مذكرات

محكيات الطاكسي في زمن كوفيد 12

يوسف الطالبي

كان على موعد مرتب قبلا مع زبونته وردية، فقد طلبته على هاتفه مساء اليوم الماضي طالبة منه أن يأتي على الساعة العاشرة صباحا ليقلها، قد كانت تنوي قضاء بعض الأغراض، أسعدته مكالمتها، من جهة، عهد منها كرما مميزا في تقدير مقابل الخدمة التي يقدمها لها، ومن جهة ثانية، فإن ذلك يخفف عليه ضغط القلق بخصوص عائد يومه. دون شك، سيتمكن من تسديد الوجيبة الكرائية اليومية للسيارة، ويفيض عنها مقدار أحسن مما عهده في أيام الجائحة الغبراء التي تلون أيام الناس بالقتامة. وبالموازاة مع ذلك سيكون يومه أقل تعبا، وأقل استهلاكا للوقود، ثم إن المرات الماضية التي خدمها فيها، كانت ممتعة، قضيا وقتا مرحا، ودعته لتناول وجبة غذاء أو مشروب في أماكن راقية ماكان سيرتادها لولا هي، ثم إنه كان يعلق عليها أملا في إنقاذه من جحيم هذه المهنة الغبية التي وجد نفسه عالقا فيها. تقيم وردية هذه المرة في شقة مفروشة بالحي الشتوي، كانت عادتها في المرات السابقة النزول بفندق الجزيرة بمنطقة النخيل، فندق يسمح لها بالاستماع بمقامها، فلا تفوت زيارتها لمراكش من أجل العمل لتحقيق متع العطل حينما يكون جدول مواعيدها يسمح بذلك، تقضي يومها تصبغ بشرتها بلون الشمس بجانب مسبح أو تحجز طاولة عشاء بمطعم هنا أو هناك، وفي بعض الأحيان تخرج في ساعة متأخرة، بعد أن تكون قد تعشت بمطعم الفندق، تقصد مكانا ما حيث تحضى بوقت للرقص، كان هو سائقها الخاص الموكول له بالإضافة للسياقة مؤانستها وحمايتها، في مرات دعته لمرافقتها، رغم المتعة التي كان يجدها في المرات الأولى، فقد صار يعتذر عن تلبية دعواتها، كان ذلك يكلفه مجهودا نفسيا كبيرا، عليه أن يكون دائم الحضور، ينشط الأمسية بأحاديث شيقة تثير اهتمامها، وأن يخلق المرح بنكت موفقة، كانت النكت أكثر ما يقلقه، فإما أن تكون ناجحة تجعله يربح مسافات جديدة في قلبها، وإما أن تكون فاشلة، يدعمها بالشرح، فتجعله يبدو غبيا، اختلاف الثقافات ينتصب مرات عديدة أمام انسياب التواصل، فقد كانت وردية فرنسية من أصل جزائري، كان والدها ممن جندتهم فرنسا في حربها ضد النازية، بعد الحرب، وقبل أن يذهب مرة أخرى إلى الحرب الهند الصينية، عاد الى اسطيف بمنطقة القبايل حيث تزوج تاسيلي، وأخذها معه الى فرنسا، وأنجب منها أربعة أولاد وثلاث بنات، كانت وردية واسطة العقد. يبدي حرصا كبيرا على أن لا تتضرر صورته لديها، فقد حدثته عن مشروعها الكبير الذي تعتزم القيام به هنا في مراكش، وكان هو يعلق ٱمالا كبيرة على أن تضمه إلى فريق عملها، خالجه ما يشبه اليقين أن انعتاقه من سجن الطاكسي بات قريبا، وأنه سيتحقق على يد هذه الجزائرية التي رغم شعرها الأبيض تماما، لازالت تتمتع بحاذبية كبيرة. بعد حصولها على البكالوريا، تابعت وردية دراستها في إحدى جامعات باريس، بدأت بالفلسفة، ثم تخصصت في علم النفس، حازت على شهادة الإجازة فالماستر، لتشتغل فيما بعد كطبيبة نفسانية، وبالموازاة مع عملها واصلت تكوينها في موضوع العلاج من الإدمان، تعتزم وردية الاستثمار في مجال سياحة العلاج التي بدأت تنمو مؤخرا، سياح يقصدون المغرب من أجل عمليات التجميل والمساعدة على الإنجاب…. ، لكن وردية تحمل تصورا مختلفا، قد تكون شاهدته في مناطق أخرى من العالم، لكن في المغرب، ستكون تجربتها فريدة، تراهن على قرب المسافة من أوربا ووجود مطار دولي وبنية تحتية سياحية ومناخ مشمس وتنوع جغرافي وبيئي. على غرار ما فعلت مع باقي الموردين، كانت وردية تقصد ذلك الصباح الحاج الناصري علها تستطيع إقناعه بإعفائها من تسديد واجب كراء الفيلا التي اكترتها منه والواقعة بمدخل وادي اوريكا بجبال الأطلس، فيلا بنيت على ثلاثة هكتارات، مكونة من إثني عشر غرفة وحمام تركي ومسبحين وسكن للخدم وحديقة شاسعة، بناها الحاج الناصري عندما كان رئيسا للمجلس القروي، دارت أنباء عن نية مستثمرين إماراتيين شراء منتجع أوكايمدن، وتجهيزه بمعدات عملاقة تجعل الثلوج تبقى على قممه طوال السنة، ولما كانت المعلومات تفيد أن الكراسي المعلقة ستمتد حتى منطقة أوريكا، فقد ابتاع الحاج الناصري أرضا من قرويين بثمن بخس، وشيد عليها الفيلا، كان ينوي تحويلها إلى فندق فاخر، يوفر للمتزلجين من رواد منتجع أوكايمدن غرفا دون الحاجة للتنقل الى مراكش، كانت فكرته ذكية إلا أن الاماراتيين صرفوا النظر عن المشروع برمته. حين وقعت وردية مع الحاج الناصري عقد كراء الفيلا من أجل تجهيزها كمركز لإيواء الراغبين في العلاج من الإدمان مطلع عام الجائحة، سلمته ما يعادل كراء سنة كاملة، كان المبلغ يربو عن المليون درهما، اشترط عليها أن تحوله بالأورو إلى حسابه بإسبانيا، فقد كان الحاج مغربيا واسبانيا في الٱن نفسه. بعدها طارت الى الهند حيث تعاقدت مع معالجين ذوي تجربة في المجال، ونقلتهم على نفقتها الى انجلترا لاستكمال تكوينهم، واشترت معدات طبية ورياضية وأواني مطبخية وزينة موائد من فرنسا وإيطاليا واسبانيا، لكن بعد شهرين ونصف من توقيع عقد كراء الفيلا أعلنت الحكومة عن إغلاق الحدود لتجنب اجتياح الفيروس البلاد.

كانت وردية تأمل أن يقبل الحاج تحويل ما دفعته له الى فترة ما بعد فتح الحدود وعودة حركة التنقل الدولي الى حالتها العادية، لكن الحاج رفض طلبها، بل أنذرها بعزمه تقديم طلب إلى المحكمة من أجل فسخ عقد الكراء إذا لم تسدد الشهور الموالية. وهو يتابع حديثهما، شعر برغبة في الإنقضاض على رقبة الحاج وخنقه حتى تتوقف أنفاسه، كان يرى أن الكوة التي لاحت أمامه للهروب من واقع الطاكسي تنغلق ويتبدد معها حلم ٱخر، لم يستطع التدخل، كان يخشى أن يفضحه الحاج، فقد تقاضى منه عمولة حينما جلب إليه وردية ودلها على فيلته، كانت وردية قد سألته إن كان يستطيع توفير سيارة رونج روفر ليؤمن بها تنقل مرضاها من وإلى مراكش، المطار والأسواق وزيارة المدينة، ولأن سيارة من ذلك المستوى تفوق ما يستطيع التصرف فيه، فقد راح يجمع المعلومات حول إمكانية الكراء أو البحث عن شريك يمول اقتناءها. طوحت الجائحة بوردية بعيدا، خيل إليه أنه مكان أبعد من الشمس، وطوحت به هو تبعا لذلك إلى ما هو أبعد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى