محكيات الطاكسي زمن الكوفيد.. 15
يوسف الطالبي
حين وصل منتهى زقاق الموقف، كانت السيدة حليمة تنتظر وصول سيارة أجرة، كانت ترافق زوجها البشير إلى المستشفى الجامعي، لم يكن يقوى على النهوض، سمح له با عروب بائع “البيصارة” بالجلوس على كرسي بلاستيكي أمام مطعمه، بصعوبة أنهضته وساعدته على دخول السيارة، كان واهنا، في ظروف سوية، يفترض أن تنقله سيارة إسعاف وليس طاكسي.
ورث سي البشير صنعة الجلود من أبيه سي بوزيد، كان كلاهما معروفا كأحد الصناع المهرة ممن تطيع الجلود أيديهم، يخرجان منها تحفا تدهش بدقة صناعتها المحترفين قبل المستهلكين، يصنع حقائب ومحافظ وأحذية وسروج الخيل، يفخر البشير أن كبار الصناع اتفقوا واقترحوا على “المتحسب” ذات يوم أن يعتمد أباه بوزيد آمينا للحرفة، لكنه رفضها، كان رجلا ورعا تقيا، يخشى أن يصدر عنه ما يظلم أحدا عن جهل أو خطإ، يعتبر أن الأمين قاض أمام الله، وسيحاسبه على كل حق ضاع بسبب مشورته. كان رأسمال سي البشير حذاقته وذمته، وكان ما تذره عليه صنعته بالكاد يؤمن حاجاته وحاجات أسرته، يتحسر لعدم ازدهار أحواله المادية حين يرى بعضا من حديثي العهد بامتهان صنعته قد ظهرت عليهم علامات التحسن، وقد كانوا حتى أمس غير بعيد “متعلمين” ومنهم من تعلم الصنعة في ورشة أبيه سي بوزيد، ورغم ذلك كان يرفض ان يعتبر ذلك نتيجة لفطنتهم وقدرتهم على ملاءمة الصنعة مع متطلبات سوق السياحة و “كور وعطي لعور”، بل كان ينظر إلى ذلك ككسب حرام ونتيجة لقلة مروءة وأخلاق وكخيانة لأصول الصنعة، كان يتحدث عن بقائه وبقاء ورشته كما تركهما أبوه كفضيلة، فقد كان والده لما ألزمه المرض الذي قتله الفراش يردد عليه كلما اختلى به ثلاث وصايا، أن يراعي الله وضميره في معاملاته مع الناس، أن يعتبر الصنعة أمانة في عنقه عليه تشريفها وصيانتها من المترامين عليها و”الدربازة” ثم الاعتناء بأمه وأخته التي لم تكن قد تزوجت بعد، كان سي البشير يجد في ذلك عزاء عن ضيق أحواله وتخلفها عن بعض ممن جايلهم، كانت مواد غير أصيلة قد دخلت الصنعة، وأخذ الصناع في استعمال خرق مصنعة مكان الجلود الطبيعية، وصارت الآلات تطرز بدل أنامل النساء، واستعملت خيوط ذهبية سرعان ما تفقد بريقها مكان خيوط “الصم الأصيلي”، وستتفاقم الأمور منذ أن اعتمدت الصنعة آلات “الشينوا”، بل إن هذا “الgنس” يصنع كل شيء، كيف يقبل الناس أن يصنع لهم بوديون كفار يعبدون الأصنام أدوات تعبدهم، السبحة والزربية والجلباب والطاقية، يقول سي البشير أن الله لن يتقبل صلاة أديت فوق زربية “شينوية” بدل “هيضورة” أو لبدة.
كانت حرب الخليج الثانية قد ألحقت ضررا كبيرا بالسياحة وما يرتبط بها من مهن، وكسدت بذلك التجارة، وبارت منتوجات الصناعة التقليدية، ولم يعد هناك من سياح يشترون حتى النسخ الزائفة، أما المنتوجات الأصلية المرتفعة الكلفة والثمن، فقد توقف الطلب عليها تماما، لم يكن ذلك بسبب الحرب فحسب، ولكن ما يطرأ على الناس من تغير في الذوق ونمط العيش وغلاء المعيشة وصعوبات الحياة، جعلهم أميل إلى اقتناء الاشياء ذات الاستعمال الواحد jetables، لم تعد “البلغة” حذاء يوميا، وإنما صارت للأعياد والمناسبات القليلة، ولم تعد النساء يورثن “تكاشطهن” المطررزة “بطرز الحساب” و ” الهنتيكة” لبناتهن، وصارت الفروسية ومعها الطلب على السروج فرجة فلكلورية لا تحمل ما كان لها من قيم اجتماعية وروحية، صار الفرسان يجلبون مكرهين لتنشيط الاستقبالات المخزنية والمهرجانات الرسمية في ساحات المدن. كان سي البشير كلما أنهى صناعة قطعة نفخ فيها من روحه، يطوف بها على البازارات، كانوا يثنون على جودتها لكنهم يعتذرون عن عدم شرائها، التجارة بائرة والسيولة غير متوفرة، كان لا يقصد الشطبي “البازاريست” إلا مكرها، كان يعرض عليه أثمنة هزيلة ويؤديها على دفعات، لا تفي الدفعة الواحدة حتى بمتطلبات البيت، وكان بذلك يستهلك ما تبقى لديه كرأسمال يستثمره.
إسمه فضول البحوتي حسب أوراق هويته، لكن منذ أدرك المال والجاه صار معروفا بين الناس بالشطبي، أما قبل ذلك، فكان معروفا بولد الشطبة نسبة لأمه، كانت امرأة حادة المزاج، مستعدة على الدوام للعراك والسباب، كان جيرانها بأحد دروب حي تابحيرت يتقون أي احتكاك بها، حين تبدأ هجومها على أحدهم بكل أنواع السباب، فيجب أن يتوقع أن يمتد ذلك لساعات أو ربما ليوم على طوله، كانت تكيل لخصمها أوصافا نابية، توجه ذراعها كماسورة بندقية نحوه “بالكازي والتبزاق” تقذفه بلعابها المتطاير، بل تنزل سروالها الذي تلبس دون آخر داخلي وتوجه مؤخرتها نحو خصومها
– ها سواك… وها ما تصور من عندي أنا
وحتى من يتجاهلها ويغلق في وجهها باب بيته، تقضي يومها ذهابا وجيئة في الجوار رافعة عقيرتها بالسب، مطالبة من المختبئين في الداخل الخروج لمبارزتها. بسبب طباعها لقبها شبان الحي بالشطبة، فقد كانت كنبتة شوكية، ما أن تمر منها حتى تخزك أشواكها أو تمزق ثوبك، كانت الشطبة تنفق على أولادها مما تكسبه من أعمال الصوف، كانت تشتريه وتغسله بماء السقاية العمومية، ثم تصنع منه خيوطا تبيعها بسوق “الغزل”، مع ظهور الخيوط الصناعية وتراجع الطلب على الصوف، صارت تتاجر في الملابس المستعملة، كان مدمنون يبيعون ملابسهم بأي ثمن لاقتناء ما ينتشون به، كما يقصد السوق مراهقون يسرقون من أهلهم بعض الاغراض ويبيعونها مقابل أول عرض من أجل تمويل متعهم السرية. جعلها الكم الكبير من هذه العينة من الزبائن الانتقال من مساعدتهم على توفير ثمن انتشائهم إلى التفكير في بيعهم وسائله مباشرة، تركت سوق “الغزل” وأصبحت أحد ملادات سكارى آخر الليل الباحثين عن “الروج و ماحيا” بحي تابحيرت، وحين كبر أبناؤها ومنهم فضول، انخرطوا مع أمهم في تجارتها، كلما غاب واحد لقضاء مدة حبسية حل مكانه الآخرون، كان لهذا التناوب ثمن يقبضه أهل الحل والعقد.
كان الشطبي يستغل ظروف الحرب ويخزن السلع التي يقتنيها بالأثمنة التي يعرضها هو ويسدد ثمنها بالطريقة التي تناسبه هو، كان يدعي أنه إنما يشتري السلع رأفة بالصناع التقليديين ومساعدة لهم وابتغاء للأجر والثواب، فالدنيا والمال إلى زوال ولا يبقى إلا العمل الصالح.
عرض الشطبي على المعلم البشير حين لم يعد لديه ما يشتري به ما يحتاجه من مواد وسلع للاشتغال، أن يشتغل في المعمل الذي يعتزم فتحه، يوفر له ما يحتاج من المواد للعمل، ويخصص له أجرا يوميا
– أ المعلم البشير…انت ولد دار كبيرة…وباك الله يرحمو ماشي براني…وانا ما بغيتكش تبقى تبهدل وتدور على الناس
كان سي البشير يعرف أن ولد الشطبة لا يأبه له إن كان أكل أو مات جوعا، العرض الذي يقدمه له إنما يصب في مصلحته، وأنه سيفقد معه نخوته وحريته، وبعدما كان “معلم” ذا سمعة في السوق سيصير أجيرا، لكن لم يكن أمامه خيار، إذ نفذ المبلغ الذي يستثمره كرأسمال، وحال التجارة لا يسمح بتدبر مبلغ آخر واستئناف العمل، قبل العرض بمرارة ، أقفل دكانه وذهب إلى ورشة الشطبي، كان يشعر كل الوقت بضغط على قلبه، لم يعد يحس بنفس العلاقة بمصنوعاته، في السابق كان يحركها بلطف كابن له، والآن يشعر أنه يكرهها، يعد الساعات لينهيها ويغادر، كان عليه أن يشتغل بما توفر لم يعد له الحق في التحقق من نوعية الجلود والخيوط، على مضض صار يعمل بمبدإ ” اللي جاب ليك شي قنب كتفو بها”، ركب قطعا من تطريز الآلة وخاط أحذية من كرتون يغطيه ثوب.
انتهت الحرب، وسرعان ما عاد السياح إلى أسواق مراكش، لكن البشير كان عالقا في وضعه الجديد، الأجرة اليومية التي يتقاضاها لا تلبي حاجاته وحاجات أسرته اليومية، العودة إلى ورشته يتطلب رأسمالا ليس متاحا أمامه تدبره، أما الشطبي فقد فتح بزارين آخرين بالإضافة إلى اللذين كان يملكهما، ملأ أروقتها جميعا بما كان يخزن من البضائع زمن الحرب، ترشح للانتخابات البلدية ولولا عدم توفره على شهادة ابتدائية كشرط لشغل منصب رئيس بلدية المدينة لكان فاز به.
حين حلت الجائحة، أغلق الشطبي، البازارات والمعمل، لم يحظ العمال منه إلا ببعض القفات بها بعض المؤن الغذائية، كان الصناع يتسلمونها مقبلين يده وداعين له بالصحة والعافية، بعد ذلك صار يرفض استقبالهم، أعطى تعليماته لمساعديه بصد كل من جاء يطرق بابه. صار البشير يحمل قفته كل صباح يطوف على الخضارين الذين يجاملونه ببعض حبات الخضر، يأخذ٠ الحبات الفاسدة التي يعزلها البائعون حتى لا تفسد الباقي، يقطع الأجزاء المتعفنة منها، ويعرج على السماكين يتوسل بعض السردين أو قطعة شحم عند بائع أحشاء البقر، كان يبادر إلى تحية من يعرفه من الناس ، يطيل التشبت بكفه ليجعله يفهم أنه يسأله مساعدة. في وضع كوضع سي البشير، الاجراءات الاحترازية والتباعد الاجتماعي مجرد ترف وحديث بلا معنى.
كان السائق قلقا من حالة سي البشير، كان يسترق النظر إليه طول الطريق في المرآة الداخلية، تسيطر على الرجل نوبات سعال حاد، ثم يشهق كمن يجد صعوبة في التنفس، عندما سأل زوجته قالت أنه على هذا الحال منذ ما يقارب أسبوع، ألم في الرأس وسعال وحمى، لم يتصلوا بالرقم المخصص للتبليغ عن احتمال الاصابة بكورونا، ولم يجروا تحليلات طبية، عندما اتصل هو من هاتفه برقم “ألو يقظة” طلب منه التوجه رأسا إلى مستشفى ابن زهر، هناك أدخل سي البشير إلى الجناح المخصص للمصابين بالفيروس، فيما أخضع هو وزوجة المريض للفحص وطلب منهم عزل نفسيهما لمدة اسبوعين.