ثقافة

هاروكيموراكامي ومهنة الرواية

عبد الإله إصباح

يكاذ قراء العربية لا يعرفون شيئا عن الأدب اليباني إلا من خلال هاروكيموراكامي . صحيح أنهم يسمعون بالهايكو كطريقة وأسلوب جديد في قول الشعر عرف به هذا البلد الأسيوي، و منهم  من اطلع على ترجمات لمختارات من هذا الشعر ، غير أن ذلك يبقى غير كاف لتعميق المعرفة بهذا الآدب من خلال مدارسه واتجاهاته. يتيح هاروكيمراكامي فرصة للاطلاع على  جانب من المشهد الأدبي باليبان من خلال جنس الرواية الذي تخصص  وأبدع فيه مجموعة من الأعمال التي صنعت شهرته وكرست اسمه كواحد من أشهر الروائيين ليس في اليبان فقط، بل في العالم كله، إذ ترجمت أعماله إلى أكثر من خمسين لغة، وتصدرت بعض رواياته قائمة المبيعات في أمريكا و أروبا. ومن أبرز هذه الروايات ” الغابة النرويجية”  “مطاردة خراف وحشية”  ” رقص رقصرقص ” ” أرض العجائب القاسية و نهاية العالم”  ” يوميت طائر الزنبرك” وغيرها من الأعمال الإبداعية المتميزة.

أصدر مؤخرا كتابه ” مهنتي هي الرواية” الذي يعرض فيه جانبا من سيرته الأدبية في العلاقة حصريا بالإبداع الروائي، وكيف ولج هذا المجال الشائك والوعر عندما فازت روايته الأولى بجائزة مخصصة  للأدباء الناشئين. كان وقتها في الثلاثين من عمره ، وكان قد كتبها من باب الهواية على غرار كتابته لجنس الشعر. غير أن هذا الفوز جعله يفكر في أن يتعاطى مع الرواية كمهنة وليس كهواية فقط. كان هاروكي  قد تزوج قبل حصوله على عمل، وبالرغم من تخرجه من الجامعة، فإنه لم ينخرط في سلك وظيفة حكومية، بل اسس مشروعا صغيرا عبارة عن مقهى للجاز، إذ كان مولعا بهذه الموسيقى، وحين قرر امتهان الرواية تخلى عن هذا المشروع رغم  إلحاح أصدقائه بأن يحافظ عليه لأنه لا يملك مصدرا آخر للدخل غيره. أصر إذن على أن يحرق جميع السفن ويتفرغ كليا لمهنة الرواية. تجربته الطويلة في مجال الإبداع الروائي جعلته يدرك أن مجال الرواية كحلبة الملاكمة ليس المهم أن تدخلها ولكن أن تستمر فيها، فكم من كاتب ألف رواية واحدة واختفى نهائيا من المشهد الأدبي، فالقدرة على الاستمرار والمثابرة هو ما يجعل الروائي يستحق لقبه فعلا، وهاروكي استحق لقبه كروائي لآنه استطاع أن يصمد لأكثر من خمسة وثلاثين سنة . كافح بالفعل وتحمل المشاق والمعاناة والخيبات، يتذكر أنه كان قد كتب رواياته الأولى في مطبخ منزله الصغير، وكتبت عنه مراجعات سيئة في المجلات الأدبية، وتعرض للإحباط كثيرا من جراء ذلك، ولكن بإصراره استطاع تجاوز هذه المعيقات والاكراهات المدمرة. أكدت له تجربته الطويلة أنه لكي تكون روائيا ينبغي أن تكون قادرا على أن تعتزل الناس وتجلس إلى المكتب لمدة خمس ساعات يوميا على الأقل، وموراكي إذا انخرط في عمل روائي جديد ينقطع له كليا ولا ينشغل بأي شيء آخر حتى ينهيه تماما بعد تنقيحه ومراجعته مرارا وتكرارا، وقد يعيد تنقيحه من جديد  إذا طلب منه ذلك المحرر الأدبي لدار النشر. حين استقر في أمريكا حظي بمترجمين أكفاء كان لهم الفضل في أن يتعرف عليه قراء الانجليزية  وتمتد شهرته عالميا. عندما يتأمل مساره الأدبي، يصل إلى نتيجة مؤكدة، وهي أن المدرسة لم يكن لها أي دور في ذلك، لآن نظام التعليم في اليبان مؤسس على جعل التلميذ أو الطالب ينجح في الاختبارات الإشهادية أو اختبارات القبول في المعاهد والجامعات، و لا يعطي أهمية لتكريس الشغف بالقراءة ، إنه نظام تنافسي يرهق الطلاب وعائلاتهم ويدخلهم في دوامة من القلق والتوتر لا تنتهي. موراكي لم يكن من المتفوقين دراسيا لآنه لم يستجب لمعايير المنافسة الشرسة التي يفرضها النظام التعليمي، وفي المقايل كرس جل وقته للقراءة بعيدا عن المقررات الدراسية، وكان يفضل قراءة الرواية سواء لأدباء يبانيين أو أجانب، وبذلك استطاع أن يفلت نفسه من قبضة منهاج تعليمي قائم على مردردية نفعية مرتبطة بسوق الشغل ومتطلبات الرأسمال. موراكي هنا يلفت نظرنا إلى أن أي نظام تعليمي له مشاكله وأزماته حتى لو كان نظام تعليمي لدولة متقدمة مثل اليبان.

نحن إذن أمام روائي يباني متفرد بإبداعه، استطاع أن يستمر ويصمد في حلبة الرواية دون انقطاع وأثبت فعلا أن مهنته الوحيدة هي الرواية. وبعد كل هذه السنوات في هذه المهنة الشاقة، فإن موراكي مازال يعتقد أنه قابل لمزيد من النمو ولذلك يقول ويؤكد ” لا توجد حدود تقريبا لمدى النمو الذي قد أحققه وإمكاناته، أومن بأنها تكمن بداخلي “

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى