مذكرات

يوميات مغربي في البرازيل (7)

وفي ذلك الحين، خمن صاحبنا حتى قبل عرض فكرته أنها مغامرة منه لن تجدي نفعا، وأنه يصعب على سفير نقلها لديكتاتور، أي لـ صدام حسين

عبد الرحمن بلحداد(كاتب مغربي مقيم في لشبونة)

بغدادُ والشُّعراءُ والصُوَرُ**** ذَهَبُ الزمانِ وضَوعُهُ العَطِرُ

يا ألفَ لَيلةَ يا مُكَمّلَةَ الْـ****أَعْراس يَغسِلُ وجهَكِ القمرُ

مقطع من قصيدة… كلمات وألحان الأخوين الرحباني وغنتها السيدة فيروز.

” لا تلوموني ولوموا أغبياء العرب

فهمو قد شجعوني قُدُما في العطب

(….)

والفتاوى! آه ما أجمل هاتيك الفتاوى

إنها أغرودة السحر بأفواه النشاوى

إنها السر الذي أطعم من جوع وآوى

عجلت أمر رحيلي من سراديب ابن آوى”.للشاعر العراقي بهجت عباس، بمناسبة العدوان على العراق واحتلاله.

باشر صاحبنا عمله كمترجم للسفارة العراقية في التاسع من يناير من سنة 2003، أي شهرين كاملين قبل بداية العدوان الأمريكي على العراق، واستمر عمله بشكل رسمي إلى غاية 31 ماي من السنة ذاتها، ليُتابع عمله بشكل تطوعي بعد ذلك، أي لحوالي ثلاثة أشهر، مساعدا عراقيي السفارة من سفير وديبلوماسيين و موظفين وأعوان مستقدمين من العراق لمن منهم أراد الإستقرار  بـ البرازيل بعد أن صار بلدهم محتلا وصارت حياتهم مهددة…و رغم أن راتب صاحبنا كان جيدا مثلما أنه كان يقوم بعمل مولع به وهو الترجمة، إلا أن آخري كان يشعر بضغط نفسي من جهتين: عدوان على العراق، لابد وأنه واقع ولهذا فقد تم التعاقد معه على عجل كواحد من رجال الإطفاء بالسفارة لعل الحكومة اليسارية البرازيلية الواصلة للحكم ثلاثة أشهر قبل قيام العدوان تقزم بدورها من أجل تفادي وقوع الحرب، لكن جهود الحكومة البرازيلية والبرازيل كلهم لم تُفلح… أما الضغط الثاني فيتمثل في خوف مثقل بذكرى حزينة ومفجعة عاشها صاحبنا أسابيع قليلة قبل انتهاء عمله بالسفارة القطرية التي أنهت أنشطتها الديبلوماسية حينذاك. يتعلق الأمر بعملية اغتيال حدثت من قبل، أي في سنة 1999 لحارس السفارة القطرية بـ البرازيل حيث كان يعمل صاحبنا. وكان حارس السفارة القطرية السوداني مبارك الشمام في الثالث والثلاثين من عمره حينما تم اغتياله ليلا، حسب ما توصلت إليه التحقيقات الشرطية…. ويتذكر آخري أنه في يوم من أيام عمله في تلك السنة وصل إلى السفارة القطرية في حوالي الساعة الثامنة ونصف صباحا مثله مثل موظفي السفارة، فإذا به يجد سيارات الشرطة البرازيلية أمام السفارة، ملتقطين صورا و ماسحين للبصمات من مطبخ السفارة، من كل زواياها وغرفها ثم من كل المكاتب بما في ذلك مكتب السفير. وتناقل عربالبرازيل الخبر بعد ذلك، فمنهم من قال أن الجريمة حدثت بسبب ثأر لحدث ما في السودان قبل سنوات تورط فيه المغدور به ومنهم ن قال إنه انتقام نفذه برازيلي ما، بينما ذهب آخرون إلى أنه لربما يكون الأمر متعلقا بلص أو أكثر اقتحوا السفارة كي يسرقوا خزينة السفارة أو رواتب الحارس المغدور به والذي كان يفضل جمعها مثلما هي بالدولار عوض صرفها ثم إيداعها بالبنك… وما هو مؤكد هو أن المجرمين لم يتركون بصماتهم أو أي دليل خلفهم، مما صعب على الشرطة البرازيلية الوصول إليهم .، على الأقل إلى غاية تلك اللحظة وما تلاها من سنوات…. وعلى العموم وبما أن صاحبنا وكل موظفي السفارة القطرية آنذاك، بالإضافة إلى الشرطة وجيران السفارة والصحافة رأوا جثة الحارس الراحل والتشوه الحادث بها على مستوى كل جهة الرأس، فإن صاحبنا حمل معهصدمته النفسية حينها إلى ما بعد بضع سنوات. وتمر أربع سنوات فقط ليجد صاحبنا نفسه داخل سفارة لم يكن الحرس ولا السياج الكهربائي المحيط بسورها لينزع عن صاحبنا خوفا استقر بقلبه ولم يتخلص منه إلا بعد ذلك…. ويتذكر صاحبنا أنه خلال أول زيارة له للمغرب، أي في ماي من سنة 1999، سنة وقوع الجريمة بالسفارة القطرية، أن فكرة انتابته وهو بـالمغرب حينها بألا يرجع للبرازيل، علما أن حارس السفارة السوداني المُغتال كانت تجمعه صداقة ما بصاحبنا على اعتبار أن شقة آخري كانت جد قريبة من السفارة … لكن صاحبنا سرعان ما طرد عنه تلك الفكرة و رجع للبرازيل بعد أيام قلائل من زيارته للمغرب سنة 1999.

وجد صاحبنا نفسه، إذن، داخل مقر سفارة، بل إنها سفارة عراقية  ثم وفي أيام حكم الرئيس الراحل صدام حسين، وما يعنيه كل هذا من إمكانية قيام جهة ما من المعارضة العراقية بعملية تفجير للسفارة، وهو الأمر الذي علق بذهن صاحبنا منذ قراءته لقصيدة بلقيس للشاعر السوري الراحل نزال قباني، والتي كقصيدة كتبها عن زوجته بلقيس بعد أن قُتلت إبان تفجير السفارة العراقية في بيروت سنة 1981… بل إن ما زاد الطين بلة وفسادا هو أن صاحبنا، ما إن وصل إلى برازيليا، أي سنة 1998، و بينما كان جالسا في مقهى عربي كبير ومشهور إذ رأى عربيا بيد مقطوعة عن آخرها، فإذا بعرب أقدم منه في البرازيليُخبرونه أنقاطع تلك اليد هو رجل من رجالات صدام حسين. ولا يتذكر صاحبنا هل ذكروا له أن في البرازيل أم خارجه، لكن آخري إبان عمله بالسفارة القطرية سبق له أن قرأ العديد من الصحف والمجلات البرازيلية القديمة، والتي  تعود لسبعينات وثمانينت القرن الماضي(الكثير منها تسلمتها السفارة القطرية من سفارة  أخرى عربية… ) كانت كافية للتدليل على وجود تنظيمات سياسية عربية كثيرة كانت، بحسب تلك الصحف والمجلات، تنشط في البرازيل، بل وكانت، بحسب وسائل الإعلام البرازيلية، نشطة مثلما كانت، بحسب وسائل الإعلام البرازيلية، تُلزم التجار العرب بأن يساندوها ويدعموها ماديا، دعما للقضية الفلسطينية….

اجتهد السفيرالعراقي من أجل جعل مكتبي، أي مكتب صاحبنا في السفارة بجوار مكتبه وكان بحاجة لمن يثق به أكثر فلا يشي يُسر لا لهذا الديبلوماسي العراقي ولا ذاك و، خصوصا لمن هم خارج السفارة من صحفيين برازيليين بهم كل عطش فضولي من أجل الفوز بسبق صحفي يجلب ضررا ما عليه وعلى بلده… فالسفارة العراقية أخبرت صاحبنا حينذاك أن كونه مغربيا هو ما جعله جديرا بالثقة، لكن صاحبنا قدم نفسه لهم جميعا كبرازيلي لاعتبارات عدة منها عدم ابتزاز أي مشاعر قومية و مواقف سياسية تُقحم صاحبنا و تضطره لاصطفاف ما ضمن خندق لطالما رفضه: أن يكون متعاطفا مع نظام ديكتاتوري أو مُبررا لممارساته… ثم إن صاحبنا فكر أن وضعيته كبرازيلي معناه مساحة لا حدود لها من الحرية، مُلزما غيره من عرب السفارة وغيرها بألا يحدثوه في مواضع دينية أو سياسية تنغص عليه أيامه في بلد هو للمرح لا لاستيراد وتصدير أحزان ومآسي غير منتهية… وذلك رغم أن السفارة العراقية إبان حكم صدام حسين لم يكن داخلها أي حديث عن المذهبية وما كنت لتعرف من الشيعي من السني من ديبلووسييها إلا بعد تآمر معارضين عراقيين على بلدهم من وراء الحدود، فصار السؤال عن الهوية يُطرح داخل السفارة من باب الفضول، ليس إلا ثم كان يتم بهمس وخلف ستار كي لا يتأول طرف آخر السؤال…

وفي غالبية كل تلك الأيام كنت لترى كبريات وسائل الإعلام البرازيلية خارج سور السفارة، يطلون من عربات و شاحنات تلفزية، مصورين كل همسة ورمشة عين وظلوا على ذلك الحال أياما بعد دخولقوات الحلفاء الغازية للعراق ثم أياما قبل ذلك… ينتبه الصحفيون إلى حرق ديبلوماسيي السفارة لوثائق سرية تم أخذها وحرقها على عجل بأمرمن السفير للديبلوماسيين، دقائق بعد التأكد من سقوط بغدادوكل العراق تقريبا، تتصل صحفية من قناةلوبوالبرازيلية الشهيرة، طالبة التحدث مع المترجم الذي كنته، يخرج إليها آخريفيرى أنها واحدة من ربات الجمال، تسأله عما تم حرقه فيرد عليها: أنت بجمال خارقليس جديرا به أن يحرق أعصابه في البحث عن معلومة بشأن ما تم حرقه… تضحك هي ويصرخ من حواليها من صحفيين محاولين اقتلاع سر ما من لسان صاحبنا، لكنهم فشلوا في ذل، ثم يخبرهم آخري أنه كا حريا بهم أن يهتموا بجثث عراقيين محروقة في العراق جراء الغزو على ذلك البلد… يرجع صاحبنا إلى مكتبه، فتتصل به الصحفية الجميلة ذاتها مُغرية إياه بالجلوس على طاولة مقهى من أجل التعارف والتحادث. يعتذر لها أنه لا يسطيع أن يفعل ذلك.فتفشل هي الأخرى…

وكان يأتي إلى السفارة صحفيون كثيرون كي يحصلوا على تأشيرة من أجل الذهاب للعراق والقيام بالتغطية من عين المكان. هذا الصحفي من الأرجنتين وتلك الصحفية من التشيلي وهؤلاء برازيليون ومن هذا البلد و ذاك…  وكان الإحتياط الممزوج بالخوف لدى السفير والديبلوماسيين هو أن يحوز التأشيرة جاسوس ما بقناع صحفي فيتجسس لصالح الولايات المتحدة الأمريكيةمن داخل العراق، ناقلا أخبارا عن تحرك الآليات العسكرية والأماكن الحكومية الحساسة من عين المكان…أتى إلينا صحفي برازيلي من أصل مغربي مشهور الآن في البرازيل وهو ابن أخالزعيم السياسي الأمازيغي الراحل أحمد الدغيرني، أجرى مقابلة مع السفير ترجمتها ثم ذهب إلى حال سبيله… أتى مع بعضهما صحفيان برازيليان آخران جد مشهورين في أيامنا هذه على وجه الخصوص، هما سرجيو دافيلا و جوكافاريلاوغيرهما، وكثيرون منهم شكلت تغطيتهم العدوان الأمريكي على العراق قفزة في مسارهم المهني في البرازيل، بعد ذلك، فصنعتم هذه الحرب ليتحولوا إلى صحفيين كبار وبعضهم إلى مدراء كبريات الصحف، مثل الأول أي الصحفي سرجيو دافيلا والذي صار مديرا لصحيفة فوليا دي ساو باولو كأكبر صحيفة برازيلية على وجه الإطلاق… و خلال كل الأيام السابقة على استعدادات قوات التحالف للعدوان على العراق، كانت تكسر روتين عمل صاحبنا بالسفارة امرأة برازيلية، يظهر من صوتها ومن رسائل أرسلتها للسفارة أنها في الخمسينات من عمرها، وقد بدا أنها كانت باضطرابات نفسية ما. ويتذكر آخري أن تلك المرأة كانت تتصل بهاتفه بالسفارة من ثلاث إلى أربع مرات في اليوم، مُدعية أو غير مدعية أن لها علاقة غرامية مع الرئيس العراقي صدام حسين وأنه التقى بها في بلد أوربي قبل سنوات…. وكان السفير يلح على صاحبنا إغلاق المكالمة في وجهها، ففشلنا في ذلك، وكأنها كانت ممن قرأوا الحديث النبي بأن الله يُحب العبد الملحاح فطبقته حرفيا… حيث ما إن يغلق صاحبنا المكالمة في وجهها حتى تتصل مرات ومرات فيُضطر آخري لسماع قصصها الشيقة الكثيرة والملفقة. وفي مرة من المرات، قالت إن لها بيوتا كثيرة في مدينة ساو باولو وأنها يمكن أن ترسل دليلا بذلك للسفارة وأنها ترحب بالرئيس العراقي صدام حسين في البرازيل لكي يسكن ببيت من بيوتها يختاره هو على ذوقه فيعيشان به سوية فينجو بحياته… وفي مرات أخرى، كانت توصي صاحبنا بأن يذكر الرئيس صدام حسين بأنها لا تزال تحبه…

 لقد كانت أعين السفير، حتى وهو يستقبل سياسيين و صحفيين برازيليين، لا تفارقان شاشة التلفاز الذي بمكتبه كي يتابع المستجدات من قنوات عراقية وأخرى عربية، بينما كان صاحبنا مع الديبلوماسيين يتابعون الأخبار من شاشة تلفاز أخرى بقاعة مخصصة لذلك… كان صاحبنا يتلقى راتبا جيدا بالسفارة يفضل منه حوالي 70 بالمائة بعد دفع تكاليف الإيجار وغيره من مصاريف إلا أن وظيفته تلك سرعان ما تبخرت، حيث عمل بها لخمسة أشهر فقط، بسبب احتلال العراق وتدميره…

ويتذكر صاحبنا أنه اتفق هو و زوجته البرازيلية على إجراءات الطلاق في سنة 2002 التي انتهت بعلاقة صداقة بينهما، فصار هو وهي حرين طليقين كل إلى حال سبيله، بعد فترة زواج دامت لحوالي سنتين ونصف السنة…

وفي تلك الشهورمن سنة 2003 وخلال عمله مترجما بالسفارة العراقية، سكن مع صاحبنا ببيت كبير استأجره الأخير فتى بلجيكي كان  قادما لتوه للبرازيل كي يستقر به، سافرالبلجيكي بعد ذلك إلى ولاية برازيلية أخرى كي يسكن مع حبيبته في بيتها… و كان يسكن مع صاحبنا، أيضا، معلم مغربي حاصل على الإجازة الجامعية في جامعة القاضي عياض في الأدب الإنجليزي وهو جار لنا في المغرب ثم سكن معنا مصري مُلتزم دينيا وفلسطيني من غزة من محبي الحياة، مثله في ذلك مثل صاحبنا…في ليالي برازيليا تلك، كنا نذهب للبارات والملاهي والحفلات والأفراح لعلنا نستلذ بعسل قبلات لعله يلي ذلك أكل للتفاح في تلك الأفراح والليالي الملاح، خاصة في مساءات وليالي الجمعة والسبت والأحد. كيف لا وصاحبنا بحاجة لمعنويات مرتفعة ثم إن يوم الإثنين وما يليه من أيام العمل كانت تتوعد صاحبنا بأثقال نفسية وعمل مرهق لساعات أطول و توترات نفسية وحرب تلوح في الأفق؟!. كان السفيرحاد الطبع مع الجميع حتى قبل ظهور معالم حرب ستُشن بعد ذلك. وما أنقذ آخري من كل توتر أنه أصر على تقديم نفسه للسفير والديبلوماسيين على أساس أنه برازيلي، وفقط ويجب معاملته على ذلك الأساس. وتم هذا من باب تفادي كل إهانة أو استغلال يتجاوز قدرة صاحبنا… خاصة أن السفير العراقي حينها جرب الصراخ في وجه صاحبنا فشل، ذلك أن صاحبنا أعد استقالته وضعها فوق مكتب السفير كي يقتل القط منذ اليوم الأول، فما كان من الأخير إلا أن اعتذر لآخري مُقدما وعدا بألا يتكرر الأمر ثم ممزقا الإستقالة لتبدأ صفحة جديدة بها احترام وتعاون وعلاقة متوطدة بين صاحبنا والسفير. وبما أن السفير كان يكرر أن له علاقة قريبة من الرئيس صدام حسين تتعدى دور الأول كسفير، خاصة وأن له صورة معه لوحدهما، فإن صاحبنا قرر أن يضع علاقة السفير بـ صدام حسين على المحك… ذلك أن صاحبنا لما رأى أن الحرب واقعة ليس لوقتها كاذبة فاقترح على السفير بعث رسالة إلى الرئيس صدام حسين يعرض عليه فيها أجراء إصلاح سياسي عاجل، يُفسح المجال لتعدد حزبي، لحكومة مؤقتة تُدبر شؤون البلد ويستقيلصدام من منصبه ثم يعيش في بلد آخر، قاطعا بذلك الطريق على حرب مدمرة بموازين قوى مختلة، هي لا ريب في ذلك لصالح قوى التحالف. استغرب السفير من جرأة صاحبنا و أوصاه بأن ينسى الموضوع وألا يحدث به إنسانا آخر في السفارة….وفي ذلك الحين، خمن صاحبنا حتى قبل عرض فكرته أنها مغامرة منه لن تجدي نفعا، وأنه يصعب على سفير نقلها لديكتاتور، أي لـ صدام حسين أو أن هذا الأخير سيُصغي لها لكنها كمحاولة كانت بمثابة آخر ورقة يخفف بها صاحبنا عن ثقل نفسي كان يشعر به وكي يريح ضميره…

كان السفير العراقي الممثل لنظام صدام حسين في البرازيل آنذاك في الثالث والخمسين من عمره وكان مقر إقامته هو أحد القصور الفخمة التي اشترتها السفارة العراقية في ثمانينات القرن الماضي… في عهد كان فيه حجم التبادل التجاري بين البرازيل والعراق هو الثاني في الترتيب، أي على مستوى العلاقات التجارية بين البرازيل و كل البلدان الأخرى، بحيث كانت الولايات المتحدة الأمريكية في الترتيب الأول بينما كان العراق يحظى بالترتيب الثاني في حجم مبادلاته مع البرازيل. بل تتناقل الجهات البرازيلية والعراقية أن حوالي إثنين مليون من السيارات المصنوعة في البرازيل كانت تُستعمل في العاصمة العراقية بغداد، في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي… وهذا ما كان يجعل مكانة السفير العراقي في البرازيل لدى وزارة العلاقات الخارجية البرازيلية و رئاسة الجمهورية البرازيلية تحظى باهتمام خاص، حتى بعد الحصار الأمريكي على العراق، انتظارا لانفراجة به كي يستفيد البرازيلوالعراق من ذلك …

و السفير العراقي لتلك الفترة، أي خلال الشهور الأولى من سنة 2003، السابقة والتالية على احتلال العراق، كان يطلب من صاحبنا أن يقرأ له برجه في زاوية الأبراج بالجرائد لعل الأبراج تكذب ما خطط له الأمريكيون وحلفاءهم أو لعله كان ينتظر من برجه أن يُخبره بترقية ما من رئيسه صدام…. وكان صاحبنا يستغرب هذا الأمر، لكنه كان يجد فيه نوعا من الراحة مقارنة بترجمة بيانات تضامن غير منتهية كان يعرف سلفا أنها لن تُجدي نفعا… ارتفعت وتيرة العمل بالسفارة العراقية وصرت، أي صار آخري يعمل حتى خلال ساعات متأخرة من الليل، ذلك أن طبول الحرب دُقت وكان لابد من ترجمة الكثير من المُذكرات والوثائق الرسمية، يُضاف إليها بيانات ومُلتمسات تضامن من جهات رسمية وغير رسمية من بلدان كثيرة بـ أمريكا اللاتينية، ومنها البرازيل. وكانت رسائل التضامن تتواتر من جهات عدة في البرازيل وتتم ترجمة كل شيء لعل الشعب العراقي ونظامه يجدون في ذلك عزاء أو قوة ما، لكن هيهات… ! و كان كل من السفير وديبلوماسيي السفارة في حالة توتر، اشتدت أكثر بعد أكملت قوات التحالف، التي ترأسها القوات الأمريكية، سيطرتها على جل االأراضي العراقية. وكان كل ديبلوماسيي السفارة متحدين فيما بينهم على إدانة العدوان على بلدهم و ضرورة مقاومته، بما في ذلك السفير. لكن ظهر خلاف واشتد بعد ذلك بين ديبلوماسيي السفارة والسفير، والذي صار يبحث عن موقع له في مرحلة ما بعد احتلال العراق.

ينتهي دوام العمل فأرجع للبيت. أتناول وجبة الغذاء، متأخرة ثم أخرج إلى بار في حينا أنا و الفلسطيني الغزاوي الذي كان يسكن معي، بعد أن دعوته للخروج معي، و سأُطلق عليه هنا اسم محمود. في حانة جميلة وكبيرة في الهواء الطلق ومحاطة بأشجار من كل جانب. جلس صاحبنا هو و محمودالفلسطيني، فجرى بينهما الحوار التالي:

صاحبنا: الحرب موشكة أن تقع، يا محمود. سيُدمر العراق وحتما لن يتحول إلى بلد ديمقراطي. في السفارة، لم أكن أعلم من الشيعي من السني من غيرهما، وهذه هي الميزة الوحيدة لنظام صدام حسين. ولو دفع هو ولوحده ثمن جرائمه داخل وخارج العراق ومطارداته لمعارضيه، لما كانت هناك مشكلة، لكنه بلد بأكملة سيُدمر بمن وما فيه…

محمود: قلقك هوقلقي، يا عبد الرحمن، لن يوقف حربا، فبلداننا تلك تقسم ذاتها بذاتها ولا علاقة للدول الأخرى بالأمر إلا من حيث تنفيذهم لما نريده لأنفسنا بأن يُلقوا بنا بقعر كل هاوية، نذهب إليها مُختارين، لا مُرغمين…

صاحبنا: أعلم هذا جيدا وأتفق معك بصدده، لكنه شعب سيتعرض لشتى أنواع القصف والتقتيل ثم إنه العراق بآثاره وحضاراته الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ….

محمود: مادام راتبك يُدفع لك فمالك أنت ومال ما يحدث هناك وبعيدا عنك بآلاف الكيلومترات؟! شوف، يا عبد الرحمن، البلدان العربية ليست سوى خرية ومقسومة بخيط ومقدر عليها أن تنقسم إلى ما لا نهاية. أنا، كما تعلم، تركت غزة وعشت لسنوات بـ مصر ثم ليبيا وفي الاخيرة جمعت ما إنه رأسمالي اليوم… والآن أنا في البرازيل ولا تهمني أخبار إضافية سيئة تأتي من هناك لتنغص علي فرحي في البرازيل…مآسينا غير منتهية…

صاحبنا: لو فكر كل فرد من بلداننا العربية تلك بنفس المنطق الذي تنطلق منه أنت لما تعاطفنا مع قضية بلدك، كفلسطيني، يا صديقي.

محمود: و هل طلبت من أحد التعاطف مع قضيتنا وهل تراني أعيش بـ غزة أو بـ الضفة؟ كلا. لعلمك أنا متعاطف مع قضيتي الشخصية تحديدا والمتمثلة في فتح مشروع تجاري في أقرب وقت، ذلك أن 130 ألف دولار والتي أودعتها في البنك تُدر علي أرباحا سخية كفائدة مصرفية، لكن المشروع سيُدر علي أرباحا أكثر. ثم إن أبناء بلدي لن يرتاحوا  كما لن يريحوا الصهاينة إلى أبد الآبدين…..

في الطاولة المقابلة لنا تجلس فتيات وكانحظه أنه جالس باتجاه الأجمل منهن. يقررمحمود إيقاعها في حبائله عبر حيلة لديه معهودة، غالبا ما يُحالفها النجاح، بأن يُدير ظهره لهامُغيرا الكرسي بآخر، عُنوة وكي يجرح بذلك كبرياءها. تفشل خطته معها، إذ تنتقم منه فتقترح على صديقاتها تغيير الطاولة والجلوس في الجهة الأخرى من البار بعيدا عنا فأعض أنا على لساني  أنني دعوته للجلوس معي في بار… ثم يجري بيني وبينه هذا الحوار:

صاحبنا: ليس في كل مرة تسلم الجرة، يا محمود، وها إنك، يا صديقي، أضعت علي وعليك فرصة ثمينة: أربع عصافير حطت قربنا وكن بحسب ما رأيته، بنية التعرف علينا، حيث تركن طاولات فارغات أمامهن في مدخل البار وأتين للجلوس قربنا. ثلاث منهن جميلات و واحدة فقط هي القبيحة،فلماذا أهنت واحدة منهن بشكل مجاني و دون تنسيق فيما بيننا؟!

محمود: لا تهتم، لا تزال بأيدينا فرصة أخرى معهن: سأغير الخطة إلى أخرى وسأحرق قلبها عن طريق دعوة القبيحة للرقص معي في البار وسأقترح على عازف البار أن يختارأغنية من الأغاني المخصص لرقصة الفورو( الراء المكتوبة فيها بالبرتغالية تُنطق هاءا في اسم الرقصة بسبب تكرار الراء في البراتغالية، و رقصة الفورو أو بنطقها الصحيح الفوهو. وهي رقصةبرازيلية تتم بإيقاع سريع وبالتصاق الجسدين مع حركات دائرية وجانبية ثم متنقلة…)

صاحبنا: هب أن القبيحة رقصت معك ثم قررت بعد ذلك أن تأكل عسلك وأن تأكل أنت عسلها، أتُراك تقبل بأن تأكل تفاحة لا تهواها نفسك؟!عن نفسي: أنا لن أقبل هذا…

محمود: أنتم تقولون في لهجتكم المغربية ” لا تعلمه(شيئك) العـﮔز(الكسل والتراخي)ولهذا فإني لا أمانع في أكل تفاحتها، لكن، ثم وهي بالسرير، سأغطي وجهها بعلم إسرائيل كي لا أراه…

صاحبنا: ههههه…أنا عكسك تماما… ثم إني الآن عزمت رمي شبكتي في طاولة أخرى بالبار لأنهن صرن برأيي ورقة محترقة وأمر ميؤوس منه.

محمود: أنت تبالغ، يا عبد الرحمن، سوف ترى…وإذا فشلت خطتي سأطلب من النادل أن يمنحها ورقة أكتب لها فيها اسمي ورقم هاتفي  ثم عبارة من تلك العبارات الرومنسية المحفوظة و الكاذبة و سوف تقع بشباكي. لا شك في ذلك

صاحبنا: لنرى… اعلم، يا محمود، أن القبيحة ذاتها سترفضك تضامنا مع صديقتها وحتى لا تفقد صداقتها. المرأة المجروحة في كرامتها تنتقم ولو بجمع جيش بأكمله ضد فأر صغير… هناك اتفاق ضمني بينهن، حيث إنهن في بارات البرازيلكالجسد الواحد، إذا أهينت إحداهن تداعت لها الأخريات و تضامن معها…

محمود: لنتحدث فيما بيننا في مواضيع شتى وننسى من هن حولنا فقد تأتي السمكة وتدخل إلى الشبكة لوحدها في غفلة منا ونحن نتحدث وكل منا يركز فيما يقول صاحبه… قل لي، يا عبد الرحمن، لماذا قبلت بأن يعيشأحمد المصري في بيتك، ها إنه ضيق علينا جميعا بسبب إسقاطه لطائرة الدين في كل بستان لا علاقة له بالمواضيع التي نتحدث عنها في البيت… ثم إنه يفعلها في كل مرة ؟! إنه منافق وأنا أتفاداه.

صاحبنا: أمواله، بحسب كلامه، أوشكت على الإنتهاء و كان يعيش في بيت أهل صديقه المثلي البرازيلي مارسيلو والذي كان يُغريبه بأنه سيعالج مشكلته في حيازة وثائق البرازيل عبر تزويجه من ابنة أخته الجميلة وهو طلب مني العيش معنا، فقبلت….

يتركني محمود الفلسطيني في مكاني. يتصل بي أحمد المصري و يقترح أن نذهب سوية إلى مطعن جرافة أي الزرافة وهي شبكة مطاعم برازيلية. يأتي طبقي من الأكل ثم يذهب أحمد المصري لاستلام طبقه. ينتبه إلى أنهنسي أن يطلب منهم عدم وضع سلطة بها القليل من لحم الخنزير، رغم أنها مجانية و معزولة عن باقي الأكل. يصرخ أحمد في وجه عمال المطعم في مظهر نفاق يتوقع منه وعبره أن عمال المطعم لابد وأن يعلموا أنه مسلم ثم لابد وأن يعلموا، أيضا، أن المسلم لا يأكل لحم الخنزير…. أطلب منه الجلوس ثم يجري بيني وبينه هذا الحوار:

صاحبنا: لقد شوهتني، يا أحمد، في هذا المكان الذي أجلس فيه منذ مدة طويلة… عيب عليك.

أحمد: عجيب، يا أخي هوما مُش عارفين أنني مسلم وأن المسلم لا يأكل لحم الخنزير؟!

صاحبنا: أنت قمت بمسرحية رخيصة وفجة، وفعلتها لمجرد أن تُخبرهم أنك مسلم. طُز فيك، يا أخي وفي إسلامك. أنت بـ البرازيل، حيث لا يأخذ غالبية الناس حتى المسيحية على محمل الجد. عش حياتك الدينية بينك وبين ربك ودون القيام بدور مسرحي رخيص…!

أحمد: لا عتاب وخلينا نغير الموضوع إلى غيره…

صاحبنا: طيب. كيف صارت العلاقة بينك وبين مارسيلو. حتنتهي بزواج ولا لا؟اعتبرني واحد من الشهود، يا أحمد!

يحمر وجه أحمد كثيرا ثم ينفجر ضحكا و يقول: حرام عليك، يا عبد الرحمن، مجرد التفكير في ربط علاقة بين رجل و رجل هو إثم عظيم عند الله.

صاحبنا: لكن عينيه مُصوبتان باتجاهك في كل مرة، سواء في بيت أخته أم في أي مكان نجلس فيه، ثم إن الحب ليس حراما. إعطيه فرصة، يا أحمدمن فضلك فهو إنسان لطيف خدوم و مؤدب ثم إنه يتعلم اللغة العربية ويذهب للمسجد… فمن يدري، لعل و عسى….؟

أحمد: صحيح، إنه يصلي في المسجد، لكن ربما لأنه يريد أن يتوب من فعلته فلا يظل مثليا… لكنني أعرف أن نيته غير سليمة معي في هذا الموضوع، و أعوذ بالله من هذا… إنه يستعمل ابنة أخته وكأنه يريدها لي وأنا أريدها هي، فأنا بحاجة لزواج ينتهي بوثائق برازيلية في أقرب وقت، توجد أكثر من سفارة عربية تريد التعاقد معي، لكنني بدون أوراق هذا البلد… هو صحيح أن مارسيلو إنسان “خول”، شافاه الله. لكنه طيب و خدوم… الأمر…

صاحبنا: أنت هنا تنافق نفسك، يا أحمد، و تمارس إثمين دينيين تبررهما لنفسك: تريد خداع برازيلية أنك تريد الزواج منها بينما أنك تريد فقط الأوراق ولا تعتبر هذا فاحشة!!ثم إنك أيضا تستعمل مثليا، يُلازمك كأنه ظلك، لأجل غرضك وأنت غير راض عن ذلك وهو مما يناقض ما تؤمن به وتقول عنه أنه فاحش وتنسى حسناته  …؟!!

وأحمد هذا كان يعمل موظفا حكوميا في مصر و هاجر إلى البرازيل في بداية سنة 2003…شاب في حوالي الثانية والثلاثون من عمره، جد خجول وحسب كلامه وهو ما ظهر منه لم يسبق له مجالسة فتاة قط خارج إطار عائلته.

ثلاثة أشهر بعد انتهاء عمل صاحبنا بشكل رسمي، كترجم للسفارة العراقية بالبرازيل، وجد عملا له كأستاذ للغة العربية بـ جامعة برازيليأ، وهي جامعة فيدرالية حكومية، باشر عمله فيها في منتصف شهر أغسطس من سنة 2003 وظل آخري بعمله بها لخمس سنوات، أي إلى غاية 31 من يوليو من سنة 2008. وخلال هذه الفترة ذاتها، عمل صاحبنا مترجما للرئيس البرازيلي لويس إناسيو لولا ذاسيلفا، الرئيس البرازيلي لتلك الفترة والذي، أي الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا، عاد ليحكم البرازيل منذ بداية سنة 2023 للمرة الثالثة عبر تصويت أغلبية الشعب البرازيلي لصالحه…

عبد الرحمن بلحداد

  يُتبع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى