في ذكرى وفاة شوبنهاور، غي دوموباسان: شوبنهاور طبع الإنسانية بخاتم احتقاره، وكسر غرورها
لوسات أنفو: اقتراح إلياس أبوالرجاء
في مثل هذا اليوم، 21 شتنبر من عام 1860، فارق آرثر شوبنهاور الحياة، المعروف أيضا بفيلسوف التشاؤم والشر.
اخترنا لقراء لوسات أنفو، أحد النصوص التي كتبها الكاتب الفرنسي غي دوموباسان حول “موت شوبنهاور”، والذي ورد في العدد 67 من مجلة نزوى وترجمه إلى العربية، محمد أغبالو.
كان يمشي مشية مرضى السل المقبلين على الموت، كنت أراه كل يوم حوالي الساعة الثانية تحت نوافذ الفندق، مواجها البحر في هدوء، يجلس ب فوق أريكة النزهات، كان يبقى لبعض الوقت دون حركة تحت حرارة الشمس، يتأمل البحر الأبيض المتوسط بعيون حزينة، وفي بعض الأحيان، كان يرسل نظره إلى الجبل المرتفع حيث يتجمع البخار على قممه التي تحجب منطقة (المنتون)، ثم يجمع ساقيه الطويلتين النحيفتين الشبيهتين بعظمتين يتموج حولهما ثوب السروال.
كان يفتح كتابا، دائما نفس الكتاب، ثم لا يتحرك أبدا، كان يقرأ بعينيه وفكره، وكل جسمه المسكين الزافر يبدو قارئا، كل روحه تجهد وتضيع وتختفي داخل هذا الكتاب إلى أن تجعله الريح الباردة يسعل فينهض ويعود أدراجه.
كان رجلا ألمانيا طويل القامة بلحية شقراء، يتناول غذاءه وعشاءه في غرفته، لا يكلم أحدا، شدني فضول غامض إليه، فجلست يوما بجانبه كنت آخذ معي ديوان شعر لموسي لأعطي عن نفسي نحوه انطباعا محمودا. وبدأت أطالع (الرولا)×
فجأة قال لي جاري بفرنسية جيدة: – هل تعرف الألمانية سيدي؟
– ولا حرفا سيدي
– مع الأسف! لكن بما أن القدر وضعنا جنبا لجنب فسوف أعيرك إياه؛ سوف أجعلك تطلع على شيء
لا يخطر على البال، هذا الكتاب الذي في يدي.
– ما هو إذن؟
– -إنه نسخة من كتاب أستاذي شوبنهاور به شروح بخط يده. جميع الهوامش، كما ترى مغطاة بكتابته.
– أخذت الكتاب باحترام، وتأملت خطوطه اللامفهومة بالنسبة إلي، لكنها تكشف عن الأفكار التي لا تموت لأكبر مخرب لأحلام البشر مر على وجه الأرض، وقفزت إلى عقلي أبيات موسي:
– نم أنت سعيدا، فولتير، وابتسامتك الشنيعة
– هل مازالت ترفرف فوق عظامك النحيلة؟
وكنت أقارن دون إرادتي بين النهم الطفولي لفولتير وتهكمه الديني، ذلك التهكم الحديدي الذي لا يقاوم على الفلسفة الألمانية، تلك الفلسفة التي لا يمحى أثرها الفوضوي.
مهما احتججنا ومهما غضبنا واستأنا، مهما سخطنا، ومهما أثرنا، فشبنهاور طبع الإنسانية بخاتم احتقاره، وكسر غرورها.
شهواني خائب، سفه المعتقدات والآمال والشعر والأوهام، وحطم الطموح، ودمر ثقة الإنسان في الضمير، قتل الحب، وهاجم الطقوس المثالية للمرأة، وزعزع وهم القلوب، نفذ أكبر عمل عفن لم يقم به أحد، لقد طال كل شيء بسخريته، وافرغ كل شيء من محتواه، والى اليوم فإن أولئك الذين يزاولون الأفكار، يبدو واضحا أنهم وبالرغم منهم يحملون في عقولهم جزءا من أفكاره.
– أنت إذن تعرف شوبنهاور معرفة شخصية؟ قلت للألماني. فابتسم بقلق
– إلى حد موته سيدي.
وتحدث معي عنه، حكى لي عن الانطباع الشبه فوق طبيعي الذي يتركه هذا الكائن الغريب على كل من يقترب منه.
قال لي عن مقابلة هذا المهدم الهرم مع سياسي فرنسي ذي التوجه الجمهوري، ذلك الذي أراد رؤية هذا الرجل فوجده في مشرب صاخب جالسا وسط المريدين، مجعدا وجافا، يضحك ضحكة لا تنسى، يعض ويمزق الأفكار والمعتقدات بكلمة واحدة، ككلب يقطع الثوب بضربة سن واحدة ليلهو به، وكرر على مسمعي جملة ذلك الفرنسي الذي ذهب مذعورا خائفا وصارخا:
*ظننت أنني أمضيت ساعة مع الشيطان*
ثم أضاف: لقد كان لديه في الواقع ياسيدي ضحكة مخيفة، كانت تصيبنا بالخوف حتى بعد موته، إنها طرفة غريبة التي سأحكيها لك إن كانت تهمك.
وبدأ يحكي بصوت تعب تقطعه فواصل السعال على فترات.
لما مات شوبنهاور كنا نسهر على جثته بالتناوب، مثنى مثنى حتى الصباح.
كان ممددا في غرفة كبيرة، بسيطة جدا، غرفة شاسعة حيث كانت تحترق شمعتان فوق طاولة الليل.
في منتصف الليل، أخذت نوبة الحراسة مع احد رفاقنا، خرج الصديقان اللذان عوضناهما واتينا للجلوس عند أسفل السرير.
الوجه لم يتغير قط، كان يضحك، هذه الثنية التي نعرفها جيدا محفورة في ركن الشفاه، وخيل إلينا انه سيفتح عينيه ويتكلم. فكرته أو بالأحرى أفكاره كانت تغمرنا، لقد كنا نشعر أكثر من أي وقت مضى أننا في جو عبقريته، مقتحمين مملوكين له، تحت سيطرته، وخيل الينا أن هيمنته صارت أكثر وأقوى وهو ميت.
إن هناك سرا غامضا وراء قوة هذا العقل الذي لا يضاهى. إن جسم هؤلاء الرجال يختفي، لكنهم يبقون، في الليلة التي تلي توقف قلبهم، أوكد لك سيدي أنهم يكونون مخيفين.
كنا نتكلم عنه بصوت منخفض، نتذكر الكلام والعلاقات وإدهاشه كلماته الصادم الذي يشبه
الضوء المنتشر داخل ظلمات الحياة المجهولة.
«ظننت انه سيتكلم» قال رفيقي، وشاهدنا بقلق مثير للخوف، الوجه الساكن والضاحك دائما، وشيئا فشيئا بدأنا نحس بعدم الارتياح، وإرباك وعجز في التنفس»
وبدأت أتمتم:
– لا أعرف ما بي، لكنني أؤكد لك «أنني مريض».
ولاحظنا أن الجثة كانت تطلق رائحة قبيحة، فاقترح مرافقي أن نذهب إلى الغرفة المجاورة، ونترك الباب مفتوحا فوافقت. أخذت إحدى الشمعتين اللتين كانتا تشتعلان على طاولة الليل، وذهبنا للجلوس في طرف الغرفة الأخرى، في وضعية تسمح لنا برؤية السرير
والميت من مكاننا، تحت إنارة الضوء القوي.
لكن قلقنا تواصل، لنقل إن كينونته اللامادية صارت طليقة حرة قديرة ومسيطرة، مكتسحة حولنا، كما كانت رائحة الجسم المتحلل تصل إلينا، وتتسرب داخلنا متدفقة…
وفجأة أصابت عظامنا قشعريرة، انه صوت، صوت أتى من غرفة المتوفى. ركزنا فجأة ناظرينا عليه، ورأينا.. نعم سيدي رأينا كلينا، أنا ومرافقي شيئا أبيض يجري فوق السرير ثم سقط نحو الأرضفوق السجاد، واختفى تحت الأريكة.
قمنا واقفين قبل اخذ الوقت للتفكير في أي شيء،
مأخوذين برعب أحمق، مستعدين للهرب، ثم مأخوذين برعب
نظرنا إلى بعضنا، كنا شاحبين بشكل رهيب، كان قلبانا يخفقان لدرجة تحريك ملابسنا، فتكلمت
أنا الأول:
هل رأيت؟
– نعم، قد رأيت
– الم يمت؟
– ولكنه قد دخل مرحلة التحلل
– ماذا سنفعل؟
فقال مرافقي بتردد
– يجب أن نذهب لنستطلع الأمر.
أخذت شمعتنا ودخلت أولا، مسحت الغرفة الكبيرة ذات الأركان السوداء بعيني، لا شيء عاد يتحرك، واقتربت من الفراش لكنني توقفت مذهولا ومرعوبا، شوبنهاور لم يعد يضحك، كان يكشر بطريقة رهيبة، الفم مسدود والخدود محفورة.
تمتمت
انه لم يمت!
لكن الرائحة المخيفة صعدت إلى أنفي وخنقتني، فلم أعد أتحرك، انظر إليه بتركيز، فزعا كما لوكنت أمام مشهد داهمني على غفلة.. في الوقت الذي حمل فيه مرافقي الشمعة الأخرى وانحنى إلى الأرض، ثم لامس ساعدي دون أن يقول كلمة.
تابعت نظرته، ولاحظت على الأرض تحت الأريكة بجانب السرير شيئا شديد البياض فوق السجاد الغامق، مفتوحا كأنه يعض، إنه طاقم أسنان شوبنهاور، عمل التحليل على ارتخاء الفكين، عمل على رميه من الفم، كنت خائفا حقا هذا اليوم سيدي.
وبما أن الشمس كانت تقترب من البحر المتلالئ فقد نهض الألماني المنهك، سلم علي والتحق بالفندق.