عندما تتحدث الألوان وترقص الأرواح: ليلة في متحف دار كناوة بمراكش

بقلم: خولة حروطي
عِندَما تَلمَحُ عيناكَ تِلكَ الأكُفَّ المُلوَّنة – زَرقاء وصَفراء وحَمراء وسَوداء – المَطبوعة على جِدارٍ أبيض، تَجِدُ نفسَك مَدفوعاً لاتِّباعِها. تَتَتابَعُ الأكُفُّ وتَتَكاثَر، تُشيرُ وتَدعو، تُغري المارَّ باكتِشافِ ما يَنتَظِرُه خَلفَ الباب. وفي هذهِ الليلةِ الباردةِ من ديسَمبر، حيثُ تَنخَفِضُ دَرَجةُ الحَرارةِ إلى سِتِّ دَرَجاتٍ مِئَويَّة، تَقودُ هذهِ الأكُفُّ المُتَراقِصة خُطاكَ إلى عالَمٍ آخَر: “دار كناوة”، المُتحَف الذي افتُتِح في سِبتَمبَر الماضي في بناية عتيقة تم ترميمها قرب باب الخميس بمراكش.
ما إن تَعبُرَ العَتَبة، حتى يَنفَجِرَ المَشهَدُ في سِمفونيَّةٍ من الألوان: مُثَلَّثاتٌ هَندَسيَّةٌ تَتَشابَكُ على السَّقفِ والجُدران، تَتَمايَلُ بين الأزرَقِ والأصفَرِ والأخضَرِ والأحمَر، في تَناغُمٍ يَخطَفُ الأنفاس. في قلب رياض عتيق تحوَّل إلى متحف، تتناغم الزخارف التقليدية المغربية مع تصميم عصري جريء: أقواس مزينة بأشكال هندسية ملونة، وسقف تتقاطع فيه العوارض الخشبية الملونة، وأبواب خشبية تزينها مربعات متعددة الألوان.
“الألوان في الثقافة الإفريقية”، يشرح أسامة العسري، مدير التسويق في المتحف، “ليست مجرد زينة. إنها تعبير عن الحياة نفسها. فالأفارقة يحبون الحياة ويعبرون عن ذلك في كل شيء: ملابسهم، تسريحات شعرهم، رقصاتهم.”
في رحاب المعلمين
في الطابق العلوي، تستقبلك قاعتان: الأولى تزينها صور المعلمين التي تروي تاريخ الفن الكناوي وتسلسله عبر الأجيال. صور كبيرة معلقة بسلاسل ذهبية لوجوه حكيمة تحمل في تجاعيدها ذاكرة هذا الفن العريق: مصطفى باقبو، محمد رويو، عبد السلام مرشان، حميدة بوسو، محمود غنيا، محمد سام، وغيرهم من الأساتذة الذين حملوا هذا التراث وحافظوا عليه. والقاعة الثانية تعرض الأدوات والملابس التقليدية. وقد نجح مؤسسو المتحف في التواصل مع عائلة أحد أعمدة الفن الكناوي، المعلم عبد اللطيف المخزومي المعروف بـ”سيدي عمارة”، للحصول على بعض مقتنياته الشخصية، بما فيها لباسه التقليدي الذي يعد قطعة نادرة من تراث كناوة.
وعن أصل هذا التراث الفريد، يكشف العسري أن كلمة “كناوة” مشتقة من الكلمة الأمازيغية “أكناو” التي تعني “الأسود”. “فأصول الموسيقى الكناوية”، يضيف، “تعود إلى المهاجرين والعبيد القادمين من إفريقيا جنوب الصحراء، الذين استقروا في مناطق مختلفة من المغرب، مضيفين إلى موسيقاهم عناصر من التصوف المغربي، مما جعل كلمات أغانيهم غير مفهومة للمغاربة لأنها ليست بالعربية.”
قصة القراقب: من القيود إلى الموسيقى
في قاعة الآلات الموسيقية، تبرز “القراقب” كشاهد على تاريخ عريق. يروي العسري قصتها المؤثرة: “كانت في الأصل قيوداً يصطكها العبيد للتعبير عن أنفسهم. ثم تحولت إلى رمز للفرح والحرية، حيث كانت الجاليات الإفريقية تستخدمها للترحيب بالملك.”
إلى جانبها، يعرض المتحف مراحل صناعة آلة “الكمبري” المصنوعة من أمعاء الماعز، والأحذية التقليدية المصنوعة من إطارات السيارات.
“الرقص في الموسيقى الكناوية”، يشرح العسري بحماس، “يحمل رمزية عميقة. فالقفزات في الرقص تمثل الانعتاق من العبودية. كأن الراقص يقول: كنت عبداً بالأمس، واليوم أنا حر تماماً.”
أسرار الألوان والإيقاع
ولسنوات طويلة، اعتُبرت موسيقى كناوة “بسيطة” في تركيبتها. غير أن الدراسات العلمية الحديثة في مجال علم الأعصاب كشفت عن تعقيدها العميق. “إيقاعاتها المتكررة”، يؤكد العسري، “تؤثر مباشرة على موجات الدماغ، محولة إياها من موجات بيتا النشطة إلى موجات ألفا وثيتا المرتبطة بالاسترخاء العميق والتأمل.”
في زاوية أخرى، تستوقفك منحوتات بنية اللون على شكل إنسان. “اللون البني”، يوضح العسري، “هو المفضل لدى شعوب إفريقيا جنوب الصحراء. هذه المنحوتات تمنح حياة جديدة للأشجار، وتربطنا بجذورنا الإفريقية.”
ولكن الألوان في “دار كناوة” تحمل أبعاداً أعمق. “في المعتقدات المغربية”، يشرح العسري، “يرتبط كل لون بجن معين: الأحمر لحمو باشا، الأبيض لمولاي أحمد الشريف، الأصفر لميرى، الأسود لسيدي ميمون، البنفسجي لمليكة، الأخضر للّا عائشة، والأزرق لدافيد. لكن دراساتنا أثبتت أن العلاج بالألوان حقيقة علمية تتجاوز المعتقدات الشعبية. فلكل شخص لون مهيمن يؤثر على شخصيته ويمكن أن يساعد في شفائه.”
تراث يبحث عن مستقبل
يأسفالعسري للتشويه الذي لحق ببعض جوانب الروحانية الكناوية: “للأسف، تم استغلال الطقوس الكناوية تجارياً. فبينما العلاج بالألوان حقيقة علمية، إلا أن جلسات استحضار الأرواح التي تمارس في الزوايا لا تمت للتقاليد الكناوية الأصيلة بصلة.”
كما يعبر عن قلقه إزاء مستقبل الموسيقى الكناوية: “في المغرب، لا توجد مؤسسة تروج للثقافة الكناوية بشكل منهجي. قارن ذلك بالفلامنكو في إسبانيا، الذي لا يتجاوز عمره مائة عام، لكن الدولة تدعمه بقوة. موسيقتنا عمرها قرون لكنها لا تحظى بنفس الاهتمام. والتحدي الآخر هو طريقة نقل المعرفة، فالموسيقى الكناوية تنتقل من المعلم إلى التلميذ دون إطار أكاديمي.” وهذا بالضبط ما دفع مصطفى الزرغاني والحاج أحمد الحرايشي إلى تأسيس هذا المتحف في رياض عتيق بالمدينة القديمة لمراكش، لتيسير نقل هذا التراث للأجيال القادمة.
وداع ملون
لكن هناك بصيص أمل. “موسيقى كناوة”، يختم العسري حديثه، “تصل الآن إلى الثقافات الأجنبية. فموسيقى البلوز والجاز تشبه موسيقانا، لأن جذورها أيضاً إفريقية. وهذا يفتح آفاقاً جديدة للتبادل الثقافي.”
في المساء، عندما يحين وقت المغادرة، لا يعبأ الزائر ببرودة ديسمبر القارسة ولا بالست درجات التي يُظهرها ميزان الحرارة في الخارج. فقد امتلأت روحه دفئاً من رحلته في عالم كناوة الساحر: ألوان زاهية تنبض في ذاكرته، إيقاعات القراقب ما زالت تدق في أذنيه، وأنغام الكمبري العميقة تتردد في قلبه. يخرج من “دار كناوة” وكأنه يحمل معه شعلة من الطاقة والحيوية ستدفئه طوال طريق العودة، محملاً بكنز من الصور والأنغام والإيقاعات الآسرة التي لن تفارق مخيلته لوقت طويل.وعند الخروج، تلوح الأكف الملونة على الجدران مودعة، لا لتقول “مع السلامة”، بل “إلى اللقاء القريب”… فحتماً سيكون هناك لقاء قريب.