الحوار

محمد آيت لعميم: مراكش في حاجة إلى الكاتب العاشق لروائح الأمكنة

"ذاكرة المدينة ينبغي أن تدون في كل الأماكن، داخل أسوارها لأنه في كل مكان وكل ركن هناك حكاية مكان."

لوسات أنفو: إلياس أبوالرجاء

محمد آيت لعميم كاتب وناقد ومترجم مغربي، صدر له عدّة كتب ودراسات وترجمات منها “المتنبي الروح القلقة والترحال الأبدي”، و”بورخيس أسطورة الأدب”، و”القراءة”، و”بورخيس صانع المتاهات”، و”قصيدة النثر في مديح اللبس”، و”كاتبٌ لا يستيقظ من الكتب”، كما أغنى المكتبة الوطنية حديثا، بإصداره عن دار «أكورا» بطنجة، كتاب «الأنساق الرمزية للعبور والاغتراب في الشعرية العربية الراهنة».

له كذلك مجموعة من الكتابات حول مدينة مراكش وأمكنتها، باعتباره باحثا في التراث، ولهذا اخترناه لهذا الحوار الذي سيحدثنا في آيت لعميم، عن ذاكرة مراكش ودروبها عقب الزلزال الذي ضرب المنطقة في الثامن من شتنبر، وتسبب في خراب محموعة من الدور والدروب ذات القيمة التاريخية، التي لم يتبق منها سوى ما كتب عنها.

” إن الكتابة عن مراكش تحتاج الى حفار آبار. لأن سطح المدينة خداع، شبيه بسراب في بيداء. يعتقده الرائي ماء.”

زلزال الحوز تسبب في خراب مباني بالمدينة العتيقة ارتبطت بتاريخ كبير وطويل. الأبنية سترمم، لكن من سيرمم لنا الذاكرة؟

– الكارثة التي فاجأت أهل الحوز ومراكش في ليل الجمعة 8 شتنبر2023، غير مسبوقة بالنسبة إلى هذا الفضاء الجغرافي الممتد، فضاء جغرافي يضم تاريخا سياسيا وعمرانيا، له ثقله في تاريخ المغرب، فمنطقة الحوز وصولا الى تارودانت كانت مهدا لدول كبرى، المرابطين في اغمات، الموحدين في جبل درن، والسعديين في تارودانت، هذه الدول استقرت بالتعاقب في مراكش، وقد خلفت هذه الدول المتعاقبة إرثا معماريا يشهد على التطور الحضاري الذي جلبته هذه الدول والذي نقلته الى الأندلس.

هذا الإرث المعماري هو الآخر عرف عبر التاريخ خرابا واندثارا بسبب الحروب وعوادي الدهر إذ لم يتبق من المرابطين سوى القبة المرابطية والسور، الذي هو الآخر عرف ترميمات وزيادات من قبل المتعاقبين على الحكم. الموحدون ما تبقى منهم هو مسجد الكتبيين، ومسجد المنصور بالقصبة، السعديون بقي قصر البديع الذي يشبه الطلل، ومدافنهم، ومدرسة ابن يوسف وبعض المنازل والرياضات، فالإرث العمراني التاريخي في المدينة قليل جدا نظرا للحضارة التي مرت، إن الزلزال لم يخلف خسائر كبرى في المواقع التاريخية بمراكش اللهم إلا إذا استثنينا مسجد تينمل الذي تخرب وهو حديث العهد بالترميم.

إن مراكش قدرها هو الذاكرة ورواية المكان في كتب التاريخ والرحلات والمذكرات والكتابات الإخبارية، مراكش محتاجة إلى من يكتب أماكنها، التي تخربت أو اختفت، وهي مهمة موكولة لعشاق المدينة ومحبي روائحها، فمراكش هي طرس شفاف، نقرأ في أمكنتها طبقات مخترقة بالزمن وترسبات الذاكرة، إنها تناصات تتراءى في مدنها الخفية، مراكش في حاجة لمن ينطقها لأن حيطانها وحوماتها ومعالمها التاريخية خرساء. ذاكرة المدينة ينبغي أن تدون في كل الأماكن، داخل أسوارها لأنه في كل مكان وكل ركن هناك حكاية مكان.

هذا يحيلنا على سؤال آخر متعلق بالزلزال من الناحية الثقافية، هل هو سؤال مكان أم سؤال ذاكرة؟

– الزلزال ينطوي على بعدين، كارثي وفجائعي، الأول يتصل بما يحدثه في الأمكنة سواء أ كانت معمارا شاهدا على الماضي البعيد أو القريب، أو معمارا حديث النشأة، والثاني يكون مفجعا بسبب ما يخلفه من ضحايا بشرية، ومن مصابين، في أبدانهم ونفسياتهم، فلابد ان نستحضر هذه المأساة حتى لدى الناجين إذ هناك تبعات وأضرار تلحق الانسان تكون أقسى مما يلحق البنيان.

ولذلك فكارثة الزلزال قد تخرب، قد تمحو الأمكنة، بسرعة البرق، وهنا مكمن الاختلاف مع الزمن الذي يفعل فعلته في الأمكنة على مهل، إن فجائية الزلزال، وضربته الخاطفة الموجعة، قد تغير معالم الأمكنة، وقد تنبه إلى قيمة الأمكنة التي فقدت إدهاشها بسبب الألفة والاعتياد، وقد لوحظ أن أمكنة عديدة اصيبت على حين غرة، كانت تؤثث فضاء مألوفا، بدأ الناس ينبشون في ذاكرتها، ويقلبون ذاكرة التاريخ لعلهم يجدون معلومات حولها. قد يكون من فضائل الكوارث أنها تنبه لقيمة الذاكرة التي نلوذ بها كلما احسسنا بخطر المحو.

انهارت في مراكش دروب ودور وممرات، لكن الاهتمام انصب بالدرجة الأولى على المآثر التاريخية، أليست الدروب والجوامع وحتى الدور في مراكش العتيقة قيمة تاريخية؟

– المتجول في المدينة العتيقة بعد الزلزال يرى أن هناك دروبا انهارت منازلها، أو جزء منها وممرات، وبعض مآذن المساجد سقط بعضها أو تشقق، هناك مساجد تاريخية اغلقت بسبب ما اعتراها من تشققات، حتى يعاد إصلاحها وترميمها.

في نظري أن المدينة القديمة غير متجانسة في طبيعة بنائها، فهناك أحياء فيها لم يتبق من إرثها العمراني القديم إلا القليل، حيث بنيت أحياء ومنازل في أزمنة متأخرة، وليست عمارتها ذات قيمة تاريخية، أو هي بنايات لم يكن تأسيسها بالمعايير المعتمدة في البناء، لذلك دب إليها الخراب بسرعة، لذلك فخراب دروب او منازل هو فرصة لإعادة الإعمار على أسس متينة وبمواد قادرة على تحمل أي صدمة محتملة، وللإشارة فهناك في المدينة العتيقة منازل تعود إلى الفترة السعدية لم يلحقها أي ضر، لأنها رممت ترميما قويا، ولا يكفي في المدينة القديمة ان نتحدث عن الترميم فقط، بل لابد من الصيانة المستمرة، فالصيانة هي الضامن لبقاء هذه المنازل العتيقة، أما فيما يتعلق بالأولويات فأعتقد أن العناية بالمآثر، كما بالأحياء العتيقة التي تضررت، أمر سواء، فالأحياء الأكثر تضررا هي قلب المدينة وهي متمركزة في موقع يعتبر من المواقع الأولى التي بنيت في مراكش الاحياء المجاورة لمسجد بن يوسف. فهذه المنطقة كلها ناطقة بالتاريخ العريق للمدينة.

بعد الزلزال، لم يتبق من الأمكنة التاريخية المدمرة سوى الكتابات التي كتبت حولها. هل لك أن تصف لنا دور المثقف في تدوين ذاكرة الأمكنة؟

– الأمكنة لها أمد، ولكل أمد انقضاء، فالمكان يتحرك ويتبدل سواء بفعل الزمن أو الكوارث، هناك المكان الخرب او المندثر الدارس، المكان له ذاكرة تشكلت عبر الزمن ومن عمر المكان أو عبره.

لذلك ضرورة كتابة الأمكنة حياة ثانية، فمراكش العريقة تحولت عبر الأزمنة، ولم نكن لنعرف هذه التحولات لولا ما خطه المؤرخون والرحالة والكتاب الذي تحدثوا عن المدينة، فهناك المدينة المعمورة والمدينة المسطورة، حين تغيب الأولى تظل الثانية محفوظة في ذاكرة الكتابة، حتى الأحياء في المدينة الحديثة عرفت تغيرات كثيرة، وهي الأخرى تحتاج إلى من يوثقها كتابة ويصنع لها تاريخا.

في نفس السياق، لماذا في نظرك المراكشيون يتقاعسون في رواية أمكنتهم وأحيائهم، وينتظرون الأجنبي ليكتب نيابة عنهم؟

– إنه مشكل كبير أن تكون مدينة مثل مراكش ضامرة وباهتة في الكتابة لدى أبنائها، فرغم ما كتب عنها في كتب التاريخ القديمة، أو الكتابات التاريخية الحديثة، فهي مازالت بكرا للاستثمار في الكتابة، وهي تحتاج للكاتب العاشق لروائح الأمكنة، كاتب يعرف حق المعرفة تاريخ المدينة في جزئياته، وليست المعرفة المتداولة، إذ كل ركن فيها أو حومة او  زقاق ينطوي على ذاكرة، والكتابة عن مدينة مثل مراكش التي هي مدن غير مرئية، تحتاج إلى الكاتب الأركيولوجي الذي يلمح الطبقات الخفية، ويولد منها المعنى، فحتى ما كتبه الغربيون إلا قليل كان يتزحلق على السطح.

إن الكتابة عن مراكش تحتاج الى حفار آبار. لأن سطح المدينة خداع، شبيه بسراب في بيداء. يعتقده الرائي ماء.

مراكش قبل ان يكتب عنها الأجانب كتب عنها كتاب كبار، كما فعل لسان الدين ابن الخطيب في رحلته، ومن المعاصرين كتب عنها صاحب الإعلام، العباس بن ابراهيم التعارجي، وكتب عنها كتابا مهما ابن المؤقت في ” السعادة الابدية”، وهو كتاب رصد حوماتها من خلال حضور الاولياء في كل حومة، وبذلك قدم خريطة روحية للمدينة، فالبعد الروحي جوهري في هوية مراكش. وعلى الكتاب المعاصرين أن يستأنفوا الكتابة حول الأمكنة في المدينة ويستثمروا ذاكرتها في إبداع نصوص كبيرة تعكس القدرة على تمثل المكان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى