الرأي

مدونة الأسرة والنظرية الانقسامية

عندما يحتد النقاش حول قضية معينة، تكون الدولة قد تجنبت الفراغ المخيف

عبد الإله إصباح

يمكن تناول موضوع مدونة الأسرة من زاوية أخرى لا تكون بالضرورة اصطفافا إلى جانب هذا الطرف او ذاك من طرفي الصراع الدائر حول مضمون التعديلات المرتقب إدخالها على بعض بنودها. ما يثير الانتباه بخصوص النقاش الذي يدور حاليا حول الموضوع هو أن مطلب تعديل بعض البنود. لم يكن مطروحا بحدة من قبل التنظيمات النسائية، ولم يكن هناك حراك قوي يطالب بالتعديلات، فضلا عن أن جل التنظيمات النسائية أصبحت مهادنة بل وموالية لسياسة الدولة فيما يتعلق بأوضاع المرأة، وكان صوتها خافتا قبل سنة 2017 باستثناء بعض الاعتراضات المحتشمة عن استمرار ظاهرة زواج القاصرات. هذا يعني أن الدولة كانت تتوخى تحقيق أهداف معينة من إثارة النقاش مجددا حول مدونة الأسرة، وهي أهداف لا تتطابق بالضرورة مع تصرح به علنا من أنها تسعى إلى رفع الحيف عن المرأة والنهوض بأوضاعها، إذ هناك دوما أهداف أخرى لا يتم التصريح بها للراي العام لأنها ترتبط بنهج و بخطط مرحلية في تدبير شؤون الدولة، وقد تكون من بين هذه الخطط تجنب مرحلة ركود وفراغ في المشهد السياسي، لآن أي ركود أو فراغ يجعل من الصعب معرفة توجهات الرأي العام والتنبؤ بردود أفعاله المحتملة إزاء أي قرار أو خطوة سياسية، وعندما يحتد النقاش حول قضية معينة، تكون الدولة قد تجنبت الفراغ المخيف ، وتمكنت بالتالي من رصد توجهات الرأي العام التي على ضوئها يمكنها أن تتخد ما تراه مناسبا من قرارات سياسية واقتصادية، أو تتدخل لتعديل هذه التوجهات بما يجعلها مسايرة لما تخطط له من تدابير وسياسات في مختلف المجالات.

وبالعودة إلى موضوع مدونة الأسرة، يمكن أن نلاحظ أن إحياء وتوجيه النقاش بصدده يخدم بالفعل الجانب المتعلق بتجنب الفراغ و رصد اتجاهات الرأي العام، ولكنه يخدم أيضا ما هو أبعد من ذلك. إنه يعيد إحياء وإنعاش نهج دأبت الدولة منذ الاستقلال على اتباعه في تدبير شؤون الحكم، نهج يستند على مرتكزات النظرية الانقسامية، بما هي نظرية تعلي من دور الانقسام في المجتمع والعمل على استمراره، وتجديده بشتى الطرق والأساليب، لآن الانقسام هو الذي يكرس دور الدولة كحكم فوق الجميع، وهو دور تحرص دوما على الاستناد إليه واعتماده لأنه كان و لا يزال أحد مرتكزات شرعيتها، كدولة تحمي المجتمع من خطر التفرقة والانقسامات الحادة، أي تحمي المجتمع من نفسه بما أنه غير قادر على تدبير اختلافاته والتعايش في إطار هذه الاختلافات، والدولة بهذا الدور تستطيع الادعاء أنها هي من يضمن الاستمرار والاستقرار في هذا المجتمع.

العمل إذن على إحياء الانقسامية كنهج وأسلوب في الحكم، يجدد شرعية الدولة، ويزيد الطلب على أدوارها في حفظ الأمن والاستقرار، وهو بذلك يجدد ويضمن استمرارية النسق السياسي القائم. والدولة إذ تعمل على إحياء النقاش من جديد بصدد المدونة، فإنها تعمل في الجوهر على إحياء هذه الانقسامية وعلى استدعاء دورها كحكم  ينهي الخلافات و الانقسامات، ويصد مخاطر الاضطرابات والفتن التي قد تنشأ عن تدبير سيء للاختلافات، أو عن تعصب وتطرف لهذا الطرف أو ذاك من أطراف الصراع.

ومن هذا المنظور، فاحتداد النقاش والجدال حول مضامين التعديلات، هو أمر مطلوب ومرغوب، ولذلك نلاحظ أن البعض يدلي بتصريحات مستفزة، والبعض الآخر يهدد بمسيرة مليونية،  وهناك من يقترح تعديلات جريئة لا يمكن أن يقترحها من تلقاء نفسه، لأنه يدرك أن مثل تلك المقترحات ستكلفه منصبه. فالمهم من كل ذلك هو خلق نوع من الاحتقان والغليان، ثم يعم الهدوء من جديد بعد أن تتدخل الدولة وتفعل دورها كحكم تقبل وتنضبط لقراره جميع أطراف النزاع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى