مبدعون في الحياة

فلوبير: مقتطفات من رسائل إلى لويس كوليت 1846 – 1848

ترجمة واقتباس: عبد الكريم أوشاشا

ليلة الثلاثاء، منتصف الليل، 4 غشت 1846

قبل اثنى عشر ساعة، كنا لا زلنا معا. في مثل هذه الساعة كنت أحضنك بين ذراعي…هل تتذكرين ؟ كأنها الآن ذكرى بعيدة. الليل دافئ وهادئ؛ أصغي إلى شجرة الزنبق الضخمة التي تحت نافذتي، وهي ترتجف من الريح، وعندما أرفع رأسي أرى القمر منعكسا في النهر. شباشبك الصغيرة هنا. إنهما تحت ناظري أحدق فيهما، بينما أنا أكتب إليك؛ كل ما أعطيتني إياه وضعته للتو، وحرصت أن أرتبه لوحده وأخبأه جيدا؛ رسالتيك في الحقيبة المطرزة، سأعيد قراءتهما عندما سأختم رسالتي؛ حتى أنني لا أريد أن أستعمل ورق دفتر رسائلي للكتابة إليك، لأن حوافه سوداء: لا شيء حزين أو مدثر بالسواد يأتي إليك مني ! أريد أن أكون فقط مصدرا للفرح، وأن أحيطك بهناء هادئ ودائم، كي أرد لك ولو القليل من ما وهبتتني بكلتا يديك من كرم حبك.

أتذكر لون الأشجار وهي مضاءة مغسولة بنور المصابيح، والنوابض تتأرجح بنا. كنا وحيدين وسعيدين.

أخشى أن أكون باردا وجافا وأنانيا، ومع ذلك فإن الله وحده يعلم ما يحدث بداخلي في هذه الساعة. يا لها من ذكرى ! ويا لها من لهفة ! نزهتينا الممتعتين بالعربة. يا له من جمال ! خاصة النزهة الثانية بومضاتها. أتذكر لون الأشجار وهي مضاءة مغسولة بنور المصابيح، والنوابض تتأرجح بنا. كنا وحيدين وسعيدين. تأملت رأسك في الليل، رأيتها رغم عتمة الظلام، عيناك أضاءت وجهك بكامله. يبدو لي أنني أكتب بشكل سيء. سوف تقرأين هذا ببرود؛ الكلمات لا تسعفني في التعبير عما أريده، هذا لأن كلماتي وجملي ترتطم على إيقاع تنهداتي، لفهمها يجب ردم الهوة التي تفصل بينهما.
سوف تفعلين ذلك، أليس كذلك ؟ هل ستحلمين أمام كل حرف وأمام كل علامة ؟ مثلي أنا، وأنا أنظر إلى شباشبك الصغيرة الداكنة، أستحضر حركات قدميك وهي تنتعلهما، ثم تملؤهما، فيغمرهما الدفء…والدتي التي كانت تنتظرني في محطة القطار، بدأت تبكي عندما رأتني وأنا أعود. أنت، بكيت عندما رأيتني أذهب. هذه هي مأساتي إذن؛ لا يمكنني أن أنتقل من جانب إلى آخر دون أن يكلف ذلك دموعا من كلا الطرفين ! إن هذا بشع ومظلم للغاية. لقد وجدت هنا العشب أخضرا والأشجار ضخمة والمياه متدفقة تماما مثلما كان عليه الأمر عندما غادرت. كتبي مفتوحة على الصفحات نفسها؛ لا شيء تغير. الطبيعة الخارجية تجعلنا نشعر بالخجل؛ فهي تمتلك سكينة وصفاء مؤلم لكبريائنا. مهما كان عليه الأمر، ليس مهما، دعينا لا نفكر، لا في أنفسنا ولا في المستقبل ولا في أي شيء. التفكير معاناة. دعينا نذهب مع رياح قلوبنا التي تحملنا مادامت الأشرعة مفتوحة تدفعنا كما تشاء.. أما المطبات.. سحقا.. لا يهم.. سنرى ما سيحدث.
(رائع السيد…ماذا قال عن الإرسال؟ لقد ضحكنا ليلة أمس. كانت رقيقة بالنسبة لنا، ومبتهجة بالنسبة له، وجيدة لنا نحن الثلاثة. ) وأنا في الطريق قرأت ما يقرب كتابا، تأثرت في مواضع مختلفة ! سأتحدث إليك عن هذا لاحقا… أردت أن ارسل لك قبلة أخرى قبل أن أخلد للنوم، وأقول لك أنني أحببتك، وبصعوبة لا أكاد أفارقك، وبقدر ما يبتعد عنك تفكيري يعود إليك، يجري أسرع من دخان القاطرة الذي يتسرب من خلفنا (آسف هناك نار في المقارنة غير الموفقة).
تعالي، قبلة، بسرعة، تعرفين كيف، مثل تلك التي تحدث عنها أريوستو (Arioste) وقبلة أخرى، أووه مرة أخرى، مرة أخرى، وبعد ذلك، واحدة تحت ذقنك، في هذا الموضع الذي أعشقه، على ملمس بشرتك الناعمة، على صدرك حيث أضع قلبي.. وداعا.. وداعا.. كل ما تتمنينه من حنان.

مساء الخميس، الحادية عشر مساء،
6 غشت 1846

رسالتك هذا الصباح حزينة، بألم مستسلم. تعرضين علي أن تنسينني إن كان هذا يسعدني. أنت سامية. أعرفك طيبة ورائعة، لكنني لم أكن أعلم بأنك عظيمة. أعود فأكرر لك هذا: أنت ” تهينيني” بهذه المقارنة التي بينك وبيني. هل تعلمين بأن ما تتفوهين به قاس ؟ – وهل هناك ما هو أسوأ، بأنني أنا الذي تسببت في ذلك. إذن تَرُدين لي الصاع؛ إنه انتقام. ماذا أريد منك؟ لا أدري. لكن ما أريده أنا هو أن أحبك، أن أحبك آلاف المرات وأكثر. آه ! لو تستطيعين قراءة ما في قلبي، سترين المكانة الذي وضعتك فيها ! أرى بأنك تتعذبين أكثر مما تبوحين، وأنك ضغطت بشدة على نفسك لكتابة هذه الرسالة. وأنك قبل ذلك بكيت كثيرا، أليس كذلك ؟ إنها رسالة محطمة؛ نشعر فيها بالتعب من كل هذا الأسى، مثل صدى واهن للنشيج. اعترفي بذلك؛ هيا، أخبريني فورا بأن يومك كان سيئا للغاية، هذا لأنك لم تتوصلي برسالتي. كوني صريحة، لا تلعبي لعبة التجاهل واللامبالاة كما فعلت أنا كثيرا. لا تحبسي دموعك؛ إنها ستسقط على قلبك، ألا ترين بأنها ستحدث ثقوبا عميقة. لدي فكرة يجب أن أقولها لك: أنا متأكد أنك تعتقدين أنني أناني. مقتنعة بذلك ومستاءة. هل لأنني أبدو كذلك ؟ أنت تعلمين، في هذا، كل وأوهامه. نعم، أنا كذلك، مثل أي شخص آخر، ربما أقل من كثيرين، وربما أكثر من غيرهم. من يدري ؟ ثم هذه مرة أخرى كلمة لا نعني بها شيئا، نلقيها على مسامع من بجوارنا دون أن نعرف ماذا نريد أن نقول. ومن ليس منا أنانيا، بدرجات متفاوتة ؟

السبت 8 غشت 1846

محطم أنا، مشوش الذهن؛ حالتي تشبه من يستيقظ بعد حفلة طويلة من العربدة والمجون. أشعر بالسأم حتى الموت. أكابد خواء لا يصدق في قلبي. أنا الذي كنت في السابق هادئا للغاية، وفخورا بصفائي، وكنت أعمل بضراوة من الصباح حتى الليل؛ الآن لا أستطيع أن أقرأ، ولا أن أفكر، ولا أن أكتب؛ حبك جعلني حزين. أرى أنك تتألمين، وأتنبأ بأنني سأجعلك تتألمين. تمنيت من أجلك، ثم من أجلي ثانيا، لو أنني لم أعرفك أبدا. ولكن التفكير فيك يجرني إليك باستمرار، فأجد فيه حلاوة رائعة. آه ! كان من الأفضل لو توقفنا بعد أول خرجة لنا ! ارتبت في كل هذا، عندما لم أحضر في اليوم الموالي عند Phidias فلأنني أحسست بالفعل بأنني أنزلق على منحدر. أريد التوقف؛ لكن من الذي دفعني….

ترجمة واقتباس: عبد الكريم أوشاشا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى