روبورتاج

تادرازت: حرفة أندلسية تعصف بها رياح الاندثار

لوسات أنفو؛ أحمد جليل

بحكم القرب من المغرب انتقلت خیوط حرفة تادرازت من الأندلس في بادئ الامر إلى مدن الشمال لتستوطن في مدینة وزان ثم فاس مرورا بسلا و أزمور لیستقر بھا الحال فيمدینة مراكش محطات وجدت فیھا ھذه الحرفة الارضیة الخصبة التي سھلت علیھا الانتشار والازدھار في عقود خلت.

المثیر للاستغراب ونحن نقتفي أثر ھذه الحرفة في المدینة الحمراء اكتشفنا وكأننا نبحث عن جوھرة نادرة أو محظورة ، فبعد أن استعصى علینا الأمر في الاسواق العتیقة قصدنا أحد المعاقل القدیمة والرئیسیة لتادرازت “الفنادق” (تجمع كبیر للصناع والحرفیین فيدور ببناء تقلیدي) التي غیرت من شكلھا بفعل مرور الزمن لكنھا لم تستطع بعث الروح التيكانت بداخلھا والتي اختارت ان تتقمص دور دور العرض مستغلة حلتھا الجدیدة بدل دور المعامل و المناطق الصناعیة المصغرة التي أنشئت من أجله، یقول : أستاذ التاریخ محمد المغراوي : إن ھذه الفنادق قد تم إفراغھا من محتواھا الأصلي المتمثل في احتضان الحرفیین والصناع لیحل محلھم تجار وعارضون في سطو استسلم له صغار الحرفیین لضیق ذات الید ولھیمنة وجشع “مول الشكارة”.

الأیام الحافلة بالأمجاد.

أثناء جولاتنا بالقرب من أحد الفنادق التي كانت في طور الترمیم “بالرحبة القدیمة” إلتقینا صدفة بصید ثمین سي محمد ، دراز ممتھن لھذه الحرفة منذ أربعینیات القرن الماضيلم یكن لیتحدث إلینا إلا بعد مرور وقت طویل یقول : “سیر أولدي خلي ھذاك الجمل راكد”، كلمات اختصرت امتعاض وحسرة ھذا الكھل على واقع حرفة میزت مسار حیاته في فترة الأربعینیات والخمسینیات والستینیات وحتى بدایة السبعینیات یقول سي محمد “كان لیھا الشأن والمرشان” واصفا ھذه الحرفة. حیث كان للدراز وضع اعتباري في المجتمع المغربي بحكم التعلق والانتماء بثقافة الجلباب والسلھام والبطانیة وغیرھا من المنتوجات التي تخرج منأنامل الدرازین مما كان یضمن صیرورة و بقاء ھذه الحرفة لعقود .

ھذا ھو سي محمد كلام قلیل بحمولة أكبر یقول “الصنعة إلا ماغناتك تعیشك” في إشارة الى أن ھذه الحرفة كان ممتھنوھا لا یعرفون طریق العوز أو الفقر في تلك الفترة، فبالاضافة إلى تغطیة المصاریف الیومیة الأساسیة فإنھا كانت تغطي حتى بعض الكمالیات “كالبلیة” “والنزاھة” التي كنا نتفق بالإجماع على مداومتھا كل جمعة بحدائق كأكدال والعراصي المحیطة بالأسوار للترویح على أنفسنا والعودة بدماء جدیدة مما كان لھا لأثر الإیجابي على الإبداع والتفنن في حیاكة “الخرقة” ( المنتوج الرئیسي لتادرازت عبارةعن ثوب صوفي ).

 

ریاح عصفت بالحرفة
یقول سي محمد الذي شاءت الأقدار أن یتقاعد من تادرازت رغما عن أنفه بأن الظروف تكالبت على ھذه الحرفة الشریفة لتنزل بھا إلى الحضیض و یعزي السبب الرئیسي إلى الجشع والغش الذي استحوذ على معظم الحرفیین والدرازین فبعدما كانت الطلبیات والعروض تتقاطر من كل حذب وصوب یذكر سي محمد أنھ في أواخر السبعینیات كان التجار ومن ضمنھم “موشي” الیھودي الذي كان لا یتوقف عن أرسال الطلبیات طوال السنةإلى مدینة الدار البیضاء “لو كان المعقول والجد” لما ذھب الى حال سبیله شأنه شأن العدید من التجار.

یقول سي محمد بأن معلمهم كان یشتري صوفا مغشوشا یدسه في الخرقة التي ما إن یتمتع ریضھا للماء حتى تختلط الألوان ببعضھا لتصبح “كالجفاف” (ثوب یستعمل للتنظیف فيالبیوت)، زد على ذلك تنامي اوكار الدرازة العشوائیة و تطفل أشباه الصناع على صنعة لمیكن الولوج إلیھا سابقا بالأمر السھل ناھیك عن المنافسة التي كانت تشكلھا المنتوجات الأجنبیة خصوصا التركیة والایرانیة والصینیة التي اقتحمت أسواقنا مستغلة معاھدات التبادل الحر دون الأخذ بعین الاعتبار عدم التكافؤ الحاصل بین ھذه المنتوجات ومنتوجاتنا المحلیة التقلیدیة سواء في التكلفة أو الجودة ملقیا باللوم على سیاسة الدولة في تبني الأبواب المفتوحةمن أجل تنمیق وتلمیع صورتھا ضاربة بعرض الحائط مستقبل العدید من الحرفیین وأسرھمالتي تعیش على ھذه الحرفة.

تنصیب بنعرفة
بنعرفة كما یحلو للبعض مناداته أو السي محمد لم یكن لیعرف القراءة أو الكتابة شأنھ في ذلك شأن باقي أقرانه إلا أن طریقة تفكیره وكلامه توحي بأن الرجل نھل من مدرسة الحیاة وتقلبات الزمان وراكم ما یكفي من التجربة فرؤیته الثاقبة جعلت منه محللا وخبیرا عظیما فيالمیدان وحتى في باقي مناحي الحیاة .

یؤكد سي بنعرفة بأن غیاب دور الدولة في تحصین وتأطیر تادرازت جعلھا تتخبط في مشاكلھا حتى وصلنا الى ما آلت إلیه الأوضاع الیوم یستحضر الرجل كیف أخذ بیده “سي بلعباس” رحمه ﷲ الدراز الذي أفنى معه بنعرفة زھرة عمره، وتوجه به الى أمین الحرفة لیدلي له بشھادة التمكن لأخذ التزكیة طقوس وإجراءات كانت واجبة آنذاك لاستحقاق لقب”صانع” ومعه لقب “بن عرفة” الذي ناله السي محمد عن جدارة واستحقاق رغم صغر سنھسنة 1953 تزامنا مع تاریخ تنصیب “بن عرفة” خلفا للملك الراحل محمد الخامس الذي كانفي منفاه.

تدرازت حرفة لا مجال فیھا للین أو “الخاطر” یقول بن عرفة وكأنك في ثكنة عسكریة “الفالطة بالكبوط” فارتكاب خطأ بسیط أمام أعین الأمین یمكنه أن یكلف الصانع سنوات اخرى “تحت الصباط” أي سنوات أخرى من الممارسة لكن تمرد بن عرفة على وضعه ورغبته الجامحة في امتلاك صفة صانع جعلھ یصعد الى “المرمة” آلة الدرازة ، بكل عنفوان وفخر وثقة لوضع بصمته وتغییر واقع التسلط و”الحكرة” الذي كان یمیز “المعلم والمتعلم” في كل الحرف ولیس فقط في تدرازت ، توقیت كانت له مزیته ودلالاته في تاریخ ابن عرفة الدراز.

وتستمر الحیاة
لم یقف بن عرفة مكتوف الایدي بعدما أحس أن “تادرازت” آخذة في الانحطاط وھو المتزوج وصاحب الخمسة ابناء والمعیل الأوحد لوالدته وأخته الشيء الذي جعله یقبل بأول فرصة للإستوضاف في البلدیة أواخر السبعینیات.

یقول بن عرفة الذي لم یكن راضیا بھذه المكانة والصفة أنه استحضر العقل والقلب معا لیقبل بھذا الوضع فبعد الإنتھاء من عمله الجدیدة لم یكن لیعرف طریقا آخر غیر طریق “السوق” و”الفندق” “فالمرمة والنزق والناعورة والصوف والتسدیة وغیرھا” لم تكن لتفارق مخیلته أبدا. “نكار الخیر ولد الحرام” عبارة رددھا بن عرفة وكأنه المذنب أو العاق لحرفة كانت ولا تزال جزءا كبیرا من حیاته لیستمر على ھذا الحال من 1977 تاریخ توظیفه الى سنة 2001 تاریخ اعتزاله القسري، فتقدمه في السن ورحیل غالبیة أقناعه من الصناعيين الدرازین وتناقص الطلب على “الخرقة” المصنوعة بإتقان وغیاب المستھلك “الذواق”جعلت سي بن عرفة ینسحب في صمته مخفیا ألمه وبعده عن عشق لازمه لعقود تاركا للقدر المحتوم سلطة التصرف في علاقة نسجتھا الظروف والأزمنة والأمكنة بین طفل یافع رحل والده في سن الرضاعة لتنتشله تادرازت من الیتم والفاقة والضیاع بفضل تعقل وحكمة رجالاتھا و”معلمیھا” ومن عیون خدام المستعمر الفرنسي التي كانت ترصد أبناء الوطن الیافعین بغیة استقطابھم إلى مناجمھا وبناء قناطرھا…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى