مذكرات

يوسف الطالبي يواصل محكيات الطاكسي في زمن كورونا 8

سعى سليمة بادعاء أنها مربية تفادي الحرج الناتج على كونها تدحرجت من رئيسة مغسل إلى خادمة بيوت

استوت الزبونة التي استوقفته على المقعد الأمامي وأطلقت تنهيدة عميقة أنهتها بحوقلة، لكز العداد ودفع محول السرعة، توقف فضوله عند تنهيدة السيدة الجالسة جواره، لا بد أن تكون وراءها قصة تستحق أن تروى، لكنه تردد في جعلها تحكي، قصص الناس تتعب قلبه وتفقده متعة الحياة، تجعل جهوده في إقناع نفسه أن فيها ما يبهج تذهب سدى، هو في حاجة إلى شيء تافه يطرد حالة المزاج العكر التي تغشاه، مد يده إلى جهاز الراديو وشغله، جال على المحطات المتاحة، مذيع يتلاعب بصوته ليسلي المستمعين، مخدوعة تريد اختبار وفاء حبيبها بعدما ضبطت رسائل غرام مع أخريات على هاتفه، صب لم تعد محبوبته ترد على مكالماته، طبخ، مودا، تجميل، تغذية بلا بلا بلا بلا…، كل ذلك لا يجعله يصرف النظر على التنهيدة، شيطانه الصغير لا يطاوعه، لقد أصبح يخرج مطاردا القصص أكثر ما يسعى إلى تأمين مصروف يومه الموالي، أي ورطة هذه التي ورط فيها نفسه مع هذه المحكيات، صار كصياد علق في شباكه التي نصبها هو نفسه، حين بدأها كانت مجرد فكرة لتنشيط حائطه الفيسبوكي وإمتاع صديقاته وأصدقائه، هاهو اليوم يجني شر أعماله، تماما كما يدخن اليافع السجارة الأولى للاستمتاع والتظاهر حتى يجد نفسه مدمنا، وتستحيل المتعة معاناة.
– ياك لا باس مالكي كتسوطي غير بوحدك؟
كان السؤال كضغطة على زر التشغيل. لم يكن استيلاء لصوص على دراجة زوجها النارية قبل أسبوعين والتي كانا يستعملانها في تنقلاتهما إلا مقدمة لمحكية جديدة تبدأ أيضا مذ حطت كورونا رحالها بين ظهرانينا.
كعادته، يغادر أحمد زوج سليمة عمله في المصبنة الصناعية الكائنة بسيدي غانم على الساعة الخامسة مساء، يمر في طريقه إلى حيث تعمل زوجته عبر مدارة سوق العواد بين سوق السيارات المتلاشية ودوار شعوف، فوضى عارمة، وفضاء يشكو قلة عناية الباعة يعرضون سلعا مختلفة، خضرا وفواكه وأواني مطبخية وملابس جديدة ومستعملة، محلات بيع مأكولات وجزارة ومشاوي تملأ الفضاء دخانا ، كل شيء هنا للإيجار شاحنات وسيارات نقل الأمتعة وآليات الحفر أدوات البناء، حتى الإنسان للإيجار، صباحا حتى العصر، يصطف الرجال عارضين قوة عملهم للبيع، وبعد المغرب تقطع نسوة بأحمر شفاه فاقع المكان جيئة وذهابا، يكون عمال البناء وعارضو قوة العمل قد أنهوا عمل يومهم وتحصلوا على أجرة، وتبحث النسوة المتجولات هناك على نيل حصتهن منها، ، ينعطف يسارا، و بعد دقيقتين يتغير ذلك العالم الفوضوي، تستقبلك مصحة بواجهتها ولوحاتها الاشهارية البادخة، منذ اتخاذ قرار بتحرير الاستثمار في قطاع خدمات العلاج، والذي صاحب خفضا للغلاف المالي المخصص من الميزانية العمومية للصحة، نبتت مصحات في كل مكان من المدينة، حتى في الأحياء الشعبية حيث لا توجد حافلة نقل عمومي، بنيت مصحات خاصة. يواصل أحمد سيره عبر طريق تمتد بين حيين مما سرى نعتها براقية، يسارا حي لالة حية، ويمينا حي المصمودي، مرور كل حامل لعلامات الغربة الاجتماعية عن المكان، يجعله يحس أنه تحت مراقبة أعوان الحراسة الخاصة وكاميرات المراقبة المتبثة على كل منزل، يخيل إليه أن الكلاب أيضا مدربة ضد رائحة الفقر.
كانت سليمة زوجة أحمد تعمل خادمة بإحدى الفيلات بحي المصمودي، حين تُسأل عن عملها، ترد أنها مربية يأتمنها مشغلاها على إبنهما وبنتهما، تقول أنها تسهر على كل ما يخصهما من ترتيب غرفتيهما واستحمامهما وتغيير ملابسهما وإنجاز واجباتهما المدرسية، تزعم أن السيدة سامية وزوجها عماد منذ تعرفا عليها وهما يتمسكان بها ولا يقبلان طلبها الرحيل الذي فاتحتهما فيه أكثر من مرة، وكلما فعلت زادا من الحوافز لجعلها تصرف النظر عن فكرة ترك العمل عندهما، لقد وجدا فيها أفضل من يؤتمن على ابنيهما، إلى خصال الثقة والأمانة التي تتمتع بها، ينضاف ما تتسم به من ضبط وتنظيم في عملها، فسليمة لا تترك عملا إلا بعد إنهائه, وإن كان ما يمنع ذلك في ساعته، دونته في مفكرتها التي تحتفظ بها في جيبها، عملها المنظم هو نقطة قوتها حتى في عملها الذي كانت تشغله قبل أن تنتقل إلى بيت السيدة سامية، تقول سليمة أن تمكنها من الرياضيات والفرنسية وشخصيتها المشحونة بالطاقة الايجابية يجعل مشغليها يفضلان أن يتأثر الطفلان بها، ولولا تعلقها العاطفي بالصغيرين لتركت العمل عندهم، فمشغلها السابق لا يتوقف عن الاتصال بها للعودة للعمل حيث كانت، تقول أنه يشكو من ارتباك في سير العمل وارتفاع شكايات عملاء المصبنة القلائل بعد مغادرتها لها.
تسعى سليمة بادعاء أنها مربية تفادي الحرج الناتج على كونها تدحرجت من رئيسة مغسل إلى خادمة بيوت، فقد أدى إغلاق الفنادق السياحية بمراكش إلى تراجع الطلب على خدمة تصبين الأفرشة والأغطية وأغطية موائد الأكل والأرائك والزرابي وبدلات المستخدمين، عمد مالك المصبنة بسبب ذلك إلى إغلاقها كلية في مرحلة أولى، وعندما أعاد فتحها بعد رفع حالة الحجر الصحي، قلص عدد المستخدمين إلى أقل من الثلث، كان أحمد ضمن المحتفظ بهم، في حين سرح سليمة وآخرين، حين حاولت استعطافه وثنيه عن القرار، دعاها لأن تحمد الله أن التوقيف لم يشملهما معا، فقد راعى وضعهما، يقسم بأغلظ الأيمان أنه إنما أعاد فتح المصبنة إلا لقلقه على مصير العمال، كانت سليمة أقدم العاملات المكلفات بغسل الأثواب الخفيفة، سنوات الأقدمية ودقتها هي وتركيزها في العمل جعلها تحظى ببعض الامتياز عليهن، تتفحص الأثواب أثناء مرحلة الكي مليا لئلا تعود إلى العملاء وبها بقع، وفي حال ما شابتها شائبة، تأمر بإعادة غسلها، أما ما يحتاج منها لرتق أو إصلاح عقدة أو سحَّاب فكانت تحوله إلى المكلفين بذلك، وكان الرجال من يتكلفون بغسل الزرابي والأرائك.
كانت عادة أحمد أن يمر في طريقة على البيت حيث تعمل زوجته ليقلها خلفه على الدراجة الى البيت، و إذا ما كانت لا تزال منشغلة، تجعله يدخل من الباب الخلفي المؤدى إلى المطبخ مباشرة، تجلسه إلى طاولة، وتقدم له بعضا مما فضل على غذاء عائلة مشغلتها سامية، في الحقيقة كانت تتعمد دائما التأخر في إنجاز بعض المهام المنزلية، إذ كان ما يتناوله زوجها هناك يعفيهما من مصاريف وتعب وجبة العشاء بالبيت، كانت سامية وزوجها على علم بذلك ولم يبديا قط أي اعتراض، فقد تطوع أحمد في أكثر من مرة لإنجاز بعض المهام بالبيت، أصلح تسربات ماء، وزرع شجيرات جديدة اشترتها سامية، وغسل السيارتين مرارا وأزال من مياه حوض السباحة أوراق الأشجار الميتة الساقطة فيه.
على عادته، قرع أحمد جرس البيت بعد أن أحكم إقفال دراجته النارية حيث اعتاد تركها، من داخل المطبخ ضغطت سليمة على زر فتح الباب، على المائدة كانت قد وضعت طبق مرق بلحم البقر وخبزا وحبتي فاكهة.
عند خروجهما كانت الدراجة النارية قد اختفت، لم تعد هناك حيث تركها، حاول استرجاع شريط الأحداث، تأكد أنه بدون أي شك وضعها هناك حيث يتركها كل يوم، بحث في أزقة الحي، سأل أعوان الأمن الخاص التابعين لشركة يفوضها السكان لتأمين الحراسة والبستنة، لا خبر يفيد في مصير الدراجة، كل ما أفاده به أحد الأعوان هو إخباره أن أربعة شبان غرباء مروا قبل قليل على متن دراجتين ناريتين، يقول أنه ظل يراقبهم حتى ابتعدوا وانعطفوا، تاركين مجال مسؤوليته، بات في حكم المؤكد أن ناقلتهما قد سرقت، وإذا ما تبث الأمر، فإن ذلك سيكون كارثة، فقد تمكنا من شرائها قبل أقل من سنة بعد عناء كبير، ادخرا نصف ثمنها بالاشتراك في مع مجموعة من الناس في “قرعة”، واقترض زوجها من أخ له الباقي، ساعدتهما سامية بمبلغ ألف درهم أديا منها واجب التأمين لستة أشهر واشتريا خوذتين.
راجعت سامية تسجيلات كاميرتي المراقبة المتبثتين على الواجهة الخلفية للبيت، الموجهتين لتوثيق كل تحرك قرب الباب، دراجاتان ناريتان تقطعان الزقاق مرتين، نزل الراكبان الخلفيان من كلي الدراجتين، فيما تمركزت كل واحدة في نهاية الزقاق من جهة، كان راكباها يراقبان حركة الناس والحراس، بواسطة قاطعة كهربائية لاسلكية ومفاتيح كثيرة تجمعها سلسلة تمكن الراكبان من قطع القفل وتشغيل الدراجة والانطلاق بسرعة، حسب العداد الزمني الظاهر في الشاشة لم تستغرق العملية أكثر من ثلاثين ثانية.
استقبل عميد الدائرة الأمنية بتوصية من عماد زوج سامية أحمد وسليمة، جعل شرطيا يدون شكايتهما، وعززها بقرص يتضمن فيديو السرقة كما صورته كاميرا المراقبة، رغم تطمينات العميد ووعده ببذل أقصى جهد لاستعادة الدراجة أو توقيف اللصوص إكراما للسيد عماد صاحب الأفضال على الجميع والأسم المعروف بالمدينة، خرجت سليمة وزوجها شبه يائسين، فما عساه يفيدهم اعتقال اللصوص إذا كانت الدراجة قد اختفت أو تم تقطيعها.
كان أحمد منشغلا بإنجاز ما يدخل في مسؤوليته حسب التقسيم الجديد للأدوار فقد فرض تقليص عدد العاملين إعادة تنظيم العمل في المصبنة حين رن هاتفه، كان المتصل هو العميد الذي يطلبه للحضور إلى مقر الشرطة القضائية بولاية أمن مراكش، هناك طلب منه أن يتعرف على دراجته بين عدد من الدراجات النارية، كانت لا تزال كما كانت، حالتها جيدة، كان يتخوف في حالة ما إذا عثر عليها أن تكون مفككة إلى أجزاء، أو إعيد طلاؤها وتغيرت الملصقات التي تزينها، فقد حكى له صديق كان قد علم بموضوع السرقة، أن لصوص الدراجات النارية إما يفككونها ويبيعونها أجزاء، أو يغيرون مظهرها حتى لا يتعرف عليها من سلبت منهم وإن صادفوها.
[ ] في مكتب أحد المفتشين المكلفين بالقضية عرض على أحمد وسليمة شخصان في منتصف عقدهما الثالث، كان واضحا دون ريب، أن أحدهما واحد من اللصين اللذين يبدوان في فيديو كاميرا المراقبة، أما الثاني فقد عرف من المفتش أنه أحد راكبي الدراجتين اللذين تكفلا بمراقبة الزقاق، علم من المفتش أنه تم توقيف اثنين فيما لازال شريكاهما في حالة فرار. أسر إليهما أنهما محضوضان لعثورهما على ناقلتهما، وإلا فإن المئات من المسروقات تضيع إلى الأبد وأنه منذ بداية الجائحة وما تسببت فيه لعدد كبير من الشباب في فقدان عملهم أو وقف أنشطتهم التجارية تنامت عمليات السرقة بكافة أصنافها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى