بورتريه

بيير بورديو: فاضح أنساق الهيمنة الخفية

لوسات أنفو: حسن أوزيادي

 اشتهر بنظرياته حول رأس المال الثقافي والرمزي، وإعادة الإنتاج الاجتماعي، والتمييز. عرف بشخصيته العلمية الغنية جدًا. و تمتع بذكاء حاد وقدرة على التحليل العميق للظواهر الاجتماعية. إنه بيير بورديو عالم اجتماع الفرنسي، الذي طوَّر نظريات اجتماعية غنية بالمفاهيم.

وظف علم الاجتماع وجعله أداة علمية بامتياز للفهم والتحليل لتحسين وتجويد أداء المجتمع اتجاه مواطنيه.

فضوله الشديد للعالم والرغبة في فهمه دفعه إلى  إجراء أبحاث ميدانية واسعة النطاق وأنتج أعمالا أكاديمية ذات قيمة كبيرة. استقلاله الفكري والتزامه بالمبادئ والإيمان بها. جعله لا يتردد في توجيه سهام نقذه وآليات تحليله لنقذ وتفكيك بنية الظلم الاجتماعي والهيمنة الثقافية. إحساسه بثقل الهم الإنساني والمجتمعي دفعه دوما للانكباب على تحليل وفهم أسباب ومسببات هذا الشقاء والعنف الممارس على الإنسان والمجتمع، كرس بحثه الدؤوب لتفكيك بنية و آليات الهيمنة والسيطرة.

تفمصه لدوره كفاعل اجتماعي والجمع بين الفكر والممارسة قوى الشعور لديه بالمسؤولية تجاه الآخرين، فوظف علم الاجتماع وجعله أداة علمية بامتياز للفهم والتحليل لتحسين وتجويد أداء المجتمع اتجاه مواطنيه. تكيف معرفته وعلمه مع المتغيرات الاجتماعية والثقافية التي حدثت في عصره ليساهم في تطوير نظريات اجتماعية ذات صلة بالواقع الاجتماعي المتغير.

تأثر بيير بورديو بنظرية ماركس عن الصراع الطبقي، ورأى أن التفاوت الاجتماعي ينتج عن الصراع بين الطبقات الاجتماعية المختلفة. كما تركت ميلاني كلاين تأثيرها عليه كذلك بنظريتها عن الأنا والذات، و أن الهوية الاجتماعية تتشكل من خلال التفاعل بين الأنا والذات والبيئة الاجتماعية.  وجان بول سارتر عن الحرية والمسؤولية، و أن الأفراد مسؤولون عن أفعالهم واختياراتهم. أعلام فكرية أثرت بشكل أو بآخر على رؤية بورديو للمجتمع فانكب على تحليله وطبع إنتاجه النظري بالغزارة اللافتة، فأبدع  و طور نظريات اجتماعية معقدة وغنية بالمفاهيم ساهمت في فهمنا للكيفية التي تؤثر بها العوامل الاجتماعية والثقافية على حياة الأفراد والمجموعات.

ركز على دور الثقافة والمعرفة في إنتاج الواقع الاجتماعي، و ليستا مجرد وسائل للتعبير عن الذات، بل هي مجموعة أدوات و وسائل للسيطرة والهيمنة.

بيير بورديو وعلم الاجتماع النقدي

اتسم فكر بيير بورديو ومنهجه التحليلي بالواقعية النقدية حيث رفض للنظريات الاجتماعية المثالية التي ترى أن المجتمع يتشكل من خلال الأفكار والقيم، وأكد على أن المجتمع يتشكل من خلال المصالح المادية والعلاقات الاجتماعية، وأن الواقع الاجتماعي يتميز بالتفاوت الاجتماعي والثقافي، وأن التفاوت ناتج بالضرورة عن صراع محتدَم بين الطبقات الاجتماعية المختلفة. فركز على دور الثقافة والمعرفة في إنتاج الواقع الاجتماعي، و ليستا مجرد وسائل للتعبير عن الذات، بل هي مجموعة أدوات و وسائل للسيطرة والهيمنة. فهذه الوضعية الرمزية لدى بيير بورديو  شكلت أحد المفاهيم الأساسية  في مفهوم العنف الرمزي الذي هو توظيف القوة غير المادية مثل اللغة والخطاب لفرض الهيمنة والسيطرة. تتأسس النظرية النقدية عند بيير بورديو على نقد الظلم الاجتماعي والهيمنة الثقافية باعتبار التفاوت الاجتماعي والثقافي ينتج عن الهيمنة الثقافية للطبقات المهيمنة التي تسعى دوما إلى إعادة إنتاج نفسها عبر المؤسسات الاجتماعية مثل المدرسة ووسائل الإعلام. في هدا الإطار المعرفي والفكري المؤسس على الاجتهاد والإبداع ، في علاقته الجدلية بالواقع ومحاولة الفهم وتفكيك بنى الهيمنة والسيطرة داخل بينية الأنظمة النيوليبيرالية ،طور بورديو جهازا مفاهيميا دقيقا. فمهوم رأس المال عنده اتخذ أبعادا ومستويات مختلفة فقسمه إلى ثلاثة أنواع رئيسية ، رأس المال الاقتصادي ، ورأس المال الثقافي ورأس المال الاجتماعي .

درس الفلسفة في مدرسة المعلمين بباريس ثم أُرسل لللجزائر في إطار الخدمة العسكرية ودرس في كلية الاداب حيث اهتم بالدراسات الانثروبولوجية والاجتماعية

النشأة والحياة وأهم أعمال بيير بورديو

ولد بييربورديو سنة 1930 وتوفي سنة 2002. يعتبر من أكبر مفكري العصر الحديث ، درس الفلسفة في مدرسة المعلمين بباريس ثم أُرسل لللجزائر في إطار الخدمة العسكرية ودرس في كلية الاداب حيث اهتم بالدراسات الانثروبولوجية والاجتماعية.عند عودته الى فرنسا كتب “سوسيولوجيا الجزائر. استمر في شعبة الفلسفة في السوربون حتى أصبح مديرا لمعهد علم الاجتماع الالاوربي .انتخب  عام 1982 لكرسي علم الاجتماع  في ” الكوليج دو فرانس” . وهو على رأس المعهد قام بتطوير وتجديد كبير في المصطلحات، الشيء الذي أحدث ثورة في طريقة تحليل الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية.

يأخذ بيير بورديو موقفه من الصراع العام بمقاربته للنظام التعليمي كمجال مرتبط بالنظام الاجتماعي ككل.

تنوعت اهتمامات بيير بورديو من العلم والسياسة والفن والتربية إلى الصحافة. انخرط في الصراع الاجتماعي والسياسي بترجمته للأفكار والمواقف إلى ممارسة نضالية أكسبته صيتا عالميا. عُرف بير بورديو وسط المحللين والمهتمين والباحثين بغزارة إنتاجه المعرفي. كانت أول إصداراتهسوسيولوجيا الجزائر” 1958،و”إعادة الإنتاج أصول نظرية في نظام التعليم “1970 والذي أحدث رجة فكرية مهمة. صنف المدرسة كفضاء لإنتاج الوهم، فوهم اللاتبعية والحياد المدرسيين إنما هما مبدأين  فضفاضين. فوظيفة المدرسة هي بالأساس  مكينة لإعادة إنتاج النظام القائم.
يأخذ بيير بورديو موقفه من الصراع العام بمقاربته للنظام التعليمي كمجال مرتبط بالنظام الاجتماعي ككل. و هكذا يمكننا اعتبار كتاب ” إعادةالإنتاج “ كمحاولة لإقامة و تأسيس نظرية للنظام التعليمي. إن بورديو ليس برجل تربية، ولكن يتخذ الميدان التربوي كموضوع لدراسته، واهتمامه يتمحور أساسا على دراسة العلاقات المتبادلة بين العمليات التربوية الجارية في المجتمع و بين النظام التعليمي المرتبط بتشكيلة اجتماعية معينة، ضمن بحوث ميدانية و تطبيقية.

توالت  الإنتاجات  الغزيرة لبيير بورديو: “جزائر الستينات” 1977،التمييزالتميز” النقد الاجتماعي لِحُكم الذوق” 1979،” درس في الدرس ” 1982، مسائل في علم   الاجتماع”  1984، الإنسان الأكاديمي“1984 ،الأنطولوجيا السياسية عند مارتن هيدغر 1988،إجابات من أجل انسيات انعكاسية” 1992، ” قواعد الفن تكوُّن وبنية الْحقل الْأدبي ” 1992. “بؤس العالم” مع آخرين 1993.”تبادلحر مع هانز هانك” 1994.”علل عملية. في نظرية العمل “1994.

في التلفزة “1996.” الاستعمالات الاجتماعية للعلم من أجل اجتماعيات عيادية للحقل “1997. “تأملات باسكالية1997.”السيطرة الذكورية”  1998.”البنيات الاجتماعية للاقتصاد”  2000.

علم العلم والانعكاسية” 2001.”تدخلات العلم الاجتماعي والعمل السياسي 1961-2001″، 2002.”حفلة رقص العزاب: أزمة المجتمع القروي ببيارن” 2002.

الجهاز المفاهيمي لبيير بورديو

في مقدمة المفاهيم الاساسية عند بورديون و التي تؤطر جميع بحوثه وتحليلاته نجد مفهوم الحقل ،الهابيتوس Habitus ، راس المال الرمزي ، راس المال الثقافي ،  راس المال الاجتماعي ، التمييز ، العنف الرمزي ، الانعكاسية،  اعادة الانتاج  ،الاهلية السياسية ، التجريد السياسي ، التشيؤ السياسي ،وسنكتفي بالتطرق لبعض المفاهيم الاساسية عند بورديو

بورديو و جاك ديريدا

مفهوم الحقل:

يطلق بورديو مصطلح المجال على كل حالة صراع بين فاعلين غير متساويين فى القوة على رأس مال مهما كان نوعه.
انه “نسق بنائي من القوى الموضوعية.ويتكون الحقل من مجموعة علاقات موضوعية وتاريخية بين أوضاع تقوم على بعض أشكال السلطة أو الرأسمال الرمزي، وهذا ما يجعله فضاءً للصراع والتدافع والهيمنة، إذ إن ما يصنع تاريخ الحقل هو الصراع بين المهَيمنين والمهَيمَن عليهم. اعتماد هذا المفهوم هو تقنية اجرائية دقيقة واساسية للتفكير بصيغة العلاقات اي التفكير على نحو علائقي وجدلي بدل التفكير بالطريقة البنيوية الجاهزة والضيقة.

مفهوم الرأسمال

طوال عقدين من الزمن ساد التحليل الماركسي الذي فسر الصراع الطبقي من منظور الرأسمال الاقتصادي، الا ان بيير بورديو اعتبر ان هذا التفسير غير تام ، فالصراع ليس بالضرورة اقتصادي ؛ بل قد يتعدى ذلك الى صراع ثقافي، فهو يميز بين أنواع من رأس المال ورتبها كالتالي: رأسمال اقتصادي ورأسمال ثقافي باعتبارهما عنصرين أساسين في دينامية المجتمعات المعاصرة  وادوات للتنافس الاجتماعي ، يضاف إليهما رأسمال اجتماعي ورأسمال لغوي ورأسمال رمزي وتخضع كل هذه المجالات للتنافس والصراع والسيطرة لمن يملك اغلبها  خاصة الطبقات الحاكمة والمثقفة لتحافظ على امتيازاتها جيل بعد جيل.

يطمح الأفراد والجماعات إلى تبني رموز وممارسات تُميزهم عن الآخرين وترسخ تفوقهم الاجتماعي.

مفهوم التميز:

يعتبر مفهوم التميزعند بيير بورديو أساسا في تحليله للطبقات الاجتماعية في المجتمعات المعاصرة. فهو يكشف عن كيفية استخدام الأفراد والجماعات رأس المال الثقافي والرمزي لإبراز ذواتهم وتمييز أنفسهم اجتماعيًا. يرى بورديو أن المجتمع يتكون من طبقات اجتماعية تتميز بدرجات متفاوتة من رأس المال الاقتصادي (المال والملكية) والثقافي (المعرفة والمهارات) والاجتماعي (الشبكات والعلاقات). يستخدم الأفراد والجماعات هذه الموارد الرمزية لبناء أنماط استهلاك ثقافي وتمييز ذواتهم عن الآخرين. لا يقتصر التميز على الاستهلاك فقط، بل يشمل أيضًا الممارسات والسلوكيات واللغة وأنماط التعبير. يطمح الأفراد والجماعات إلى تبني رموز وممارسات تُميزهم عن الآخرين وترسخ تفوقهم الاجتماعي. بهذأ المفهوم كشف بيير بورديو عن أشكال جديدة من التفاوت لا ترتبط فقط بالمال، بل بالثقافة والمعرفة. وأظهر دور رأس المال الثقافي والرمزي في إنتاج الهوية الاجتماعية والتمييز الاجتماعي. فقدم بذلك إطارًا نقديًا لتحليل الثقافة والاستهلاك والأنماط السائدة في المجتمعات المعاصرة.

مفهوم الهابيتوس:

يعتبر مفهوم الهابيتوس (Habitus) أحد أهم المفاهيم في فكر بيير بورديو. إنه يمثل نسقًا من التكوينات والميول والتصرفات المكتسبة من خلال التنشئة الاجتماعية والخبرة الحياتية، ويشكل نظامًا للإدراك والفعل يحكم سلوك الأفراد في المواقف المختلفة. الهابيتوس ليس صفة فطرية أو وراثية، بل يتشكل من خلال الخبرات التي يتعرض لها الفرد طوال حياته، بما في ذلك عائلته وطبقته الاجتماعية ونظامه التعليمي وظروف معيشته. تؤثر هذه الخبرات على تكوين قيمه وتصوراته ومهاراته وسلوكياته، وتشكل نسقًا متماسكًا من التصرفات المتوقعة في ظروف معينة. لا يقتصر الهابيتوس على السلوك الظاهر، بل يشمل أيضًا طريقة إدراك الفرد للعالم وتفسير مواقفه فيه. وهو يوجه الفرد نحو اتخاذ قرارات معينة في المواقف المختلفة، ويميل إلى إنتاج ممارسات وتصرفات تتوافق مع نظام قيمه وتصوراته المكتسبة.الهابيتوس ليس مصيرًا محتمًا لا يمكن تغييره. على الرغم من أنه يوجه تصرفاتنا، فهناك دائمًا مجال للتفكير العقلاني والاختيار الواعي. يمكن للخبرات الجديدة والمعرفة الجديدة والتفاعل مع أشخاص من خلفيات مختلفة تعديل وتطوير الهابيتوس. يلعب الهابيتوس دورًا مهمًا في تكريس التفاوت الاجتماعي عبر الأجيال. إذ ينقل الآباء عاداتهم وقيمهم وأساليب تربيتهم إلى أبنائهم، وبالتالي ينقلون لهم أيضًا هابيتوس مشابهًا يميل إلى إعادة إنتاج نفس الموقع الاجتماعي. يوفر مفهوم الهابيتوس إطارا قويًا لتحليل السلوكيات والممارسات الاجتماعية، ويساعد في فهم كيف تؤثر الخلفية الاجتماعية على تصرفات الأفراد، وكيف تساهم في إدامة أو تغيير أنماط التفاوت

مفهوم العنف الرمزي:

مفهوم العنف الرمزي عند بيير بورديو له أهمية كبيرة في تحليل أشكال القوة الخفية والعلاقات غير المتكافئة في المجتمعات المعاصرة و يمكن تفسيره كعنف غير مباشر، فهو يختلف عن العنف الجسدي في كونه غير مباشر وغير مرئي بشكل فوري. إنه يحدث من خلال وسائل وطرق رمزية مثل اللغة والثقافة والقوانين والعادات والمؤسسات الاجتماعية. يستخدم العنف الرمزي لإبقاء مجموعات معينة في وضعية تابعة. يفرض أولئك الذين يتمتعون بموارد رمزية أكبر (مثل رأس المال الثقافي والمادي) سطوتهم ومعاييرهم على المجموعات الأقل امتلاكًا للموارد، دون اللجوء إلى القوة البدنية المباشرة. يعمل العنف الرمزي على ترسيخ شرعية النظام الاجتماعي القائم. من خلال تثبيت وتطبيع المعايير والقيم التي تصب في صالح الفئات المسيطرة، يقلل العنف الرمزي من احتمالية التحدي أو التمرد ضد ذلك النظام. يعتبر أكثر خطورة لأنه غالبًا ما يكون مقبولاً ومتأصلًا في ثقافة المجتمع لدرجة أن ضحاياه لا يدركون أنهم يتعرضون لهيمنة أو استغلال باستخدام لغة معقدة وغير مفهومة في المجال العام أو التعليم لإقصاء فئات اجتماعية معينة عبرتكريس صورة نمطية سلبية عن مجموعات معينة في وسائل الإعلام، أو فرض قوانين تمييزية ضد فئات محددة بناءً على العرق أو الجنس أو الدين.كشف مفهوم العنف الرمزي عن أشكال خفية من القوة والهيمنة في المجتمعات المعاصرة. وسلط الضوء على دور الموارد الرمزية في تكريس التفاوت الاجتماعي. بهذا المفهوم قدم بيير بورديو أدوات نقدية لتحليل الخطابات والممارسات الاجتماعية التي تعزز التمييز والاستغلال.

مفهوم إعادة الانتاج:

يعتبر مفهوم إعادة الإنتاج الاجتماعي من أهم المفاهيم النقدية في تحليل التفاوت الاجتماعي والثقافي في المجتمعات المعاصرة. فهو يقدم إطارًا لفهم كيف تعمل المؤسسات الاجتماعية، وخاصة النظام التعليمي في إعادة إنتاج الهياكل الهرمية للمجتمع عبر الأجيال. يرى بورديو أن المجتمعات تتميز بتفاوت اجتماعي ورمزي عميق، تتوزع فيه الموارد الاقتصادية والرمزية (رأس المال الثقافي والمادي والاجتماعي) بشكل غير متكافئ بين مختلف الطبقات الاجتماعية. وترمي آليات إعادة الإنتاج الاجتماعي إلى الحفاظ على هذا التفاوت عبرالتنشئة الاجتماعية ونقل الموارد الرمزية من جيل إلى آخر عبر محركات أساسية، كالمدرسة التي تلعب دورًا محوريًا في إعادة الإنتاج الاجتماعي من خلال تكريس أشكال محددة من المعرفة والثقافة التي تتوافق مع مصالح الطبقات المهيمنة. وتصنف المعرفة “الرفيعة”، مثل اللغة الأدبية أو المعرفة الأكاديمية، على أنها ذات قيمة أكبر، بينما يتم تهميش أشكال المعرفة الأخرى المرتبطة بالطبقات الدنيا. وهذا يؤدي إلى حرمان الأطفال من الطبقات الأقل حظًا من رأس المال الثقافي اللازم للارتقاء الاجتماعي. المحرك الثاني الأسرة التي يتم من خلالها نقل رأس المال الثقافي والمادي والاجتماعي إلى الأبناء. فعلى سبيل المثال، يمكن للعائلات ذات المستوى التعليمي والاجتماعي المرتفع توفير لأبنائهم تعليمًا أفضل وشبكات اجتماعية أفضل، مما يزيد من فرصهم في الحياة. المحرك الثالث وهوالهابيتوس الذي يطور الأفراد عبر التنشئة الاجتماعية وهو ذاك النظام من التصورات والقيم والممارسات والسلوكيات التي توجه تصرفاتهم في مختلف المواقف. يختلف الهابيتوس بشكل كبير بين أفراد الطبقات المختلفة، ويساهم في إعادة إنتاج التفاوت الاجتماعي من خلال توجيه أفراد الطبقات الدنيا نحو وظائف ومسارات أقل حظًا. تمكن بيير بورديو من كشف اللامساواة الخفية التي تعمل من خلال المؤسسات الاجتماعية مثل المدرسة.

مفهوم الانعكاسية:

يعتبر مفهوم الانعكاسية عند بيير بورديو نقطة محورية في منهجه البحثي وتوجهه المعرفي. فهو يدعو الباحثين الاجتماعيين إلى نقد الذات والتحليل الذاتي المستمر لافتراضاتهم ومواقفهم الاجتماعية التي قد تؤثر على تفسيراتهم وتحليلاتهم للمجتمع. لا يضع بورديو الباحث الاجتماعي في موقع الراحة  والحياد ليراقب ويفسر الواقع الاجتماعي، بل يدعوه إلى فحص مواقفه وتصوراته وقيمه الخاصة التي تشكلت بفعل خلفيته الاجتماعية وخبرته الحياتية. عليه أن يحلل انحيازاته المحتملة ومصالحه الخفية التي قد تصبغ رؤيته للمجتمع وتؤثر على استنتاجاته البحثية. الانعكاسية عند بورديو تتضمن أيضًا نقدا للمعايير والقيم السائدة في المجال الأكاديمي والمجتمع بشكل عام. حيث يدعو الباحثين إلى تفكيك وتجاوز المفهومات والتصورات المتروكة دون سؤال وتحدي، والبحث عن البدائل والمنظورات المختلفة التي تغفلها الأطر النظرية التقليدية. ويتطلب مفهوم الانعكاسية انفتاح الباحث على وجهات نظر الآخرين والمشاركة في حوار نقدي وتناظري مع زملائه في المجال. عليه أن يعرض أبحاثه للنقاش والمراجعة ويتقبل الانتقادات، وأن يستفيد من التبادل الفكري لتطوير تحليلاته وتعميق فهمه للمجتمع. فهو يعتبرها أداة للارتقاء بالبحث العلمي وليست عبئًا يثقل البحث العلمي، بل هي أداة قوية لتحسين دقة ومصداقية التحليلات الاجتماعية. من خلال فحص الذات ونقد الممارسات البحثية السائدة، تمكن الباحثين من تجنب الوقوع في الفخاخ الأيديولوجية والتحيزات الذاتية، وتقديم رؤية أكثر موضوعية وأعمق للواقع الاجتماعي.

“أعاد بورديو صياغة مفاهيم مثل الثقافة والطبقة بطريقة لم يسبق لها مثيل، مما أنار عالماً كاملاً من العلاقات الاجتماعية الخفية”

شهادات مفكرين في حق بيير بورديو

إن الزخم الفكري واالنظري والمعرفي الذي خلفه بيير بورديو من خلال تطوير المنهجية البحثية في علم الاجتماع ترك أثرا كبيرا في الساحة العلمية وفي نفوس المفكرين سواء الذين عايشوه أو الذين أخذوا المشعل من بعده. في هذا الصدد يقول الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو :“بورديو هو أحد أعظم المفكرين في القرن العشرين. لقد كان له تأثير عميق على جميع المجالات الفكرية، من علم الاجتماع إلى الفلسفة إلى السياسة. لقد كان كاتبًا مبدعًا وباحثًا دقيقًا، وأفكاره لا تزال ذات صلة اليوم أكثر من أي وقت مضى.”.. أما نعوم تشومسكي: “بورديو أحد أهم علماء الاجتماع في عصرنا، لا بل ربما أهمهم على الإطلاق”. ريموند ويليامز: “أعاد بورديو صياغة مفاهيم مثل الثقافة والطبقة بطريقة لم يسبق لها مثيل، مما أنار عالماً كاملاً من العلاقات الاجتماعية الخفية”.أنتوني غيدنز: “يقدم عمل بورديو تحليلاً عميقاً وقاسياً للسلطة والتفاوت في المجتمع الحديث، مع إخلاص شديد للمناهج البحثية الدقيقة”. جاك دريدا: “يُظهر بورديو قوة لا تصدق في تحليل الأنساق الرمزية، مما يفتح عيوننا على أشكال الهيمنة الخفية التي تعمل في حياتنا اليومية”. لويس ألفاريز: “عمل بورديو هو نموذج للبحث الاجتماعي الدقيق والمتعدد المستويات، والذي يربط بشكل رائع بين النظرية والبيانات”. جوديث بتلر: “بورديو سيد في الكشف عن اللامساواة الجندرية التي تتشابك مع أشكال اللامساواة الأخرى مثل الطبقة والعرق، مما يوفر أدوات مهمة لتحليل القوة”. مايكل مان: “كان بورديو من أكثر المفكرين نفوذاً في جيله، ولا يزال عمله يُلهم أجيالًا جديدة من الباحثين في جميع أنحاء العالم”.آشا فنكيتسينغ: “أعمال بورديو لا تزال ذات صلة بشكل مذهل حتى اليوم، حيث توفر إطارًا قويًا لفهم التحديات الاجتماعية المعاصرة مثل العولمة وعدم المساواة”. بيير بيرغو: “لم يكن بورديو مجرد عالم اجتماع عظيم، بل كان أيضًا ناقدًا لاذعًا للمجتمع البورجوازي، وقد ترك وراءه إرثًا فكريًا لا يُقدر بثمن“.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى