الحكاية اسمها مكان

موكادور..جزيرة التلاقحات الحضارية بالمغرب قديما

وتضم الخريطة الأركيولوجية للصويرة وضواحيها ما يقارب مائة موقع يرجع إلى حضارات ما قبل التاريخ

حسن البوهي

يُعد الموقع الجغرافي لجزيرة موكادور أو جزيرة الحمام من أقدم المواقع الأثرية بالمغرب، فهذه الجزيرة التي تمتد على مساحة تقدّر ب30 هكتارا تختزن بين ثناياها لقى وشواهد أثرية تحبل بمؤثرات حضارية غنية تؤرخ لفترات مهمة من تاريخ المغرب القديم، وقد تحدثت عنها العديد من النصوص التاريخية مشيرة إلى موقعها الجغرافي في أقصى جنوب العالم القديم على بعد 500 كيلومتر من مدينة سلا كموقع استراتجي لمركز تجاري مهم يرتاده التجار الفنيقيون، وتمكنت التنقيبات الأثرية من إماطة اللثام عن العديد من المعطيات التي تؤرخ للمراحل الأولى من الاستقرار البشري بالجزيرة، كما كشفت على جوانب مهمة من الخصائص التي ميزت نمط عيش المغاربة القدماء على ضفاف البحر وطرق تفاعلهم مع الجماعات البشرية الأجنبية الوافدة عليها.

جزيرة واحدة بتسميات متعددة

ارتبط ذكر جزيرة موكادور بالعديد من التسميات، فقد أشار إليها سيلاكس في رحلته الشهيرة باسم “لوكرييني”، فيما تحدث عنها “بلينيوس الشيخ” وهو عالم طبيعيات لاتيني عاش في القرن الأول الميلادي باسم الجزر الأرجوانية وتعود أصول هذه التسمية إلى أن الجزيرة كانت معروفة في عهد ملك موريتانيا يوبا الثاني ( 25 سنة قبل الميلاد-23 سنة بعد الميلاد) بإنتاجها للأصباغ الأرجوانية التي كانت تستعمل في التزيين، وتدل بقايا المصانع التي كشفت عنها الحفريات الأثرية على أن الجزيرة لعبت دورا طلائعيا في الحركة التجارية التي تربط الامبرطورية الرومانية بدويلات البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، وفي القرن الثاني ميلادي ستتخذ تسمية “تاموسيكا” على يد الملك الموريتاني “بطليموس” الذي أشار أنها مدينة تتربع على المحيط الأطلسي تقع بين رأس هرقل (رأس الحديد) ورأس أسايدون (رأس سيم)[1]، ولم يستبعد الباحث الفرنسي أندري جودان [2] في معرض حديثه عن مصانع الأرجوان الرومانية أن يكون الموقع الحالي لمدينة الصويرة يطابق موقع تاموزيكا، واستنتجت الأستاذة مينة المغاري[3] أن تاموسيكا أو تاموزيكا لا يختلف عن صيغ أسماء مدن أمازيغية مشهورة مثل تامودا وتاموسيدا وهي أسماء محلية لأنسجة حضارية قديمة لم يبق منها سوى الطوبونيم.

كما ذٌكرت أيضا باسم “كاريكون تيكوس” في متن رحلة حانون، وأوردت الدراسات والأبحاث الأثرية أن الأمر يتعلق بمدينة ليبية توجد يسار أعمدة هرقل استعمرها الكاريون وتضم نسيجا بشريا من الليبيين – الفنيقيين[4] وتحيل التسمية على التحصين وقد يكون تحريفا لاسم فنيقي أو أمازيغي.

أشار البكري إلى الموقع القديم لموكادور في صيغته الأمازيغية “أمكدول” “أمجدول” أو “أمقدول” وهذه الكلمة تطابق “مكدول” بكسر الميم MIGDOL المتداولة عند الفنيقيين وتعني الحصن العظيم، وقد حظيت ذات التسمية[5] باهتمام باحثين وأركيولوجيين وأجمع جلهم أنها مشتقة من الأصل الثلاثي “كدل” GDL وهي تحيل على معنى الحماية، المحافظة، والمنع أو التحريم وهي معان تطابق الحصن أو البناء المحصن بالفنيقية أو بالأمازيغية.

جزيرة موكادور قبالة مدينة الصويرة

استقرار بشري قديم..ورواج تجاري مديد

حظيت جزيرة موكادور ببحوث أثرية منذ خمسينات القرن العشرين، حيث قام ديجاك ثم كوبرلي  Desjacques et Koeberlé بالتنقيبات الأولى، وسبقتها دراسة أولى للمؤلف سنتاس Cintas قارب فيها التوسع القرطاجي بالمغرب[6]، ثم واصل جودان Jodan في الفترة الممتدة بين 1956 و1958 وكشف عن مجموعة من نتائج البحث ضمنها في كتابه[7].

 رغم ما كتب عن موقع الجزيرة فإنه يبقى هزيلا من الناحية الكمية والنوعية، وذلك لتوقف الأبحاث الأثرية، وقد اقتصرت لحد الآن على الجزيرة لوحدها دون أن تمتد لباقي الجزر الصغيرة المحيطة وإن توسعت بشكل محتشم في بعض المغارات باليابسة التي من المرجح أن الفنيقيين توغلوا إليها بحثا عن الماء وتبادل المنتوجات الغذائية مع السكان المحليين.

أظهرت الأبحاث الأثرية بجزيرة موكادور سواء تلك التي كانت في الخمسينيات من القرن الماضي أو تلك التي استأنفت مؤخرا ما بين سنة 2006 و 2010 على وجود أربع مراحل لاستيطان الإنسان بالموقع، حيث تمتد المرحلة الأولى ما بين القرنين السابع والسادس قبل الميلاد، إذ تم الكشف على لقى خزفية تتخذ شكل أمفورات استعملت في نقل المواد الغذائية، وتحمل في جوانب منها كتابات فينيقية لأسماء بحارة و تجار من أصل شرقي، كما تم العثور على عينات من الحديد ارتبطت بنشاط استخراج هذا المعدن من مناجم جبل  الحديد شمال مدينة الصويرة، وتُعد هذه اللقى أقدم مؤشر على استخراج الحديد بالمغرب، لتجعل من موقع موكادور أبعد نقطة في الجنوب استقر بها الملاحة الفينيقيون لاعتبارات تجارية بحثا عن المواد الأولية خاصة ( المعادن، العاج، الأرجوان…)

    أما المرحلة الثانية التي تُعرف بالفترة المورية فهي تمتد ما بين القرنين الخامس والثالث قبل الميلاد، ويمكن القول أن الموقع في هذه الفترة حافظ على أهميته الاقتصادية حيث عرف نشاطا ملاحيا مهما نتيجة حركية التجار القادمين من شمال المغرب – الموريون (المغاربة القدماء)، وبالموازاة مع ذلك تم العثور في هذه الحقبة على بقايا أجزاء الأمفورات المستعملة في نقل الملح، بالإضافة إلى لقى الخزف الإغريقي المستورد من أتيكا وأجزاء لمزهريات  مصنوعة من الزجاج المزخرف القادم من شرق البحر الأبيض المتوسط.

  تبدأ المرحلة الثالثة التي تُعرف بفترة الجزر الأرجوانية من أواخر القرن الأول قبل الميلاد إلى النصف الأول من القرن الأول بعد الميلاد، وقد حظي الموقع في هذه الفترة باهتمام ملك موريتانيا يوبا الثاني ( 25 سنة قبل الميلاد-23 سنة بعد الميلاد) إذ شّيد به مصانع لاستخراج مادة الأرجوان التي كانت تُستعمل أساسا للتزيين وصباغة الأثواب باللون الأحمر الفاقع- ويعتبر الأرجوان القادم من المغرب من المواد التي كانت تحظى بإقبال الأرستقراطية الرومانية والموريتانية، بالإضافة إلى اللقى الأرجوانية تم العثور على منزل كبير ذو خزان بخصائص فنية بونيقية وهو يُعد من أهم اللقى التي تؤرخ لهذه الفترة، ومن المرجح أنه تم إتلاف لقى أخرى مادية لا تقل أهمية عن سابقاتها بسبب عوامل النحت والتعرية.

في المرحلة الرابعة من التعمير التي تُعرف بالفترة الرومانية تم إدخال بعض التغييرات في تركيب بعض أجزاء الفسيفساء بالمنزل السالف الذكر الذي يعود للمرحلة الثالثة، واهتم الرومان إلى جانب استخراج الأرجوان بإنشاء مصانع التمليح، ونظرا لأهمية الموارد الاقتصادية لمدينة الصويرة وضواحيها التي تُطل على موقع موكادور، ووفرة بعض المواد من قبيل معدن الحديد، العاج، الخشب، السمك… فقد استمر الرومان في التردد على الموقع إلى حدود القرن التاسع بعد الميلاد كما تشهد على ذلك اللقى الخزفية ومختلف الأمفورات الرومانية التي تم العثور عليها بالجزيرة.

استطاعت الأبحاث الأثرية الكشف عن مراحل استقرار الإنسان منذ العصر الحجري القديم  إلى عصر المعادن أو ما يعرف بفترة “ما قبل التاريخ”، وتضم الخريطة الأركيولوجية للصويرة وضواحيها ما يقارب مائة موقع يرجع إلى حضارات ما قبل التاريخ، وتُؤشر اللقى الخزفية التي صنعت بمهارة ودقة عاليتين أرّخت لهذه الحقبة، أن الساكنة المحلية نسجت علاقات بين الملاحة الفينيقيين خلال استقرارهم بجزيرة موكادور، بالإضافة إلى ذلك تم العثور على أدوات قديمة وبقايا مقابر [8]، ولعل من بين الأسباب التي تفسر قدم الاستقرار البشري ترجع بالدرجة الأولى إلى موقعها الجغرافي الذي يتيح عملية الرسو، فكانت محط أطماع الوافدين عليها باستمرار، ويستخلص من الأبحاث الأثرية التي تم إجراؤها بالمنطقة أن الجزيرة كانت مركزا تجاريا نشيطا امتد إليه الفنيقيون والقرطاجيون، وبفضل النشاط الملاحي للفنيقيين فقد كانوا يجلبون للمنطقة بضائع متنوعة[9] من الخزفيات والعطور والأخشاب بحثا عن مراكز تجارية جديدة للتزوُّد بمواد أساسية للأنشطة الصناعية في بلادهم التي كانت تعتمد على المعادن بشكل كبير، وكشف “أندري جودان” في أبحاثه الأثرية عن بقايا “قوالب فخارية” تستخدم لصهر المعادن وعلى بعض شظايا المعادن في الطبقة الأركيولوجية التي تعود للحقبة الفنيقية، ويرجح أن الفنيقيين استقروا بالمنطقة من أجل استغلال مناجم الحديد التي توجد بجبل يحمل إسم جبل الحديد.

لا شك أن جزيرة موغادور وباقي الجزر الصغيرة المحيطة بها ما زالت تتوارى بين أرجائها الكثير من الأسرار الأثرية، وما زال في جعبتها الكثير من اللقى والشواهد التي من شأنها أن تجيب عن العديد من الأسئلة العالقة وتحسم في مدى صحة عينة من الفرضيات التي طرحها الباحثون والأركيولوجون، فمتى تستأنف الحفريات؟ ومتى يزاح الستار عن خباياها؟

حسن البوهي

[1] – مينة المغاري.مدينة موغادور – السويرة دراسة تاريخية وأثرية.دار أبي رقراق.الرباط.2006. ص75

[2] – Jodin.Andre.Les établissements du roi Juba 2 aux iles pupuraires.p 6-8

 

[3] – مدينة موكادور –السويرة دراسة تاريخية وأثرية ص 75

[4] – بلكامل البيضاوية. الصويرة في عصورها القديمة من خلال الكتابات التاريخية.سلسلة أعمال الأيام الدراسية المنعقدة بالصوير ة 26-27-28 أكتوبر 1990.منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية أكادير.1994.ص42-44.

[5] – Salem Chaker.langue berbère à travers l’anosmatique médiévale. Revue de l’occident Musulman et de la Méditerranée..1983.p129

6-pierre Cintas. Contribution à l’expansion carthaginoise au maroc.1954

[7] – André Jodin.carthage et le Maroc phénicien. In bulletin d’archéologie Marocaine.tom 11 1977-1978.p76.

[8] – louis Gentil.dans le blad al siba. Ed.masson.1906.p 62

[9] – محمد رضوان العزفي.السلع المتبادلة بين الفنيقيين والمغاربة القدماء كأقدم نموذج عن العلاقات التجارية مع العالم المتوسطي”.أعمال ندوة “التجارة في علاقتها بالمجتمع والدولة عبر التاريخ”.منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية عين الشق الدار البيضاء.1992.الجزء الثاني. ص208-211

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى