بورتريه

مادغيس اومادي شخص بحجم مؤسسة

لوسات أنفو: يوسف أزوركي

في الحقيقة، ترددت كثيرًا قبل أن أبدأ في الكتابة عن هذه الشخصية العظيمة في تاريخ الأمازيغية المعاصر. كنت واثقًا أنني لن أكون قادرًا على تجسيد كامل عظمته، وأنا على علم أنه يتحاشى دائما التحدث عن ذاته. في عام 2017، كنت طالبًا في تخصص الدراسات الأمازيغية بجامعة ابن زهر في أكادير. كلفنا الأستاذ أنير الحسين بويعقوبي بإعداد عرض في مادة البيبليوغرافية الأمازيغية حول الباحث الأمازيغي مادغيس، فراسلته حول الموضوع وكانت إجابته على طلبنا “المعذرة لعدم الرد لأني أتحاشى دائما الحديث عن الذات”. أوضح سبب عدم تفاعله على منصات التواصل الاجتماعي في مقال بالإنجليزية للصحفية صابرينا عمران بعنوان “أرشفة التاريخ والثقافة الأمازيغية مع مادغيس مادي” على موقع “INSIDE NORTH AFRICA” أشار إلى أن التفاعل يقود إلى التداخل في الأمور الشخصية، قائلا “عندما تتفاعل، تدخل في الأمور الشخصية، وأنا لا أحب ذلك حقا”. وأضاف أنه قال ذات مرة في بداية السنة الأمازيغية “مهما فعلناه في العام الماضي فلن نتحدث عنه”، وأشار إلى أنه تلقى أسئلة كثيرة مثل “ما هو عملك؟ أين تعيش؟ هل أنت متزوج؟”، وتساءل عن العلاقة بين هذه الأسئلة والمحتوى الذي يشاركه، وأكد أنه لم ينشر أبدًا تفاصيل شخصية مثل ما يأكله، وربما يعتقد الناس أنه شخص ممل يهتم فقط بالأمازيغية، وعلى الرغم من أنه يقدر هذا الاعتقاد، فإنه في الحقيقة يستمتع بتسلق الجبال والقفز بالحبال والتزلج على الثلوج. ولكنه يرى أنه لا يجد الحاجة لمشاركة هذه الجوانب مع الآخرين.

شخص بحجم مؤسسة

مادغيس مادي، أستاذ جامعي في مجال علم الاجتماع بكندا، يعد من أبرز الباحثين والمفكرين في مجال الثقافة واللغة الأمازيغية في الوقت الحاضر، يُصف من قبل من يعرفونه بأنه شخص بحجم مؤسسة، تجاوزت أبعاده حدود الفرد لتصل إلى أبعاد المؤسسات. إنجازاته وجهوده في خدمة الأمازيغية تعادل أعمال المؤسسات الرسمية. قدمه الأستاذ أحمد عصيد بمنتهى الإعجاب أثناء استضافته له في برنامج “أضواء على الأمازيغية” الذي يُبث على قناة تمازيغت. ووصفه عصيد بأنه “فريق عمل وحده، يشتغل في العديد من المجالات”.

ابن بطوطة عصره

غادر مادغيس وطنه الأم ليبيا عندما كان في سن الرابعة عشر، واستقر في المغرب، حيث عاش فترة مهمة من حياته. قاده شغفه لاستكشاف العالم إلى زيارة عدة بلدان حول العالم، قائلا “لقد كنت في كل مكان تقريبا يمكنك تخيله في العالم، إما سيرا على الأقدام أو في سيارة الأجرة أو الحافلات، أنا أتحدث عن أماكن لا يذهب إليها الناس عادة من السينغال الى كينيا”. تبع نهج ابن بطوطة، المستكشف التاريخي، متعقبًا أثره في أي مكان يمر به، يقرأ عن المواقع التي زارها ابن بطوطة، ويسعى لاستشفاف رؤيته وتجاربه في هذه الأماكن، ويتطلع لاستكشاف ما قد قام به الرحال الشهير خلال رحلاته، ليتبع خطواته خطوة خطوة، يبحث عن المأكولات التي ورد ذكرها في رحلات ابن بطوطة ويسعى لتجربتها بنفسه، يهتم مادغيس بالنقوش والزخارف التي تم ذكرها ووصفها، عند الانتهاء من الرحلة يقوم بتجهيز ألبوم من الصور العادية والثلاثية الأبعاد، علق في حسابه على الفايسبوك بعد زيارة للحج هذا العام “اليوم رميت جمرة العقبة والليلة أطوف طواف الوداع، وبذلك أنهي شعائر الحج بإذن الله تعالى، ومن تم أتجه للمدينة المنورة والطائف وأتبع خطى ابن بطوطة لأنهي بذلك البلد رقم 85 من رحلاتي على خطى أعظم رحالة عرفته البشرية، الأمازيغي محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي”.

مادغيس المناضل المعارض

مادغيس، إبن جبال نفوسة في ليبيا، لم يكتفِ بأن يكون ابن هذه الأرض، بل أصبح صوتًا ناشطًا يناضل من أجل حقوق شعبه ولغته، ووقف معارضًا لنظام القذافي. حيث جعل من الأمازيغية قضيته الأولى، وعارض بكل جهده كل ما يتعلق بالقمع والتهميش اللذين كانا يعانيانهما الأمازيغ. ما حول حياته إلى منفي في الخارج، حيث بقي يواصل نضاله من أجل تحقيق حقوق شعبه وثقافته ولم يعد إلى ليبيا إلا خلال الثورة.
في عام 2007، قاد مادغيس تظاهرات في باريس احتجاجًا على زيارة معمر القذافي، الحاكم السابق لليبيا. كان يؤمن بأهمية التظاهر والتعبير السلمي عن الرفض والمطالبة بالحقوق، شارك في أشغال اللقاء الثالث لأمازيغ ليبيا بلاس بالماس بعد مشاركته في مؤتمري اكادير 2007، ومكناس 2006. أثري هذا النضال بزياراته ومشاركته في أنشطة دولية، حيث حضر جلسات لجان الأمم المتحدة في نيويورك وجنيف وباريس، وشارك في اللقاءات حول حقوق الأمازيغ وثقافتهم. كان له دور بارز في ملتقى الشعوب الأصلية في الأمم المتحدة، حيث انتخب منسق عام لحركة شبيبة الشعوب الأصلية بالأمم المتحدة في أشغال ملتقى الشعوب الأصلية بنيويورك في مايو 2008، بالتنسيق مع المستشار المعتمد لدى لجنة الشعوب الأصلية بالأمم المتحدة المناضل الأمازيغي حسن اد بلقاسم.

توالت والمحافظة على الموروث

لاحظ مادغيس أهمية الحفاظ على التراث واللغة الأمازيغية، وأسس مؤسسة توالت في عام 2001، وهي مؤسسة ثقافية وإعلامية تهدف إلى تعزيز التواصل بين المهتمين بالثقافة واللغة الأمازيغية، في داخل وخارج ليبيا. كانت هذه المؤسسة محوراً لجهوده في نشر الوعي بأهمية الحفاظ على التراث الثقافي واللغوي. أمنت بمقولة ليوبولد سيدار “موت معمر افريقي يعني ضياع ألف كتاب”، وأطلقت مشروع توالت للحفاض على التراث، بالتعاون مع الغيورين، وهو مشروع يقوم بمهمة نشر الوعي بأهمية الحفاظ على الموروث الثقافي، وتحصينه من التلف والضياع، بأحدث الأساليب العلمية المتاحة، ومن تم نشره وفق الأسس الأكاديمية المعتمدة، وتملك مؤسسة توالت الآن أرشيف مهم للقطع الأثرية والصور والأشرطة المصورة والتسجيلات الشفهية والصور الثلاثية الابعاد وكذا المخطوطات القديمة وكل ما يتعلق بتاريخ الامازيغ، شارك بمؤسسة توالت في العديد من أنشطة اليونسكو، الخاصة بالثقافة والتراث واللغات الأصيلة وغيرها.

مهارات لغوية متعددة

يمتلك مادغيس مهارات لغوية متعددة، حيث يتقن الأمازيغية بجميع تنوعاتها، إلى جانب اللغة العربية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية. هذا التعدد اللغوي مكّنه من ترجمة مؤلفات متنوعة حول الثقافة الأمازيغية من لغات مختلفة إلى العربية، ويقدمها وينشرها بمؤسسة توالت. بالرغم من مهارته في العديد من اللغات، فإن للأمازيغية مكانة خاصة لديه. إنها ليست مجرد لغة له، بل هي لغة يعيشها في حياته اليومية، فهو يكتب بها ويعبر عن أفكاره وملاحظاته في مذكراته اليومية. حتى أثناء حضوره للمحاضرات باللغات الأجنبية، سواء كانت بالإنجليزية أو الفرنسية، يترجم فورًا المحتوى والأفكار الرئيسية ويكتبها بلغته الأمازيغية بحرفها تيفناغ.
حب مادغيس للغة الأمازيغية، لم يتوقف عند هذا الحد. بل عمق البحث فيها، فأعد سلسلة برنامج جدور الأمازيغية الذي يقدمه على قناته على اليوتوب، محاولا من خلال هذا البرنامج، تحليل المعجم الأمازيغي الغني، لتبيان مدى الوحدة اللغوية لفروع الامازيغية. يقوم بذلك من خلال استعراض جذور الكلمات الأمازيغية وتفسير دلالتها، وذلك باستناد إلى مراجع متنوعة. بالإضافة إلى ذلك، يقدم دروسًا وحلقات تعليمية أخرى لتعليم اللغة الأمازيغية. كما أسس مدرسة في كندا لتعليم اللغة الأمازيغية لأطفال الجالية الأمازيغية هناك. وساهم بشكل كبير في وضع مناهج دراسية لتعليم اللغة الأمازيغية في ليبيا. وقام بتصميم تطبيقين للهواتف الذكية يشملان معاجم عربية-أمازيغية وفرنسية-أمازيغية، يحتويان على أكثر من 70 ألف كلمة، بالإضافة الى تطبيقات أمازيغية أخرى. كما ساهم أيضًا في إدخال اللغة الأمازيغية إلى محرك بحث كوكل كروم ومنصة فيسبوك.

إنسان يكتب ويبدع يوميا

بصفته فنانًا متعدد المواهب، أصدر مادغيس العديد من الألبومات الغنائية والأناشيد التربوية للأطفال باللغة الأمازيغية. أيضًا، يعبّر عن هويته وتاريخ شعبه من خلال قصائد شعرية مؤثرة، ومن بين هذه القصائد ” ⴰⵎⵣⵔⵓⵢ ⵏⵏⵖ ⵉⵎⵉⵔⵉ” أي تاريخنا المكتوب، التي غناها الفنان موحى ملال. وقد وصفه لنا ملال في شهادة عنه بأنه “مناضل لم يحصل على حقه بعد”، وأثنى على مساهماته المتعددة في ميادين متعددة قائلا “لقد كان كاميرمان بهوليود، وزار جل المناطق الأمازيغية، زارني عدة مرات في مدينة ورزازات وفي قرية تملالت، وتسلقنا جبالها، تجولنا فيها كثيرا سيرا على الأقدام، التقينا بعد ذلك في عدة مناسبات بكل من أكادير وباريس، هو باحث يكتب كثيرا في السوسيولوجيا والفن والتاريخ، إنسان يكتب ويبدع يوميا.
لم يقتصر إبداع مادغيس على المجالات الفنية فحسب، بل تعدّاها إلى عالم الألعاب والتصميمات. قام بتصميم ألعاب بالأمازيغية مثل لعبة السكرابل المعروفة، وأيضًا لعبة الكارطا التي صممها حسب أسماءها بالأرقام الأمازيغية المستعملة خصوصا في المعاملات التجارية، وفق التصور الأمازيغي القديم لها والتي لازال بعضها مستعمل في الجنوب الليبي إلى اليوم. قدّم تصميمات تخص ديكورات المنازل والملابس والوسائد، ونسج كلمات من الحياة اليومية باللغة الأمازيغية في ملصقات منزلية وسيارات وغيرها. كل هذه الإبداعات تهدف إلى تعزيز التواصل والوعي بالثقافة الأمازيغية، وخصص عائداتها لدعم أرشيف مؤسسة توالت.


مادي خطاط له الفضل في تصميم العديد من خطوط الحرف تيفيناغ، وأطر ورشات تكوينية في الموضوع، وهو أيضا فنان تشكيلي مبدع داعبة أنامله الألوان، فهو فنان متعدد المواهب، استخدم فرشته ليبهر العالم بألوانه المدهشة، ورسم لوحات تجسد ملامح شخصيات بصمت في التاريخ الأمازيغي، كما نحث لها مجسمات في غاية الإتقان تكريما لها، كمجسم الأستاذ محمد شفيق، ومحمد بن عبد الكريم الخطابي، والفنان ادير، والملك يوبا الثاني، وغيرهم، وأبدع في تصميم ميداليات تكريمية لملوك أمازيغ قدامى، تُقدَّم بمناسبة رأس السنة الأمازيغية، لتكون جوائز تقديرية للباحثين والمبدعين في مجالات متعددة تتعلق بالأمازيغية، في مختلف مناطق شمال افريقيا، برعاية مؤسسة توالت، هذا الجهد الملموس لم يمر مرور الكرام، إذ اختار اسم الأب الروحي للحركة الأمازيغية “العميد محمد شفيق” ليكون اسم الجائزة تكريمًا له ولإسهاماته الجليلة، بعد موافقته.

إعادة كتابة التاريخ

اهتم مادغيس بتاريخ شمال أفريقيا بشكل كبير، فبالإضافة إلى مقالاته وتحقيقاته للمخطوطات القديمة، التي يمتلك منها أكثر من 1700 مخطوطة. وترجمته للعديد من المؤلفات كالليبيون الشرقيون لأوريك بايتس، واحتفاظه بأرشيف مهم عن هذه الرقعة الجغرافية الشاسعة التي زار جل مناطقها، من مصر حتى جزر الكناري. كانت فكرة “حدث في مثل هذا اليوم” منشور شبه يومي في صفحته على الفايسبوك، يستعرض من خلاله الأحداث والوقائع المرتبطة بالهوية والثقافة الامازيغية، قبل أن تتوج الفكرة بموقع تين وسان “ⵜⵉⵏ ⵡⵓⵙⵙⴰⵏ” وهو موقع ليومية من التاريخ الامازيغي الممتد في القدم. كما اشتغل في فترة الحجر الصحي بافتتاح صفحة التسلسل الزمني لتاريخ أفريقيا الشمالية، وهو مشروع كبير، كان لي شرف الاشتغال معه في هذا المشروع، رفقة بعض المتعاونين، من مختلف بلدان شمال افريقيا، ندخل الأحداث بشكل مختصر وفق تسلسلها الزمني نرفقها بالصور أو فيديوهات أو كتب على حساب كل حدث.
باهتمام متجدد وشغف متواصل، يُسلط مادغيس الضوء على تاريخ الأمازيغ عبر فن الكوميك والقصص المصورة. يعيد كتابة التاريخ الأمازيغي القديم بأسلوب مبتكر، عبر سلسلة مميزة من 14 جزءا تحمل عنوان “33 قرنا من تاريخ الأمازيغ”، اقتبس هذا العنوان من كتاب الأستاذ والمؤرخ محمد شفيق، يستخدم الكوميك والقصص المصورة كوسيلة فنية لنشر التاريخ الأمازيغي بشكل مبسط وشيق. تتناول سلسلته مختلف الحقبات التي مرت بها الحضارة الأمازيغية، صرح لجريد “ألترا صوت” الجزائرية على هامش المهرجان الدولي للشريط المصور، الذي فاز فيه بالمرتبة الأولى، عن عمله “تاريخنا” “ⴰⵎⵣⵔⵓⵢ ⵏⵏⵖ”، وهو شريط مصور يحاكي حياة الملك يوغرطة وشيشناق ويوبا الثاني، والعديد من الشخصيات التي كان لها وزن كبير في التاريخ الأمازيغي القديم قائلا “لقد حان الأوان كي نخرج الأمازيغية من حيز التقاليد، وجب علينا أن ننقل تراثنا من القرى والمداشر، لنفتح لها أفقًا رحبًا كي يكتشف العالم كنوزًا تاريخية وثقافية كانت معزولة، ولن يتأتى ذلك إلا بالعمل وفق منهجية واضحة”. وعن انخراطه في مجال القصة المصورة والشريط المرسوم، يرى مادغيس أنه من الواجب اقتحام فنون جديدة، لذلك اختار الشريط المرسوم كوسيلة من أجل التعريف بتاريخ الأمازيغ، فلقد اختار 14 ملكًا وحاكمًا من مختلف الحقبات التي مرّت بها الحضارة الأمازيغية، وبدأ في العمل على ذلك ضمن سلسلة “تاريخنا” “ⴰⵎⵣⵔⵓⵢ ⵏⵏⵖ”، يقول شارحًا: “اخترت الأسماء بعناية، وحاولت أن أظهر التنوع الذي تمتاز بها حضارتنا، فقد أنجزت عملًا عن يوغرطة بوصفه رجل دولة وقائد حرب، ويوبا الثاني بوصفه حاكمًا ورجل علم، كما أحضر أعمالًا عن فاطمة نسومر وعبد الكريم الخطابي وابن رشد، ولقد حرص على أن تكون الأعمال بالحرف الأمازيغي والحرف العربي في نسخة واحدة، وقد لقي العمل تجاوبًا كبيرًا، وحظي باهتمام كبير، فالناس متشوقون للغوص في هذا التاريخ المنسي”.
يرى الباحث أنير الحسين بويعقوبي، وهو أستاذ الأنثروبولوجيا، بجامعة ابن زهر بأكادير، وقد تعرف على مادغيس، منذ تسعينيات القرن الماضي، عندما انتقل إلى المغرب وأقام في مدينة أكادير، هناك تعامل مع المناضلين الأمازيغيين وانغمس في ثقافتهم، وبلغ درجة التمكن من لغتهم المحكية بطلاقة، وتحديدًا تاشلحيت السوسية، يمكن القول وبدون مبالغة أن مادغيس يعتبر اليوم المرجع الأكاديمي والعلمي في كل ما له علاقة بأمازيغية ليبيا، ومن الباحثين المجدين فيما يخص الأمازيغية عموما، مضيفا أنه تمكن من الوصول لهذا الموقع المتميز بفضل نضاله المستميت ومواجهته لمختلف العراقيل، خاصة محاصرته من طرف نظام العقيد معمر القذافي، مما اضطر معه لهجرة بلده والعيش في منفى متنقلا بين العديد من بلدان تامزغا معايشا للمجتمعات الأمازيغية، ومتنقلا بين المكتبات الأوروبية باحثا عن المراجع والمصادر الأمازيغية، كما يعتبر من القلائل الذين يتحدثون العديد من التنويعات الأمازيغية، وقد عمق معرفته في هذا المجال بعد تردده على المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية (INALCO) بباريس، حيث تعلم تاقبايليت وأمازيغية الطوارق، وخلال تردده على المغرب أظهر اهتماما استثنائيا بكل ما له علاقة بالأمازيغية، مما جعله اليوم يتوفر على أرشيف مهم من الوثائق الأمازيغية المكتوبة والمسجلة والمصورة في مختلف المجالات، ويكفي القول بأنه يتوفر على حوار جد مطول مع العميد محمد شفيق حول مساره وإنتاجه العلمي، وقد خلق موقع تاوالت الإلكتروني الذي يعتبر موقعا هاما في الثقافة الأمازيغية، كما أصدرت مؤسسة تاوالت العديد من الكتب والمنشورات، ونظرا لتمكنه من وسائل التواصل الحديثة فقد استثمر هذا المجال للتعريف باللغة والثقافة الأمازيغية عموما وبالحضارة الليبية على وجه الخصوص.

موحند أومادي أو أفولاي المخرج

موحند أومادي هو الاسم الذي وقع به مادغيس اعداده وإخراجه للعديد من الأشرطة الوثائقية، بالتعاون مع معلق برنامج أمودو حسن بوفوس، تحث اشراف مؤسسة توالت، ووقع اخراجه لحلقة محلقون في الظلام، لبرنامج أمودو سنة 2002، باسم مادغيس أفولاي، لم تقتصر موهبته على الأفلام الوثائقية فقط، بل وسع نطاقه إلى مجال الرسوم المتحركة أيضًا، حيث أخرج باسم مادغيس أفولاي فيلم الرسوم المتحركة الطويل بالأمازيغية “ذاكرة الظل” “ⵜⴰⵎⵓⴽⵉⵜ ⵏ ⵓⵎⴰⵍⵓ” الذي يتحدث عن جزء من التاريخ الأمازيغي المنسي، عبر قصة الملك الأمازيغي يوكرتن أو يوغرطة الذي حارب الإمبراطورية الرومانية، في خمس حلقات من انتاج شركة فوزي فزيون، وتم بثه في التلفزيون المغربي سنة 2007، والذي حاز على العديد من الجوائز في مهرجانات مختلفة، كما تعاون مع استديوهات dream works كرسام رسوم متحركة في الفيلم الروائي “أمير مصر” “the prince of Egypt”.

أمازيغي عبقري تحدى الصعاب

مادغيس رجل عبقري عظيم، وفريد في تفكيره وإبداعه. وُلد ونشأ في قلب الأمازيغية، وبقي وفيًا لها طوال حياته، مساهمًا بشكل فعّال في تطويرها والرفع بها في مختلف الميادين. بفضل مساهماته الريادية، أثبت أهمية الإلمام بالثقافة والهوية الأمازيغية والعمل على نشرها. فأبدع مادغيس في دعم وترقية الأمازيغية من خلال جهوده المتعددة. قاد عدة مشاريع إعلامية وثقافية تعزز من الوعي الأمازيغي، أسس بعد الثورة الليبية التي شهدت الإطاحة بنظام القذافي قناة إبرارن الفضائية، كأول قناة أمازيغية فضائية تنطلق من ليبيا، وساهم في تقديم وإعداد العديد من برامجها بفضل تجربته وخبرته المتنوعة. كما له الفضل في إنشاء راديو أوال الأمازيغي الذي يصدح بصوت الهوية والتراث الأمازيغي من ليبيا.
كرس مادغيس وقته في خدمة الأمازيغية رغم صعوبة الأمر، أوضح أنه من الصعب جدا القيام بهذا فلدي طفلان، لي وظيفة، كان من الأفضل العمل في مجموعات كبيرة أو مؤسسات لضمان الاستمرارية، هذه هي الطريقة التي ينجح بها الغرب، لكن مع من تعمل، أنا لا أقول أنه لا أحد يستحق العمل معه، لكننا ما زلنا نفتقر للعمل معا، أو عندما ندخل في مشروع نريد أن نستثمر فيه أنفسنا بدلا من التفكير في مصلحة الجماعة، موضحا أن هذه المشكلة ليست مرتبطة بالأمازيغية فقط، بل سبق وأن عمل بالأمم المتحدة ولا أحد يريد العمل الجماعي.
كلمات الباحث والأستاذ حميد طالبي تلخص بدقة هذه الشخصية الفذة. فقد صرح لنا أن مادغيس بكل بساطة فكر إبداعي في خدمة الأمازيغية، في أبعادها المتعددة، كان له دور استثنائي في الارتقاء بالأمازيغية في ليبيا، وكان جزءًا من جموع المناضلين الذين يحملون هم القضية الأمازيغية بفخر واهتمام. تميز مادغيس بفهمه العميق للغة الأمازيغية وثقافتها، وعمل جاهدًا على تطويرها وتعزيزها من خلال استخدام التكنولوجيا ووسائط الاتصال الحديثة. كانت له اليد الطولى في منشورات “تاوالت” “ⵜⴰⵡⴰⵍⵜ”، وإصدار مجلة “أرمات” “ⴰⵔⵎⴰⵜ” في 5 أعداد، والمشاركة الإيجابية في تطوير المناهج المدرسية، أثبت مادغيس إصراره على تعزيز اللغة والثقافة والتاريخ والفن الأمازيغي بشكل مبتكر وفعّال.
تكريما لهذه الشخصية الأمازيغية المتميزة، تم اختياره سنة 2019 من طرف جمعية تايري نواكال “ⵜⴰⵢⵔⵉ ⵏ ⵡⴰⴽⴰⵍ”، التي تترأسها الفنانة المقتدرة فاطمة تبعمرانت، كشخصية السنة في النسخة السابعة للإحتفال برأس السنة الامازيغية الجديدة، وهي مناسبة استغلها الباحث مادغيس لتأطير ندوة علمية حول “المخطوطات الأمازيغية بليبيا”، سيرا على نهج الأستاذ محمد شفيق الذي تأثر به مادغيس بشكل كبير، وهو الذي ينفر من المديح الذي يسود عادة خطاب التكريم، ويقدم اعتذاره لكل من يدعوه لتكريمه، إلا اذا اعتبر المناسبة فرصة لمزيد من الترافع حول القضية الأمازيغية، أو فرصة لتثمين مبادراته ومواقفه وانجازاته الخاصة بالقضية الأمازيغية، وإعادة الاعتبار للغة والثقافة والحضارة الامازيغية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى