ثقافة

في ذكرى رحيله الخمسين: طه حسين… الانتصار للعقل أولا

يمكن القول بأن طه حسين هو أول رائد للعلمانية كمفهوم ابستمولوجي يربط المعرفة بمصدر وحيد هو العقل

عبد الإله إصباح

تنبيه المحرر:

“في 28 أكتوبر 1973 رحل عن عالمنا المفكر الكبير طه حسن مخلفا أثره و أسئلته الشاقة تعمل في العقول و تقاوم التحجر و السبات الدغمائي. و ذأبا على تقليده الرامي إلى الاحتفاء بالذين واصلوا مغامرة العقل، و أغنوا الوجدان الإنساني، و وسعوا من حرية التفكير و الفعل، يخلد موقع “لوسات أنفو”  ذكرى رحيل العظيم طه حسين بهذا النص للكاتب عبد الإله إصباح. ” 

النص

ما من شك أن طه حسين كان من أوائل المفكرين الذين اصطدموا بالرؤية الدينية التي كانت ولا تزال تحكم نظرة غالبية العرب إلى ماضيهم وحاضرهم، نظرة تعتبر أن الحقيقة قد قيلت و اكتملت فيما مضى وما علينا سوى الرجوع إليها والارتكاز عليها في بناء أي معرفة كيفما كان مجالها وموضوعها. أول ما قام به طه حسين هو أنه شكك في القيمة المعرفية التي يحملها القرآن عن فترات من الماضي المرتبط بمنطقة الجزيرة العربية، واعتبر في كتابه ” الشعر الجاهلي ” أن حديث القرآن عن ابراهيم واسماعيل غير كاف لإثبات وجودهما التاريخي، وأن إثبات هذا الوجود يحتاج إلى تجاوز اليقين الديني إلى الشك المنهجي كمنطلق لبناء معرفة تتوسل مناهج البحث التاريخي كما تبلورت وتطورت في أرقى جامعات ومعاهد الغرب. لقد كان كتابه عن الشعر الجاهلي هو أول مواجهة للثقافة السائدة من منظور ينتصر للعقل، فكان بحق صدمة أفزعت حراس التقليد من رجال دين ومؤسسات دينية، فانبروا يهاجمون المفكر ويضيقون عليه الخناق ويدفعون إلى محاكمته وتجريده من وظيفته بالجامعة.

ويمكن القول بأن طه حسين هو أول رائد للعلمانية كمفهوم ابستمولوجي يربط المعرفة بمصدر وحيد هو العقل، ويزيح أي مصدر أخر بغض النظر عن مكانته وقداسته. صحيح أن علي عبد الرازق كان هو الآخر رائدا من رواد العلمانية، غير ان اهتمامه انصب أكثر على الجانب السياسي المرتبط بمفهوم الخلافة، بينما طه حسين سعى إلى تكريس قطيعة مع كل معرفة انبنت في تعارض مع مقتضيات العقل وفروضه.

ظل طه حسين مناصرا لمنهجه العقلاني، وعمل على ترسيخه وهو استاذ  بالجامعة المصرية، وواصل معركته الفكرية في العديد من مؤلفاته سواء ذات الطابع النقدي أو تلك المتعلقة بفترات وشخصيات من تاريخ الإسلام. كتابه  ” الفتنة الكبرى ” يكشف عن إلمام كبير بأمهات المصادر والمراجع  الكلاسيكية التي تناولت جانبا من هذا التاريخ، كسيرة ابن هشام ومختلف مصادر السيرة النبوية وسيرالصحابة . كانت واقعة “الفتنة الكبرى ” مجالا لترسيخ الرؤية العقلانية لتفسير أحداث التاريخ، فانتصار معاوية وانهزام علي بن ابي طالب يعود من منطلق هذه الرؤية إلى اسباب موضوعية حتمت انتصار الأول وانهزام الثاني. هذا يعني أن التا ريخ يمكن تعقله من خلال ربط النتائج بأسبابها الواقعية.  كما أن الاهتمام بهذا الحدث التاريخي يعود إلى كونه شكل منعطفا حاسما في تشكل الفرق والنحل الإسلامية التي ظلت متصارعة على السلطة والنفوذ الإديلوجي، فهو إذن حدث مرجعي لا يمكن إغفاله في تفسير العديد من الظواهر ذات العلاقة بتاريخ الإسلام.

طه حسين وزوجته سوزان بريسو

وإذا كان المنظور العقلاني لطه حسين قد حكم منظوره للماضي، فإنه حكم ايضا منظوره للمستقبل. فهو لا يتصور مستقبل مصر وعموم البلاد العربية بعيدا عن النموذج الأرقى للعقل كما تجسد في الغرب، وقد ترافع عن هذا الطرح في كتابه المشهور في هذا الصدد بعنوان ” مستقبل الثقافة في مصر “

و لأن الطريق إلى العقل يبدأ من التعليم، فقد كان من الأوائل الذين دافعوا عن حق الشعب في التمتع بهذا الحق، واعتبر التعليم كالهواء لا ينبغي أن يحرم منه أي مواطن وعمل على اصدار قوانين تضمنه عندما كان وزيرا للتعليم. موقع المسؤولية والمنصب بالنسبة إليه هو فرصة للقيام بمبادرات خلاقة تنتصر للجهد والموهبة، فبادر إلى تعيين أحمد أمين كأستاذ في الجامعة بالرغم من عدم توفره على الدكتوراه، لأنه اعتبر ما نشره من ابحاث قيمة تؤهله لهذا المنصب. كما عمل على تسهيل استفادة الفيلسوف عبد الرحمان بدوي من بعثة إلى الخارج  لما لمسه فيه  من قدرات واستعدادات للعطاء في المجال الفلسفي، وكان في ذلك محقا تماما.

والحق ان طه حسين ظل يتواصل مكرسا نهجه العقلاني، منفتحا على الأجيال الجديدة باعتبارها هي الضامن لاستمرار ما بدأه. وفي هذا الصدد ينوه المفكر محمود أمين العالم بخصلة الانفتاح لديه و تقبل الاختلاف من المثقفين الشباب بخلاف العقاد الذي كان متعاليا ومنغلقا. ذلك هو الفرق بين مثقف ماضوي ومثقف نهضوي يتطلع إلى بناء مجتمع يسوده العقل والعدل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى