لي بالفندق أي بقبل إتمام حوالي شهري الرابع في البرازيل، تعلمت اللغة العربية عبر تركيب الجمل، وأيضا على مستوى الفهم، لكن لم يمر الأمر دون معاناة، دفعت بصاحبنا إلى أن ينزوي في نماك ما في الفندق ثم يجهش بالبكاء بشكل سري بسبب عدم فهمه لما كان يُقال حوله، خاصة وأنه لم يكن بمقدوره الرد على فتاة برازيلية فهم من كلامها أن الكثير من أهل البلد لم يحصلوا على فرصة عمل، بينما أنني كأجبي وكمهاجر غير شرعي حصلت عليها… انتقدها كل زبنائنا و زملائنا في العمل، لكن ذلك لم يكن كافيا لكي يلتئم الجرح النفسي الذي سببه كلامها في نفسية صاحبنا… وكي لا يتعمق الجرح النفسي أكثر، خاصة وأنها كررت فعلتها أكثر من مرة، أخبرصاحبنا صاحب الفندق بما جرى دون ذكر اسمها وطلب آخري من صاحب الفندق بألا يُصر في معرفة معلومات أكثر، فإذا به يجري اجتماعا عاماو يهزئ ويهدد كل من يعاملني معاملة سيئة… فإذا بتلك البرازيلية ترعوي وتغير تصرفاتها، و لم أكن بما فعلته سوى مطبقا لحكمة نيتشه في وصف لذاته ” إنني أروض كل دب وأجعل من الحمقى أناسا مؤدبين”. بعد الشهر الأول من العمل، تغيرت شهيتي، فصرت آكل بشكل جيد إلى أن تمتلئ معدتي عن آخرها، مما دفع بزميل طيب ويحب الدعابة إلى أن يقول مرة، ما إن تعطل مصعد الفندق بأن عبدو، أي أنا، قد أكل كل الطعام الذي بالفندق فلم يتحمل المصعد الكهربائي كل ذلك الوزن…

في شهري الثاني في كامبيناس، استأجرت شقة صغيرة في مبنى بحي راقي وجد قريب من الفندق الذي كنت أعمل به والواقع في شارع جوليو دي ميسكيتا، واسم الحي كورونيل كيرينو. كان صاحبا منتشيا بها كتجربة، شاعرا بحرية لم يكن يشعر بها قط في حياته.في مدينة لا تطارده فيها عيون الجيران ولا أحد في المدينة يعرفه، وحت ثلاثة مغاربة فلم يتعرف عليهم إلا بشكل سطحي وبعد الشهر الأول في المدينة… كانت أول تجربة في حياة صاحبنا صار يسكن فيها في شقة لوحده… صار له برتوشا، وما أدراك ما البرتوش في وعي كل شاب مغربي استجمع بداخله، قهرا ومُرغما، كبث سنوات عجاف… وفي مرة من المرات، ذهبت إلى بار باذخ، رائع وفي الهواء الطلق، في مكان مرتفع ومطل على منظر جميل، بهذه المدينة. فتحت كتابا كي اكمل قراءته، مقتنصا لذة به، ثم طلبت بيرة، حضرت على وجه السرعة، فنسيت كليا من وما حولي، عدا كتاب غمست فيه راسي كليا و بيرة كانت رفيقتي، وكنت اقرا فقراته، بين رشفة واخرى…. ولم تمر عشر دقائق حتى التف حولي شبان و شابات برازيليون، جميلون وجميلات فاخذوا الكتاب من يدي و وضعوه فوق الطاولة ثم دعوني لكي ارقص معهم، قائلين لي: انت في البرازيل و في البار تحديدا، فارقص معنا و عش الحياة. رقصت مع إحداهن، و اسمها ساندرا، وأثر النعمة على صدرها و وجهها… كانت في غاية الجمال، بوجه جميل مستدير وصدر ممتلئ يطل منه نهدان مستديران في تناسق مع الوجه والقامة الممشوقة والصدرالفاتح طريقه إلى كل متعطش وكل ذلك الجسد. كانت ساندرا تعلم صاحبنا بعض أشكال الرقص البرازيلية، بينما كان هو متعطشا لنوع آخر من الرقص يلتحم فيه الجسد بالجسد وبعيدا عن أعين الناس، بعد قبلات تمهيدية في عين المكان. وكانت هي بدورها تتصرف على نحو يوحي بأن ما في رأس الجمل هو ذاته ما في رأس الجمَال. حاولت ساندرا أن تجعل صاحبنا يضحك، لكن محاولاتها باءه بالفشل. سألته: أنت في مكان بع موسيقى وغناء ورقص ثم أنا، فلماذا كل هذا العبوس؟!!، أجابها صاحبنا: إني قادم م بلد آخر وقد تركت أمي هناك، ثم إن لدينا قضاياكبرى نحملها معنا حيث ذهبنا، ومنها القضية الفلسطينية ومعاناة شعب، ولهذا وغيره لا يكن أن تصدر عني ضحكات إلا وأنها مغموسة بوجع سياسي وإيديولوجي.  تركتني ساندرا إلى غيري وتركتني أجر خلفي خيبتي وأعض على أصابعي وحتى على لساني، وشعرت وكأنها أرادت أن تقول لي: تعال إلي كي أواصل الرقص معك، بعد أن تحرروا فلسطين وليس قبل ذلك!انفلتت ساندرا من بين أصابعي، من شفتي، من عضة في عنقها المعطر الشهي ومن ومن … وعلمتني ساندرا تلك أول درس في الحياة: أن أحرر ذاتي، كقضية القضايا، كي أفكر بعد ذلك فيما يفضل عن الحاجة وهو هو خارج ذاتي…  علمتني ساندرا، بمجرد تصرف بسيط منها وبكلمات قليلة، أن أحرر ذاتي.

ويتذكر صاحبنا أن المغربية التي كانت تعمل في الفندق وكانت رئيسته في العمل، وهي إنسانة طيبة وخلوقة وفي حوالي الثلاثين من عمرها، كانت تتقرب منه على ما يبدو أنها بنية الزواج. و ظلت على حالها ذاك وتلقى صاحبنا خبرا بعرض للزواج منها وكانت في حيرة من أمره، لكنه كان عازما على ألا يصاحب أو يتزوج إلا من برازيلية تنسيه جميلات جادة باوليستا. وفي مرة من المرات التي تناول فيها صاحبنا الكثير من الطعام وكانت ببطنه غازات مكثفة يصاحبها وجع، وبينما كان هو والمغربية لوحدهما في مصعد الفندق، إذا به، ورغما عنه و بسبب ضغط العمل، يحرر ظرطة(حزقة خانزة)، فكر أنه لابد وأن تكون ما أنقده من تعلق تلك الفتاة المغربية به. حينها تذكر صاحبنا قول الشاعر العربي:

  فأنقذني منها حماري وجُبتي    جزى الله، خيرا، جُبتي وحماريا

ما إن استلم صاحبنا راتب الشهر الأول حتى كتب هذه الرسالة لأمه وأسرته يقول فيها:

إلى أمي الحنونة، إلى إخواني الأعزاء وأخواتي العزيزات وإلى كل من يسأل عني

تحية وقبلة، وبعد:

ركبت الطائرة الإسبانية، يا أمي، على الساعة الثانية عشرة زوالا. وكم هي ممتعة لحظة الإقلاع تلك، خاصة وأنني كنت قرب النافذة! فإذا بي أراني سابحا وطيرا محلقا  في الهواء وأحسست أن قيدا مُحكما قد نُزع عني، اسمه الإنتماء لبقعة جغرافية صغيرة أسموها الوطن، لكنه في بلدنا له أسماء أخرى لا تخفى على أحد: الإضطهاد، الجوع، الحـﮔرة والفقر. كانت تلك لحظة ممتعة، يا أمي، ذلك أنك تشعر خلالها بانتمائك للهواء، لا إلى بلد له حدود معينة وثقافة ولغة معينين… بل تشعر بانتمائك لكل الأوطان. أما عالم الطائرة الداخلي فإنه ممتع وإني، حقا، لعاجز عن وصفه…   (….)

أخبركم أنني صرت أشرب القهوة البرازيلية كل يوم دون تقيئها أوالإبتعاد عنها، كما كان يحدث في المغرب. إن للقهوة البرازيلية طعم آخرمثلما أنهم يعدونها، هنا، بشكل مختلف تماما وإنها لم تعد تؤذي معدتي، خاصة بعد أن صرت آكل وجبات برازيلية صحية، فزاد وزني بحوالي ثماني كيلوغرام في شهري الرابع هذا… هل تعلمون أنني كنت أعتقد أنني المغربي الوحيد في هذه المدينة، التي اسمها كامبيناس، فإذا بي أتعرف على أربعة مغاربة آخرين؟ وكلما جلسنا مع بعض، متحدثين باللهجة المغربية إلا وأصبنا البرازيليين القريبين منا بالجنون. (راهوم غاذي يتسطاو باش يعرفو آش تنقولو)، فنرد لهم، بهذا، الصاع بصاعين، هذه بتلك… نحن لا نفهم مما يقولون سوى اليسير منه فنكاد نُجن، وبدورهم، لا يفهوم أي شيء مما نقوله بدارجة مغربية نادرة في هذا البرازيل… إن معلوماتهم عن اللغة العربية لا تتعدى بضع كلمات نابية وغير نابية من اللهجة اللبنانية، المتناقلة هنا بين لبنانيين يعلمونهم إياها ثم كلمات موجودة بالبرتغالية، غالبيتها أسماء لفواكه وخضر ومواد غذائية برتغالية وهي من أصل عربي، مثل زيتونة، زيت، سكر، باذنجان، زعفران، الخص، الكمون…، فيُصابون بخيبة أمل وبتسحربسبب سرعة النطق في لهجتنا التي تصعب عليهم التقاط ولو كلمة واحدة،وأيضا بسبب ما يقولون أنه عنف ظاهري بها. إن غالبية الشوارع هنا مجهزة، مثلها في هذا مثل شوارع أوربا وأمريكا، يُضاف إلى هذا وجود باصات تتحرك بأسلاك كهربائية معلقة…. العرب هنا كثيرون، وما إن أجلس في الميترو أو في حديقة حتى أجد عربيا أو امرأة عربية قربي…الآن فقط، أستطيع القول أنني تعودت على وجودي خارج المغرب وبعيدا عنكم، بعد أن عانيت الكثير بسبب بعدي عنكم… و لم أرغب من قبل بأن أخبركم بمعاناتي إلا بعد أن تحسنت ظروفي الآن… الراتب الشهري، هنا مرتفع بسبب قوة عملة الريال، لكن يوجد المئات من البرازيليين الذين ينامون في الشارع… أخبركم أن عدد سكان البرازيل الآن هو حوالي 160 مليون نسمة، يُقال إن بينهم 17 مليون من العرب، بين قادمين من هناك ومن إنهم متحدرين من أصل عربي…الكثير من الأشياء موجودة هنا، حيث اشتريت شريطين لفيروز وشريط واحد لمارسيل خليفة، يَاف إلى ما استقدمته من أشرطة من المغرب. وقد اشتريت تلك الأشرطة الموسيقية من عربي يبيعها في مناسبات عربية…و أنا أكتب لكم هذه السطور، إذا بفتاة برازيلية تقف خلفي وتتأمل ما أكتبه، من شدة حيرتها ثم سألتني عن اللغة التي أكتب بها، مستغربة أننا نكتب من اليمين إلى اليسار…(…).أصبروا علي قليلا، فريثما تتحسن ظروفي حتى أساعدكم… أنا الآن أعمل نادلا في فندق كبير من خمسة نجوم يملكه رجل سوري. احتفظوا بصوري كلها، وخاصة صورتي مع الشاعر السوري أدونيس و صورتي الكبيرة المعلقة بغرفتي… الناس هنا يتعاملون بالشيكات أو ببطائق الإئتمان المصرفية في كل معاملات الدفع لأن السلاح منتشر على أوسع نطاق… إنهم يسافرون  مستعملين لأجل ذلك طريقة الدفع بالشيكات أو بالبطاقة المصرفية ويدفعون شيكا حتى خلال شرائهم للخضر والفواكه كي لا يلفتوا أنظار اللصوص… !!أنا الآن أعمل بدون أوراق هذا البلد وأكسب راتبا محترما هو بقيمة 600 دولار تقريبا، يفضُل منها 200 دولار، أو أكثر أو أقل بعد دفع إيجار شقة صغيرة و فاتورتي الكهرباء والماء مع خدمات البناية. أسكن في الشقة لوحدي وهي بمساحة حوالي 30 متر مربع… أما عني، فإنني لن أذهب إلى أوربا أبدا، حيث يوجد مغاربة وعرب بأعداد كبيرة ومطاردات متكررة لهم هناك من طرف رجال الشرطة بالبلدان الأوربية … كما أنني أريد البقاء بعيدا عن بلد الحـﮔرة… قبل أيام ذهبت إلى مركز الشرطة الفيدرالية ب ساو باولو، فأخبرتم أنني مهاجر غير شرعي وطلبت منهم منحي معلومات عن كيفية تصحيح وضعيتي لكي تكون لدي بطاقة إقامة برازيلية. أتعلمين، يا أمي، ما الذي حدث؟ ما إن رآني رجل الشرطة الفيدرالية البرازيلية أمامه وداخل قسم الشرطة حتى قال لي، ضاحكا ثم مستغربا: أنت الآن مخالف للقانون، كمهاجر غير شرعي، و عوض أن أبحث عن أمثالك أنا في الشارع، فأضعكم في رحلة العودة في الطائرة إلى بلدانكم، بحسب ما يأمرني به القانون، إذا بك أنت تتجرأ، فتأتي إلي بحض إرادتك، وبوجهك المحمر هذا وجبهتك العريضة هذه، كمن لديه حق ما في هذا البلد!! لابد وأن بك شجاعة إنسان فقد عقله ثم جرى إلي مسرعا كي أكون أول العالمين بما أصابه من جنون… أغرب عن وجهي، حالا، ولا ترجع إلي إلا ولديك طريقة تصحح بها وضعيتك كي أمنحك وثيقة إقامة برازيلية!هل تعلمون أن كلامه صحيح، لقد تخيلتني وأنا أحدثه وكأنني ثعلب يسير باتجاه أسد يأكل فريسته، فإذا بالثعلب يقترب أكثر فأكثر كي يجود عليه أسد شرسمتهيئ للغضب ولو بقطعة لحم صغيرة دون الخوف من التحول، هو ذاته، إلى فريسة ثانية…!!إنهم، هنا، يرحبون بالأجنبي والراتب هنا جيد وبرازيليون بمهن بسيطة يسافرون بسهولة للولايات المتحدة الأمريكية، خاصة بسبب ارتفاع قيمة الريال. وقد تعرفت على أحدهم في المركز الثقافي البرازيلي، وهو الأكبر على مستوى أمريكا اللاتينية كلها…).

عبد الرحمن بلحداد (كاتب مغربي مقيم في لشبونة)

يتبع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى