محمد النواية يكتب: البداية كانت في الدرب

محمد النواية

الدرب يعني لنا الطفولة، سيرورة الاندماج الفعلي في المجتمع من خلالها نندمج في الهياكل الاجتماعية والثقافية والروحية تحت تأثير الجماعة  والأسرة. من هنا يبدأ التأقلم مع الوسط الواجب عليك التعايش معه، التربية الأسرية أولا في المنزل تم الاجتماعية في الدرب قصد تهيئ الولد والبنت للدخول في النظام الديني الشرعي  والاجتماعي بعلاقة مع الفضاء الأسري والخارجي بجميع أشكاله ومواصفاته  وتأثيثاه وأمكنته التربوية والاحتفالية التي تطبع المراحل الأساسية الأولى للحياة. في فضاء الدرب كانت الاكتشافات الأولى للقاءات البداية: دكاكين الدرب؛ الفران؛ السقاية؛ لمسيد؛(لحضار) وتلك السنوات الأولى التي قضيناها في فضائه المعطر بالصمغ والصلصال الذي نمحو به ألواحنا. لا زالت تحضرني صورة الفقيه والإمام السي المختار مومن بوقاره ولحيته الفضية وهو جالس على أريكته وعلى يمينه الكرابيج الطويل والقصير منها. في الصفوف الأولى الأطفال الصغا؛ البنات ثم   اليافعين والصف الأخير ل”لمحضرة” أي الكبار الذين أوشكوا على ختم السٌلْكَة.

من اللحظات الجميلة التي كانت متعة وفرحة لدى الأطفال؛ يوم يزورنا أحد الآباء المعروف بصداقته للفقيه حاملا سلة كبيرة مملوءة بقطع من الخبز المحشو بزبد بلدي طري يوزعها علينا ويطلب من الفقيه تحريرنا ذلك اليوم. كان أهل الحي ينتظرون بشغف يوم الجمعة ليتملون برؤيته بجلابيبه الناصعة البياض وسلهامه الخفيف ومحياه الساطع بالنور والوقار؛ يدلف بعكازه نحو دكان صديقه المؤذن القابع داخل الدكان بعمامته البيضاء ليتبادل معه المستملحات والنوادر، تم يستريح في طريقه لأداء صلاة الجمعة عند باب دكان العطار مولاي أمبارك. ببلوغنا سن التمدرس التحقنا بالمدرسة؛ عز علينا توديع رائحة الصلصال والصمغ وقلم القصب والفقيه والطلبة فصرنا نداوم العودة إلى لمسيد يوم عطلة الأسبوع وبقية العطل الأخرى. المناسبات الدينية كنا نعيشها بطقوسها؛ بل كانت بالنسبة لنا مواعيد مع أصناف المأكولات التي تميز هذه المناسبات والمطهية بتوابل وفواكه جافة. لن ننسى تزاحمنا حول أطباق الكسكس في المسجد بعد صلاة الجمعة الذي نحسبه لعبة ننتشي بها أكلا وفرجة. المنازل في الدرب لا نحسبها مغلقة؛ ندق الباب؛ نسلم وندخل؛ بعضها يبقى  مفتوحا طول النهار ؛كانت معروفة لدينا نلجأ إليها عند كل مداهمة من طرف القوات المساعدة ومقدم الحي .أصحاب هذه الدور كنا نرى فيهم الحماية والتضامن والمؤازرة والتعاضد الذي كان سائدا بين الأسر. بعد أجواء الدرب ينتقل الأطفال إلى الحومة بحوانيتها على اختلاف مهامها ومنتجاتها الحيوية ومرافقها الأخرى كالحمام؛ الطاحونة؛ السينما ؛ والمقهى. بعد الحومة الانفتاح على فضاءات المدينة بأحيائها المجاورة والبعيدة وحواريها القديمة وأسواقها العتيقة المتنوعة بمنتوجاتها التقليدية وأريج عطر أعشابها الطبية وشدة روائح توابلها التي تزكم الأنوف والمكتبات وأسواق الكتب المستعملة .في سن معين لم يعد يسع الأطفال واليافعين فضاء المدينة القديمة فيسحون خارج الأسوار إلى الملاعب والحدائق والمساحات الخضراء للتنزه والفسحة ليكتشفوا عالما أخر حافل  بالمغامرات.

للصيف نكهة خاصة في مراكش بالنسبة للأطفال بحرارته المفرطة وجوه الجاف ولياليه الحالمة ونسائمه الرطبة، في الدرب كان الاحتماء بالصابات من الحرارة والتناوب على المسابح التي لم تكن تتعدى اثنين أو اللجوء إلى المواقع ذات الأشجار الكثيفة والباسقة وكان البعض منا تدفعه ظروفه للعمل في بعض الحرف للتخفيف من عبئ الأسرة في مصاريف السنة الدراسية المقبلة. ليالي الصيف كانت هروبا إما لقاعات السينما بالهواء الطلق وإما إلى الساحات والباحات الرحبة خارج المدينة أو الالتحاق بجحافل رواد الحلقة بجامع لفنا إلى وقت متأخر من الليل. كانت الساحة تعج بكل أنواع الفرجة الألعاب؛ الرقص الغناء، فهذا الحكواتي يخلق لنفسه عالما أخر وهو يسرد سيرة أو يحكي أسطورة يسرح فيها  بخياله نحوى المستحيل ،آخرون يقدمون عروضا رصينة وبدائع من الفنون الجميلة والثقافة لشعبية الأصيلة ،رباعيات ؛زجل ؛براول؛عروبي .رجل الحلقة زمان كان قصاصا ماهرا فهو ممثلا موهوبا ومنشدا أصيلا ومداحا وواعظا أمينا ونكاتا ؛إبداع من طراز أخر كان يستهوينا ويأخذ بلبنا وإعجابنا. كان لكل واحد منا حلقته أو حلقاته المفضلة يدمن على فقراتها في هذا المكان الذي ترك فينا أثره ودفئ لحظاته.