الحكاية اسمها مكان

تدني الوضع الاقتصادي في العهد المريني.. الاستنجاد باليهود الاسلاميين والتضييق على المسلمين..

إ.المجداوي بنصالح.

شهد العهد المريني خلال فترة آخر سلاطينه، تأرجحا في الشؤون الداخلية والخارجية للبلاد، مما انعكس سلبا على الوضع الاقتصادي، والذي كانت تبعياته وتداعياته سلبية بحدة على المجتمع المريني.. ونتيجة لهذه الأوضاع، اضطر السلطان المريني بعدما فك عقدة أوصيائه الوطاسيين، إلى فرض سياسة ضريبية صارمة، تطال جل مكونات المجتمع باختلاف أطيافهم ومعتقداتهم، والحال هنا يتكون من الشرفاء والعلماء والصلحاء الذين كانوا مستفيدين من الاعفاء الضريبي.. ويهمنا في هذا السياق طائفة الشرفاء خاصة منهم أولئك الذين كانوا يمتهنون التجارة في قيسارية فاس.

عرفت هذه المرحلة خصاصا ماليا مهولا، فضلا عن حاجتها الماسة إلى صد الأطراف التي تنازع الدولة في الحكم، والحديث هنا عن الوطاسيين..مما اضطر بالسلطان عبد الحق المريني إلى اتخاد قراره بفتح قيسارية فاس أمام كل من بإمكانه أن يعمرها ويخلق فيها رواجا، شريطة أداء الضرائب. وقد شمل هذا القرار حتى اليهود الاسلاميين، الذين تم إخراجهم منها سابقا جراء غشهم في المعاملات التجارية وتعاملهم بالربا..(إلخ من الروايات التي يصعب التحقق من مصداقيتها، والتي لا تستبعد فيها احتمالية الدعاية المغرضة او شبهة التحامل!).وبهذا القرار تمكن الحاكم المريني بشكل غير مباشر من تضييق الخناق على التجار المسلمين في  القيسارية، بحكم أنهم كانوا من المناصرين لمحمد الشيخ الوطاسي الثائر عليه. وبهذه الخطوة يتبين أن السلطان المريني كان يهدف من وراء عودة اليهود الاسلاميين إلى الاتجار في قيسارية فاس، تعجيز أمو الشؤون التجارية على التجار المسلمين.. وقد تمت هذه العملية بتواطؤ مع موظفين مخزنيين يهود عينهم السلطان في مناصب مهمة في الدولة.. بما يفسر ضمنيا أن آنتماء اليهود الإسلاميين إلى الدين الإسلامي سببه الأساسي هو الحفاظ على مصالحهم الاقتصادية، وهو ما يرسخ لشبهات الشك في إسلامهم.

غير أن هذا الدارس للتاريخ سيجد جليا أن هذا الانتماء الديني لليهود شفع لهم بشكل كبير لدى ولادة الأمر الجدد، حتى أنهم يعود لهم السبق في ابتداع ما عرف ب”الهدية” وقدموها للسلطان بمناسبة أحد الأعياد، واقترحوا ترسيخها تقليدا سنويا إذا منحهم السلطان الإذن بولوج القيسارية. وذاك ما كان.. فعقب عودتهم واستقرارهم بردهات قيسارية فاس، طالبوا السلطان بأن يتم تعميم المساهمة في أداء رسوم القيسارية جميع تجارها بما فيهم الشرفاء، إذا رغبوا في بقائهم داخلها ومزاولتهم لأنشطتهم التجارية في أروقتها.. وذاك ماكن.. فبعد نجاح التجار اليهود “الإسلاميين” في فرض بدعة “الهدية” تمكنوا من إرغام ناظر الأحباس بتعاون مع الموظفين المخزنيين اليهود على بيعهم حق “الجلوس بالمحلات” في جميع ربوع مدينة فاس، معنى هذا هو امتلاك حق التصرف في الدكاكين التابعة للأحباس دون امتلاك أصولها مقابل أداء سومة كرائها.. وكان لهم ذلك. وبهذا احتكروا عمليا أغلب ما في القيسارية من دكاكين، بل واشتروا الجلوس في سائر الدكاكين بفاس في أيام معدودات لم تبلغ متم الشهر، وبالتالي تحكموا في التجارة وعمارة الأسواق كيفما شاءوا إلى حين انقضاء العهد المريني.

تضايق المسلمين من اليهود الإسلاميين.. جوار المنافسة والكراهية:

وهكذا احتدت واشتدت المنافسة التجارية بين مكونات قيسارية فاس، إذ أدى تمكن اليهود الاسلاميين من القيسارية إلى خلق اختلال في موازين المنافسة التجارية بين مختلف أطراف السوق لصالح اليهود، خاصة أنهم تمكنوا من الاستفادة من شبكة تجارية بالغة الأهمية تعود لتجار مغاربة وأندلسيين يهود، كان لهم باع كبير في التجارة البعيدة المدى، فانتشروا في ربوع البلاد إلى تخوم البحر المتوسط، ثم اكتسحوا بمعاملاتهم هذه كل قطاعات التجارة ومناحي الحرف.

لعل القارئ لهذا السياق التاريخي سيفهم من خلال ما سلف ذكره، أن هذه العملية درت على خزينة الدولة المرينية أموالا وأرباحا طائلة، جعلتها تتنفس الصعداء من ضائقتها المالية الحادة، غير أنها  أسفرت في المقابل تضرر المسلمين الشرفاء الذين لم يألفوا دفع الضريبة، بل وعجز نفرمنهم عن أداء الضرائب، وهذا ما زاد من حقد أهل فاس عليهم، وبل ومع مرور الوقت تحولت تلك المنافسة الشرسة إلى كراهية مقيتة.. فضلا عن المنافسة الاقتصادية والأوضاع المالية لكل من الطرفين، كان هناك تضايق واضح جدا من الشرفاء المسلمين لغريمهم المكون اليهودي الإسلامي، وهذا التضايق وفقا للروايات لم يكن نابعا فقط من منافستهم الاقتصادية، بل تعداه إلى المستويات الاجتماعية. بحسب شهادة لابن السكاك أحد الموالين لطائفة الشرفاء و صاحب كتاب “نصح ملوك الإسلام”، فأثرياء اليهود الإسلاميين وفق شهادته كانوا يحظون باحترام أهل فاس، نظرا لحفاظ اليهود على طقوسهم وتقاليدهم وحتى لهجتهم. وبالتالي فإن شعور التجار على هذا المستوى له ما يبرره..

لا جدال في أن هذه الأوضاع أسفرت عن إقامة ثورة في وجه السلطان عبد الحق المريني، مما أدى إلى اغتياله في ما عرف بثورة الفاسيين، وبالتالي سقوط الدولة المرينية سنة (٨٦٩ه /١٤٦٥م). وتولى بعده الشريف محمد بن علي بن عمران الجوطي زمام حكم فاس لست سنوات(٨٦٩-٨٧٥ه /١٤٧١-١٤٦٥م)، عمل فيها على إخراج اليهود الإسلاميين من القيسارية وانتزاع دكاكين الأحباس منهم كما كان يأمل المسلمين الشرفاء، إلا أنه هو الآخر تم إسقاطه وعادوا الوطاسيين لتولي زمام الحكم، مما نتج عنه إحياء الجدل في قضية اليهود الإسلاميين.. وعلى إثر بروز هذه القضية الجدلية من جديد جراء محاولة أحد التجار ذي الأصول اليهودية،بشغل دكان في القبة الكبرى لقيسارية فاس، ومنعه من طرف التجار الفاسيون المسلمون بذريعة قدسية المكان “الحرم” الذي بناه مولاي ادريس، وبالتالي لا يجوز أن تطأه قدم تاجر من أصول يهودية.. تقدم هؤلاء بعريضة للسلطان أحمد الوطاسي يطالبونه فيها بمنع اليهود الإسلاميين من دخول القيسارية، باعتبارها مكانا يمارس فيه التجارة أشخاص متدينون من ذوي الفضل. غير أن قرار السلطان الوطاسي خيب آمالهم، عقب استفتاء أقامه مع فقهاء فاس ومكناس ومدن أخرى، نتج عنه سبعة عشر جوابا وفتوى تفيد ببطلان جميع ما ذهب إليه تجار فاس المسلمين، بل وتتفق على عدم التمييز الشرعي بين المسلمين بصرف النظر عن جذورهم و أصولهم وطبيعتهم، حتى أن فقيها منهم يدعى أبا علي حرزوز المكناسي شهد أن المغاربة المسلمين من أصول يهودية مشهود لهم بالتقوى وصدق الإيمان والثقة.

أمام هذا الاستفتاء وهذه الشهادات لم يكن للحاكم الوطاسي بد من إباحته للإسلاميين دخول قيسارية فاس وإعمارها وجميع الأسواق بدون قيود أو شروط، فضلا عن رؤيته الاستشرافية لحاجة الوطاسيين إلى توفر سبولة مالية مهمة كافية لتجهيز الحملات العسكرية وتعزيز الدفاع في السواحل المغربية. وبذلك تمكن اليهود الإسلاميين من إحكام سيطرتهم على قيسارية المدينةوالأسواق والمعاملات التجارية مرة أخرى.

يتبع…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى