يوميات مغربي في البرازيل (9)

 عبد الرحمن بلحداد(كاتب مغربي مقيم في لشبونة)

مختصر عن ملابسات ما قبل الهجرة إلى البرازيل

. يسوع المسيح. الإنجيل: إنجيل لوقا، .23:09“إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَتْبَعْنِي”

” إنه لمن الأهمية بمكان بالنسبة لمصير شعب، ولمصير الإنسانية أن نبدأ التربية الثقافية من الموقع الصحيح؛ لا من “الروح” كما كان يفعل المعتقد المشؤوم للقساوسة وأشباه القساوسة : الموقع الصحيح هو الجسد والحركات الجسدية، والنظام الغذائي، والحالة الفيزيولوجية، أما البقية فتتبع…لذلك سيظل الإغريق الحدث الثقافي الأول في تاريخ الإنسانية؛ كانوا يعرفون، وكانوا يفعلون ما هو ضروري؛ أما المسيحية، التي كانت تبخس الجسد، فقد كانت أكبر نكبة حلت بالإنسانية إلى حد الآن”. فريدريش نيتشه، غسق الأوثان، الصفحة 162. الطبعة الأولى. ترجمة علي مصباح.

ولأنه لا حاضر ولا مستقبل بدون ماض يفسر، بمعنى من المعاني، أحداث الحاضر والمستقبل، فإني ارتأيت الحديث عن  جزء بسيط فيما يتعلق بملابسات هجرتي للبرازيل، أي فيما يتعلق بظروفها و دوافعها…

  يموت السيد الوالد، ألف رحمة وسلام لروحه، بتاريخ 24.12.1994، وهو، أي الموت، أول فاجعة أراها بالقرب مني وتأخذ من بيتنا أول زهرة وقمرا كان يضيء اليبت فقرر الرحيل دون سابق إنذار. كنا، وكالكثير من المغاربة آنذاك والآن، نعيش حالة فقر جد صعبة كان يخففهها استلامي للمنحة الجامعية والتي انتهت في نفس السنة. بالمنحة من دونها كان الفقر قاسيا علي وعلى أهلي وكان الأفق منغلقا في المغرب، ربما أكثر من اليوم، لأن العالم كله تغير وصار بوسع الإنسان تدبير شؤونه عبر وسائل وأبواب رزق متعددة في أيامنا هذه. لن أسرد تفاصيل فيما يتعلق باستغلال اليد العاملة، وكنت منها قبل و بعد تخرجي من الجامعة، عاملا في معمل للزيتون وآخر للمشمش كي أستلم في نهاية الدوام دراهم وجد جد قليلة، فكثيرون مروا ويمرون من هذا. ما سأتعرض له هو أن استعداداتي من أجل العمل كأستاذ للغة العربية في ثانوية من ثانويات المغرب قد ذهبت في مهب الريح بعد إلغاء اختبار للأساتذة استعددت له، أيما استعداد لأشهر طويلة وخلال ساعات اليوم كلها وكانت إجاباتي فيه جيدة فتم إلغاء المباراة…

أنت إذن داخل أسرة كبيرة و فقيرة، تريد مساعدة أمك وكل أهلك فيتم إحباطك (لا بُكائيات هنا بل مجرد وصف لما وقع وأثر في حينذاك…)، بل ولم تظهر مباراة بعد ذلك وإلى غاية مغادرتي للمغرب، حسبما أتذكر. والفقير ومنكسر القلب الذي كنته كان يبحث عن صورة أخرى لله لم تمده بها ثقافته الإسلامية المغربية، ليرى أمامه صديقين من أصدقائه المثقفين والطيبين وقد تحولوا إلى مسيحيين في المغرب. لم تعجبه الفكرة في البداية، لكنه بعد الإطلاع على الإنجيل، أي العهد الجديد، وجد آخري بهذا الأخيرصورة لله ـ الأب والصديق الذي يمشي معك في دربك، وهي التي كان يبحث عنها بعد فقدانه لأبيه. ولا يكون الحل، والحال أن ظروف صاحبنا المادية والنفسية كانت سيئة، إلا بملء الفراغ الروحي كي يخفف عني أحماله النفسية تلك.

تمت دعوتي وكنا حوالي اثني عشر مغربيا بحدائق المنارة وتم عزف وتريديد ترانيم وأناشيد مسيحية روحية غاية في الروعة. وكنا نلتقي في كنائس سرية، أي في بيوت مسيحيين وصرت أقرأ الكتاب المقدس من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا فوجدت في العهد الجديد مبتغاي وكنت أؤجل اعتراضي على العهد القديم، المملوءة والملطخة صفحاته بجرائم ودماء، لأني كنت مستعدا نفسيا لقبول ذرائع وتفسيرات دينية هي ذاتها التي يقبلها مسلم عن دينه ويهودي وغيرهما عن أديانهم فيما يتعلق بالدعوة لقتل الآخرين المخالفين في الملة، بل حتى داخلها وفي حالات بعينها… وكنت أحاول إقناه نفسي أن إله العهد القديم، الذي هو ذاته إله العهد الجديد، قد أحدث قطيعة معرفية وأخلاقية مع ذاته وصار ناشرا للمحية!! بعد حوالي سبع سنوات من ذلك التاريخ أترك الإيمان المسيحي وأعانق الإنسان الذي بداخلي، صديق وعدو جميع الأديان، وفي ذات الآن… صديقها فيما يتعلق بحقها، بل بأهميتها بأن تكون وأن تدعو إلى دعوتها الناس، ثم إني عدوها وهي تلغي غيرها من أديان وأفكار… وقد تمخضت تجربتي تلك داخل الإيمان المسيحي عن كتابتي لقصيدتين، هما هاتين:

محاكمة المسيح (حوار مُتخيل بين المسيح والحاكم الروماني بيلاطس البنطي)

وأتوا به بيلاطس، يسوقونه

وصوت الجموع يتبعه:

أصلبه…! أصلبه!

ـ أأنت ملك اليهود؟

+ أنا ملك البر، أنا ملك السلام

مملكتي ليست جندا يحرسني

أو سيفا في الشدة يُنجدني

مملكتي ليست منكم

ليست فيكم.

في مملكتي أقضي للفقراء بالعدل

في مملكتي يرعى العجل مع الشبل

في مملكتي يلعب الصغير في وكرالأفعى

فتلمس يده الثعبان

فلا يلذغه الثعبان.

ـ خلص نفسك من الموت

يا قاهر الموت!

+ ليس أحد يأخذ مني حياتي

بل أنا أسكبها لأجل الخطاة

إذ مكتوب عني أني:

أُجرح لأجل معاصيكم

أُسحق لأجل خطاياكم

وبجراحي تُشفون.

وأُخرج من دار الوالي

وكنعجة سيق إلى الذبح

لكن لم يفتح فاهُ

وبالمكر ما نطقت شفتاهُ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

شعر: عبد الرحمن بلحداد.

مراكش سنة 1996

ثم القصيدة الثانية، وهي:

تشويه

ستنمو أمام عيني،

                  يا ابن أخي

وسيطويك ليل بهيم.

وستفتح جراح التاريخ

فيتعفن بين يديك التاريخ

وستقدس أرواحا

وتطارد أشباحا

             فيبلعك الجحيم

لكن،

             اشرب كأسا بعد الأخرى،

             كأس الحب دوما اشرب

وليحرسك رب رحيم

وحين تبلغ العاشرة

افتح باب الأسئلة:

كيف…؟

لماذا…؟

هل…؟

أين…؟

كيف لقنوني صورة الإله؟

لماذا في عصا الفقيه

           أرى صورة الإله؟

هل حقا إذا انكسر قلبي

           يُعزيني الإله؟

أين يوجد الإله؟

هل يمكث في خيمة أرضية إلى الأبد؟

هل يجثو في السماوات كالأسد؟

هل هو في سقوف الكتاتيب يصنع العُقد؟

بل قد شوهوا، يا صغيري،

                     في عينيك صورة الإله.

الله، صانع الحياة، ما أبهاه!

في البدء كان الرب، يا بُني

في البدء كان الحب

           كان النور

           كانت الحياة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

شعر: عبد الرحمن بلحداد. مراكش سنة 1995

أكون بهجرتي إلى البرازيل، إذن، هاربا بإيماني المسيحي من مغرب عشنا به مضايقات دينية وسياسية ويعيشها غيري اليوم وهو هناك، أكثر مما نعيشها نحن مغاربة المهجر بأشكال أخرى، أكون بها كهجرة، قد هجرت وتركت، وفي البرازيل بالذات، ما هربت لأجله: الإيمان المسيحي وحياة روحية لا ينغصها قول جار ومضايقات الشرطة والطرد من العمل بسبب ذلك، كما حدث ويحدث مع كثيرين في المغرب بسبب قناعاتهم… ولم يكن العامل الديني هو الرئيس والوحيد من أجل ذلك. والحمد للعقل أني عانقت الإنسانية من جديد، مثلما كنت قبل هذا الإيمان، متأملا عن بعد حروبا ومعارك دينية بين المنخرطين فيها من المنتمين من هذا الدين وذاك كي يسرق كل منها إنسانا ـ ضحية لخندقه  ـ معبده، فما إن يظهر علماني متأمل لهذه الحرب وطالب للهدنة، بل للتعايش، حتى يجتمع الأعداء فيما بينهم ضد علماني يحاول خلق تعايش يستفيد منه كل أتباع الديانات وأيضا المؤمنين بأفكار أخرى خارج الدين بوجه عام…

انتهى

عبد الرحمن بلحداد