عن كذبة جامع الفنا تراث ثقافي
لوسات أنفو
لا شيء يدعو اليوم للارتياح لما تجتازه ساحة جامع الفنا . الحكواتيون ينقرضون تباعا . و الفرجة التي كان يتحف بها نجوم الساحة أمثال ميخي و طبيب الحشرات و الصاروخ و الشرقاوي مول الحمام جمهورهم، اضحت مجرد ذكريات يستعيدها البعض بعد اختفاء روادها الذين اختفت معهم التعليقات الساخرة المواكبة للأحداث السياسية و التطورات الاجتماعية و الاقتصادية التي يعرفها المغرب أو يجتازها العالم . و تلاشى كيان الحلقة التلقائي الذي كان موردا غنيا لإخصاب خيال الناس و إنعاشه بصور تصوغها قصص الحكواتيين و بلاغة الساخرين بجمالية يعز نظيرها ، لتتحول إلى عالم مفبرك كل شيء فيه مصطنع يندر فيه ما يمتع باستثناء القليل .
كان طبيب الحشرات يسخر من واقع الساحة في زمانه قائلا ” لو مرّ مهندس الحلاقي من هنا لأمر بتهديم الكثير من الحلاقي بجامع الفنا ” مستعيرا بذلك فكرة مهندس البلدية الذي يراقب البناء . الغريب هو أن هذا الموقف الساخر الناقد لوضع الساحة صدر عن نجم من نجومها في لحظة كانت ما تزال تحافظ على ألقها . ترى ما الذي كان سيقوله طبيب الحشرات عن الحلقة بفضاء الساحة الأسطورية اليوم لو أمهله الموت قليلا؟ فقد زحفت المطاعم الشعبية ــ بمباركة مسؤولين لا يعبأون بشيء عدا العائد المادي و الانتخابي ـ بلا تحفظ لتطرد بقايا الحلقة و تحاصرها في هامش ضئيل لا يليق لا بتاريخها و لا برمزيتها و لا بقيمتها كتراث شفوي . و أضحت جامع الفنا ساحة للباعة المتجولين و المتسولين و اللصوص و المتحرشين جنسيا بالنساء و الأطفال و العاهرات المتلقفات لعطايا المهووسين الأجانب . و وجد رجل الحلقة نفسه في ظل هذا الوضع أعزلا إلا من ماض مشرق للساحة حوّله بنوستالجية إلى زمن ذهبي مضى و انقضى ، بعدما تكاثر حوله المدّعون و المبهرجون ، وبعدما فقدت الساحة نظامها و انفض من حولها جمهورها الوفي إلا من زوار استردجتهم أدخنة النقانق المشوية و رؤوس الغنم المبخرة أكثر مما استدرجتهم فتنة الحكي و بهجة الفرجة .
ما الذي استفاده رجل الحلقة من الإقلاع السياحي الذي عرفته مراكش في العشرين سنة الأخيرة ؟ و كيف انعكست كل تلك المليارات من الدراهم التي تحدث عنها المسؤولون كمداخيل للقطاع بالمدينة الحمراء على الساحة و فنانينها خلال هذا العقد ؟ ألم يكن المنتوج الثقافي الأساسي الذي تبيع به مراكش لياليها السياحية و تستدرج به الملايين من السياح من مختلف أصقاع الأرض هو جامع الفنا ؟ أليس المعيار الأساسي الذي تستقطب به الفنادق الكبيرة زبناءها الأجانب هو القرب من الساحة ؟ ما الذي جنته إذن من كل هذا هي و فنانوها ؟ لا شيء . فقد تركت جامع الفنا لمصيرها كتجمع عشوائي للمطاعم الشعبية التي يتضخم عددها و حجمها يوما بعد يوم ، مقابل موت بطيء للحلقة كعالم بنته الفرجة الممتعة و الحكي الفاتن . و تقاعست السلطات المحلية و المجلس الجماعي عن توجيه جزء من واجبات الرسوم المستخلصة من النشاط السياحي لفائدة الساحة و أرباب حلقاتها لمنحهم وضعا يضمن كرامتهم و يؤمنهم اتجاه مفاجآت المرض و الشيخوخة و يشجعهم على الاستمرار في أدائهم الفني الباهر . فاليوم لم يعد من عالم شيق يسمى الحلقة بجامع الفنا عدا ما جمعه الكُتّاب من انطباعات عنها و ما رسخه الرحالة لها من توصيف .
أكثر من ذلك فالعشرات من المقاهي و المطاعم تحيط بساحة جامع الفنا و تكتظ بزبنائها فقط لأن الساحة تقابلها و فنانوها يؤدون باستمرار على خشبتها عروضهم . و مع ذلك ، و رغم الأموال الطائلة التي تتراكم في صناديق هذه المحلات إلا أنها لا تسهم و لو بسنتيم واحد في تطوير الساحة و تحفيز أرباب الحلقة على تجويد أدائهم أكثر و تحميسهم على مواصلة عطائهم و ضمان استمراريته في المستقبل .
مرة أخرى ما الذي استفادته الساحة من تصنيفها تراثا شفويا إنسانيا عدا نصب تذكار بئيس بواجهة مهشمة يظهر حينا و يختفي أحيانا أخرى . ربما أن ذلك كما قال خوان غويتيصوللو سيضمن ألا تتحول جامع الفنا يوما ما إلى موقف للسيارات . غير ذلك لم يحدث شيء لصالح أرباب الحلاقي ولا لصالح تحسين وضع الساحة و تحصين محتواها الثقافي و تقوية رمزيتها التاريخية كرصيد لا ينبغي التعامل مع أشكال اندثاره و مقدماتها البادية للعيان ببرود و لا مبالاة .بل تضخمت الجمعيات المؤسسة حول الساحة و تكاثرت خطاباتها و دخلت في منافسة حول شرعية احتكار ملف هذا الموقع لحسابها . و دائما دون أدنى طائلة تذكر . و حتى المثقفون و الكتاب سواء المراكشيين منهم أو المغاربة عموما تقاعسوا بدورهم في التوثيق للمحتوى الشفوي للساحة و جمع متنه باعتباره تراثا قيد الاندثار باستثناء مجهودات قليلة و متفرقة . و لم ترع أية مؤسسة عمومية أو خاصة ، حكومية أو مدنية مثل هذا المشروع الثمين .
و بشكل مفارق لم تجد سلطات مراكش في موقف تاريخي مأسوف عليه ، من مظهر يسيء للساحة و قيمتها عدا الكتب و الكتبيين الذين ساهموا منذ عقود في منحها قيمة مضافة . فطردوهم منها شر طردة بعدما نفوهم إلى مقبرة سيدي غريب ثم حديقة عرصة البيلك ثم سوق الازدهار بباب دكالة إلى أن جاء عهد الوالي حصاد فلم يجد من مظهر مقرف خلف سور باب دكالة غير الكتب و باعتهم فترك مواقف الحمير و البغال و ركام الأزبال و تجمعات اللصوص و المتسولين المرابطين هناك ليهدم محلات الكتبيين على رؤوس أصحابها فدفنت الجرافات في مشهد اقرب إلى إبادة ثقافية الآلاف من الكتب تحت الانقاض ليسجن عدد من الكتبيين بعد تشريد أسرهم، في أكشاك حقيرة لا تعكس القيمة الحضارية للكتاب خلف السور بجوار صعب لشلالات من البول المتدفق بالمكان . و إلى اليوم تواصل السلطات المحلية التي تركت كل الأشكال الفادحة لاحتلال الملك العمومي بالمكان ، تضييق الخناق على الحضور الثقافي بمحيط ساحة جامع الفنا من خلال مطاردة الفنانين رسامي البورتريه المتواجدين بممر البرانس المطل على الساحة و العمل على إجلائهم من المكان ، في الوقت الذي كان من المفروض فيه أن تعزز حضورهم المشرق و تؤمن موقعا محترما لهم بالساحة أو بمحيطها . عاكسة بموقفها هذا احتقارا واضحا لقيمة الفن و الفنانين .
منذ أزيد من عقد كتب خوان غويتيصوللو قائلا ” لقد اتصل بي أحدهم هاتفيا ليطلب مني أن أساعده على خلق فضاء كفضاء الساحة في مدينة إسبانية .أجبته بطريقة جد بسيطة : إن ساحة جامع الفناء يمكن هدمها بمرسوم ولكن لا يمكن خلقها بمرسوم.” كم يلزم من الوقت إذن ليقتنع المسؤولون مهما كانت صفتهم محلية أم وطنية بالمؤدى الخطير لهذه القولة .
هناك وضع ثقافي استثنائي في الساحة تكرس عبر تاريخها يجعل تحصينها أمرا مستعجلا يوضح ضرورته خوان قائلا : “يجب الحفاظ عليها .. يجب احترام التراث. إن الحكاة مثلا هم أشخاص ليسوا مثقفين متناسقي الأجزاء، ليسوا مندمجين… هناك عفوية، يظهرون بشكل عفوي أو يكتشفون هوايتهم في الساحة. أذكر كمثال واضح جدا: الصاروخ، حرفيا “الكويطى” (يدعونـه أيضا “السبوتنيك” لأنه كان يتكلم كثيرا عن الرماية)، الذي كان في بدايـة الأمر يرتّل القرآن عن ظهر قلب. كان رجلا قويا جدا. تعب يوما ما من الترتيل أو ربما لم يعطه الناس نقودا أو انصرفوا عنه … حينئذ أخذ حمارا كان هناك فرفعه إلى فوق وحمله فوق كتفيه فاجتمعت الحلقة في الحين وعند ذلك قال الصاروخ : “عندما كنت أقرأ عليكم كلام الله لم يكن أحد يستمع إلي أما الآن وأنا أرفع حمارا جاء الجميع ليسمعني… من أنتم …؟أشخاص أم حيوانات؟” منذ ذلك الحين غيّر كليا تخصصه، وبدأ بنقد الشعب والمجتمع المغربي منتسبا إلى التراث الفكاهي والهجائي الذي كان يهزأ فيه كثيرا بالجمهور الذي كان يساهم في الحلقة . كان هناك دائما متفرج يتخذه كضحية لسخرياته. واستمر في هذا التقليد وكان يمزجه كالعادة بترتيل سور قرآنية أو ابتهالات دينية.”
أين هي جامع الفنا التي قال عنها خوان غويتيصوللو إنها كانت دائما فضاء سلميا تهيمن عليه السخرية ؟ أين تلك الساحة التي كان الناس يقصدونها لسماع الموسيقى و الاستمتاع بقصص الحكواتيين لتجديد دهشة حواسهم و فتنة تذوقهم للحياة . ذهبت الصورة و بقيت الظلال فقط . ألا يحق لنا بعد كل هذا أن نتساءل اليوم ما الذي تبقى من ساحة جامع الفنا؟