بورتريه

جاك بريل: شاعر اللازمنية بتعبير فرديريك ماروتا

لكن قوة كلماته والعنف المتجلي في تفسيراتها جعلا كل من حوله يرفض الاعتراف بموهبته الاستثنائية، حيث يقول في أحد أغانيه عام 1962، "البرجوازيون مثل الخنازير / كلما تقدموا في السن، أصبحوا أكثر غباء" وهو ما يوضح رفضه الواضح للبورجوازية التي نشأ فيها، وعنف الكلمات التي يتغنى بها.

لوسات أنفو: إلياس أبوالرجاء

هناك من الأشخاص من يحرص التاريخ على إعداد نسخة واحدة منهم فقط، فمهما أنجب مستقبلا من الشعراء والمغنيين، من الصعب أن يصل أي منهم لمستوى جاك بريل، الذي زاوج بين التأليف الموسيقي والكتابة الشعرية والغناء، ولاحقا الإخراج والتمثيل.

الشاعر الفرنسي ذو الأصول البلجيكية الذي أحدث ثورة في تاريخ الأغنية الفرنسية والعالمية، يكتب أغانيه بيده التي يبدو من خلال كلماته أن اتصالها وثيق بقلبه، ويلحنها بنفس موسيقية متعطشة، ثم يغنيها بصوته الذي تخطى حدود الزمان والمكان، ليؤديها بنفسه في مختلف مسارح العالم بأداء بهلواني تارة، وحزين تارة أخرى.

طفولة هادئة

ولد جاك بريل في 8 أبريل 1929 في ببلجيكا لعائلة بورجوازية، إلا أن “جاكي” الصغير لم يكن متحمسا لقيم المال والعمل التي وجد عليها عائلته، يقول:” لم يمنحني المال السعادة أبداً. لقد نشأت بالمال، ورأيت كل الأشياء القذرة التي كان عليك القيام بها للحصول عليه”. وهو الأمر الذي دعاه للهروب إلى الأغاني والقصص والمسرح.

كان لدى جاك بريل تعليم محافظ متأثر بشدة بالكنيسة الكاثوليكية، وكان موهوبًا بشكل خاص في القراءة والكتابة، لكنه واجه صعوبات في الصف السادس واضطر إلى إعادة ثلاث سنوات دراسية. ومع ذلك، فقد حافظ على اهتمام قوي بالقراءة (فيرلين، هوغو، سانت إكزوبيري، كامو…) عن طفولته يقول بريل: “لقد عشت طفولة لم يحدث فيها شيء تقريبًا؛ كان هناك نظام راسخ لطيف نسبيًا. لم يكن الأمر قاسياً على الإطلاق… كان هادئاً وكئيباً حتماً”.

إلا أن طفولة بريل التي وصفها بالهادئة لم تخل من بعض الأحداث القاسية، والتي كان لها تأثير على شخصيته، بل وظهر بعض منها في أغانيه لاحقا، كان أبرزها الحرب العالمية الثانية التي شن خلالها الجيش الألماني حملة على بلجيكا، أودت بحياة آلاف البلجيكيين، ما دفع بريل إلى الانخراط في حركة شبابية ذات إلهام مسيحي، كان لها تأثير في بلجيكا لمدة خمسة عشر عامًا تقريبًا. وهناك التقى بـ “ميشي” التي تزوجها عام 1950 وأنجب منها بسرعة ابنة اسمها شانتال عام 1951.

إصدارات خالدة

كان جاك بريل يعمل كمدير للمبيعات في مصنع عائلته، بقرار من والده، أما عنه فقد كان يجد ذلك العمل مملا ويفضل لعب كرة القدم مع العمال عوضا من إصدار الأوامر، وعن ذلك يقول:” لقد شعرت بالملل. عشت في بيئة برجوازية حذرة. كنت أشعر بالملل. لم أبصق على الطريقة التي عشت بها ولا على برجوازية والدي؛ لا، لقد كنت أشعر بالملل”.

قام جاك بتأليف الأغاني للحصول على المتعة التي لم يجدها في عمله المفروض عليه، بدأ الغناء في الملاهي، تحت اسم مستعار، حيث رفض والده السماح له باستخدام اسمه في الأنشطة التي لا يوافق عليها، لكن قوة كلماته والعنف المتجلي في تفسيراتها جعلا كل من حوله يرفض الاعتراف بموهبته الاستثنائية، حيث يقول في أحد أغانيه عام 1962، “البرجوازيون مثل الخنازير / كلما تقدموا في السن، أصبحوا أكثر غباء” وهو ما يوضح رفضه الواضح للبورجوازية التي نشأ فيها، وعنف الكلمات التي يتغنى بها.

غادر جاك بريل إلى باريس، تاركا وراءه زوجته وابنته، وفيها عانى من ظروف متقلبة قاسية، إذ اتخذ غرفة رثة بإحدى الفنادق كمسكن له، وحتى في الجانب الموسيقي فقد كان يراه الجمهور آنذاك ضعيفا ولا يؤدي بشكل جيد. لكن الأمور تغيرت بعد ذلك، ففي عام 1956، أثناء اشتداد حرب الاستقلال الجزائرية عن الاستعمار الفرنسي، كتب بريل أغنية “Quand on n’a que l’amour”، والتي صدرت في ألبومه الثاني وعبر فيها عن معارضته للحرب.

وفي عام 1959 أصدر ألبومه الرابع، والذي كان نتاج سنوات عديدة من الجهد والتفكير، حيث إن هذا الألبوم هو الذي ارتقى به إلى مصاف المطربين العظماء، إذ أصبح فهمه للواقع المحيط به أكثر عمقا، وكانت الأوصاف التي قدمها للشخصيات والمواقف أكثر تعقيدًا. لقد احتوى ألبوم 1959 على أكثر أغاني بريل شهرة اليوم، مثل “La Colombe” و”La valse à mille temps” و”Les Flamandes” و”Seul” وأغنية بريل الأكثر شهرة “Ne me Quitte pas”، والتي ترجمت إلى أكثر من 15 لغة وسمعت في جميع أنحاء العالم. وفي الولايات المتحدة وحدها، تم تسجيل أكثر من 270 نسخة من هذه الأغنية.

كانت فترة الستينيات وقتًا غزير الإنتاج بالنسبة لبريل. كتب أكثر من 80 أغنية، وفي بعض السنوات قدم أكثر من 300 حفلة موسيقية. غنى في العديد من البلدان، بما في ذلك كندا والولايات المتحدة وجيبوتي وفنلندا والاتحاد السوفياتي. كانت عروض بريل على المسرح مذهلة، إذ أنه كان يتصرف كممثل يستطيع تجسيد شخصيات أغانيه. فتجتمع تعابير وجهه ولغة جسده وكلماته الخاصة على خشبة المسرح، لخلق فن أكثر روعة وإذهالا.

بدأ جاك بريل يفكر في اعتزال الموسيقى بدءا من عام 1964، وفي عام 1966 قرر بريل التخلي عن الأغنية نهائيًا بعد شعوره بالتعب من الجولات التي لا نهاية لها. يقول جاك بريل: “لقد غادرت في اليوم الذي أدركت فيه أن لدي ذرة من الموهبة…. توقفت عن الغناء لأسباب صادقة؛ وليس لأسباب الإرهاق.” كان الغناء مهمًا بالنسبة له، لكن هذا لم يكن كل شيء. وجد أنه مهتم بالسينما والمسرح وكذلك الإبحار والطيران. كانت تلك المجالات المثيرة للاهتمام هي التي سيستكشفها لبقية حياته.

لما لا السينما كذلك؟

ورغم أنه لم يعد يقيم الحفلات الموسيقية، إلا أن جاك بريل أصدر ألبومه «Arrive»، الذي جاء بأحد أشهر أغانيه « Vesoul »، وبعد عام واحد من وداعه لعب بريل دور دون كيشوت في مسرحية “رجل لامانشا“، والتي قام هو نفسه بتعديلها إلى اللغة الفرنسية.

خطى جاك بريل خطواته الأولى في السينما في فيلم Les Risques du métier للمخرج أندريه كايات عام 1967، والذي قال عن جاك بريل:” وصول بريل إلى السينما هدية للسينما الفرنسية”. ومن عام 1969 إلى عام 1973، شارك في أفلام مثل ” مغامرة هي المغامرة” للمخرج الفرنسي كلود لولوش. كتب بريل أيضًا وأخرج أفلامًا خاصة به ( فرانز ، الغرب الأقصى ).

رحلة اللاعودة

بعد أن كان يعاني من سرطان الرئة، انطلق بريل في جولة حول العالم على متن مركبه الشراعي في عام 1975. فاختار أخيرا الاستقرار بجزيرة هيفا أوآ البعيدة كليا عن صخب المدينة، لكن صديقه المغني مورت موشان، لم يترك جاك يعيش آخر أيام حياته كما أراد، حينما دعاه لتصوير فيلمه “جاك بريل على قيد الحياة”، لكن ما إن انتهى التصوير حتى عاد جاك بريل بسرعة لمركبه الشراعي.

وفي عام 1977، قرر جاك بريل العودة لباريس لتسجيل ألبومه الأخير، ورغم أنه طلب من شركة التسجيلات الخاصة به عدم الترويج للألبوم، لكن الطلبات المسبقة على التسجيل وصلت إلى مليون دون أي إعلانات، ما يؤكد أ، بريل لم يغادر أذهان عشاقه رغم سنوات الغياب.

وفي عام 1978، تم نقل بريل، فجأة في أسوأ حالاته، إلى فرنسا وأدخل المستشفى لمدة ستة أسابيع في بعد اكتشاف ورم سرطاني. توفي في 9 أكتوبر بسبب انسداد رئوي، ودُفن في جزيرته هيفا أوا بالقرب من قبر الرسام غوغان.

رحل صاحب الصوت الخالد الذي عبر كل الحدود، وترك وراءه إرثا موسيقيا ثقيلا، ألهم موسيقيين كبار بعده، فمن بين ملايين المنتجات الموسيقية منذ ذلك الحين إلى الآن، لا تزال أغانيه تحتل مكانة مهمة عند كل عاشق للموسيقى، فبحساسيته المفرطة وعنف كلماته، استطاع إنشاء نقطة يلتقي فيها كل هؤلاء، لهذا فقد استحق جاك بريل لقب “شاعر اللازمنية” الذي وصفه به الكاتب فرديريك ماروتا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى