بول باسكون.. سوسيولوجي حوّل القرية المغربية إلى مفهوم

حسن أوزيادي

لم يهدأ ولم يسترح.. غمَّس حذائه في جوف الأرض مُستسقيا من عبقها وأنامله قلَّبت ثناياها ليولدَ العشق الأزلي ببسطائها. في عز الصيف والحر، جاب ربوعها، فيافي و براري، سهولا وجبالا وصحاري، تارة كالعارف المستكشف للظاهر والباطن، للسرِّ والعلن، مستجليًّا آفاقا يقينية حِينا و مريبة حينا آخر، و تارة كالإنسان الذي نبع من صُلبها ليعانق تفاصيل الوجوه الشاحبة و يقيس بنبضه الخطوات المتثاقلة في طبيعة مُقفرَّةٍ يئنُ أهلها تحت وطأة السخرة و أشعة الشمس الحارقة.

سخَّر معارفه الفلسفية و قيمه الإنسانية ومداركه العلمية لسَبر كنه عوالم القُرى المتداخلة والمركبة. في ديناميتة وتفاعله مع فلاجيها وحصَّاديها يفكك البنى الفكرية والسلوكية والوجدانية. محاولا الكشف عن أسرار تكون وولادة هذه التشكيلات الاجتماعية  المركبة والمترامية على أطراف الوطن والتي حاول المستعمر تصنيفها تصنيفات غير بريئة، خدمة للأجندة الكولونيا لية.

هو الذي عانق الميدان و التجريب بالملاحظة و الموضوعية، بعيداً عن الانحياز الشخصي، لتشريح الوثيقة والمخطوط والحقائق والأرقام في تحليل بنيات التشكيلات الاجتماعية .بالقياس رصد الحقيقة وتتبع العوامل المُؤثِرةلاستنباط  النتائج والتفاصيل .انهجس بالإلمام الكلي بالظاهرة الاجتماعية سلوكا فرديا وجماعيا في علاقاته الاجتماعية، داخل الأسرة والقبيلة و الدوار، دون إغفال أنماط الإنتاج وعلاقات الإنتاج و التعبيرات الثقافية منها الشفهية والمادية المُؤَطرة لها . استنطاق الحقيقية التاريخية ميدانيا جعله يدير ظهره للتصنيفات السوسيويلوجية الكولونيالية الجاهزة عبرالاختبار والتجريب لكشف خبايا التحديديات والتصنيفات القبلية والجاهزة للمجتمع المغربي كمجتمع نامي؟ أوقبلي؟ أو متخلق؟ إلى غير دلك من التصنيفات.

النشأة والمسار العلمي

هو الآتي من سهل سايس بفاس، خطى خطواته الأولى سنة 1932. بول باسكون، من أسرة لعبت دورا كبيرا  في توجيه مساره العلمي و اختياراته المعرفية والبحثية . والده المهندس في الأشغال العمومية، وجده الفلاح الذي كان مرتبطا بالنشاط الفلاحي. طبيعة الاهتمامات العائلية ستحدد وترسم معالم شخصية ارتبطت بالأرض والطبيعة.

تحصل سنة 1953 على شهادة البكالوريا ليلتحق بمعهد الدراسات العليا المغربية، المؤسسة الوحيدة في عهد الاستعمار. عرف عن والده الاهتمام بالعالم القروي والعداء الكبير تجاه نظام فيشي. فاتورة هذا العداء سيسددها الابن بول حين حُرم من والديه معا، بعدما أبعد والده إلى بوذنيب جنوب شرق المغرب وفرضت الإقامة الجبرية على والدته بميدلت، إلى حين إطلاق سراحيهما. عاش بول بداخلية مدرسية، لم تثبط هذه المعاناة من عزيمته.

 انتقل إلى فرنسا من أجل إتمام دراساته العليا، وبالنظر إلى غياب شعبة علم الاجتماع فقد اختار تخصص البيولوجيا، لينتقل بعد ذلك إلى شعبة علم الاجتماع التي تم إنشاؤها سنة 1956 بباريس، وكانت بها أول مشاركاته العلمية والبحثية رفقة أحد رواد علم الاجتماع آنذاك ألان تورين حول التحولات التقنية عند عمال الصلب الفرنسيين، وهي الدراسة التي امتدت ما بين 1955 و 1957.

 

نشر أول دراسة، وكانت عن “هجرة شلوح سوس”  فبيلة أيت وادريم إلى جرادة. في سنة 1956  كُلِّف بالتنسيق بين الدراسات التحضيرية لأول تصميم خماسي مغربي بمصلحة التخطيط. في سنة 1961  أسس فريق متداخل الاختصاصات للبحث في العلوم الإنسانية ، و في سنة 1964 حصل بول باسكون على الجنسية المغربية وتم تعيينه على رأس مكتب الحوز للفلاحة . اشتغل كأستاذ بالمعهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة من 1970 إلى حدود وفاته  سنة 1985 .

كان غزير التأليف والإنتاج النظري والمعرفي حيث ألف بالاشتراك مع  ن. بودربالة، م. الشرايبي ” المسألة الزراعية بالمغرب1″ سنة 1974 ، وفي سنة 1977 أنتج الجزء الثاني من الكتاب ” المسألة الزراعية بالمغرب2 ” بالاشتراك مع  ن. بودربالة، م. الشرايبي وـ.حمودي.

“حوز مراكش: التاريخ الاجتماعي والهياكل الزراعية ” كان أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في علم الاجتماع. في 1980 قام بول باسكون  ب”دراسات قروية، أفكار وتحقيقات حول القرية المغربية”.تنوع سجل التأليف وخصوبة الإنتاج الفكري والنظري عند بول باسكون جعله في  سنة 1983   يُعرِّج نحو دراسات في الايكولوجيا الاجتماعية لسهل ريفي “بني بوفراح” بالاشتراك مع هرمان فان ديرفوستن. ليتوج هذا المسار، سنة فبل وفاته، بدراسة سنة 1984 حول” دار إيليغ والتاريخ الاجتماعي لتازروالت” بالاشتراك مع أ.عريف. د.شروتر، م. الطوزي، و.ديرفوستن . “المسألة المائية بالمغرب”، بالاشتراك مع ن. بودربالة، ج.شيش، ع. حرزني.

 في سنة 1985   ليلة 22 أبريل، توفي بموريتانيا في حادثة سير، رفقة الباحث المغربي أحمد عريف.

بول بلسكون مؤسس السوسيولوجية القروية

إن إزدواجية تكوين باسكون كمتخصص في البيولوجيا وعلم الاجتماع , سمحت له بامتلاك الدقة المفاهيمية والعدة النظرية، و قوة الملاحظة كتقنية بحثية تعتمد بالأساس على مجال حيوي:الميدان كمجال بحثي ينيح  تقصي واستيقاء وتجميع المعلومة،كمنهجية علمية قائمة على التجريب لدراسة الظواهر الاجتماعية.

شكلت الدراسات الميدانية الأولى لبول باسكون بداية لفك الارتباط  المعرفي والمنهجي مع الإرث الاستعماري .فالميدان كان بمثابة الحقل المعرفي الحابل بمجموعة من القوانين والأحكام المؤسَّسة في إطار السوسيولوجيا الاستعماريَّة، ما جعله يرفض استنساخ النماذج المعرفيَّة والمنهجية الجاهزة والمشكَّلة في سياقات اجتماعيَّة مختلفة يُراد بها تفسير وتحليل المجتمع المغربي.التركيز على الملاحظة كألية وأداة تقنية أساسية في علم السوسيولوجيا  لجعلها في صلب الانتقال الاقتصادي والسياسي الذي شهده المغرب بعد الاستقلال كان الهاجس الأكثر استحواذا على تصور بول باسكون. فقام رفقة ثلة من زملائه بتأسيس أول فريق من باحثين مغاربة وفرنسيين  للأبحاث في كل مجالات العلوم الإنسانية بمقاربة منهجية بحثية معتمدة على التقنيات الكيفية من مقابلات وسِير بيوغرافية، وتبني الملاحظة كمدخل منهجي لفهم بنية المجتمع المغربي وفك تعقيداته لمراكمة قاعدة معطيات علمية حول المغرب وبناه الاقتصادية والاجتماعية والمجالية، فجاء البحث التجريبي كإجابة و كأداة للتشخيص السوسيولوجي للمساهمة في تطوير مقاربة علمية حول المجتمع والتشكيلات الاجتماعية المُكونة له. الشيء الذي أتاح لبول باسكون استنتاجات معرفية ناقضت في مجملها المقاربات والتصنيفات الكولونيالية لطبيعة المجتمع المغربي.

بول باسكون و المجتمع المركب

نماذج  وتنظيمات اجتماعية تتصارع داخل المجتمع الواحد، لسنا أمام مجتمع متجانس ، بل أمام مظاهر من مجتمعات عديدة تتعايش في نفس الآن، وفي نفس المكان.”مجموعة من الفلاحين لهم الحق في الأراضي الجماعية، وتذهب نساؤهم يوم العنصرة، لسكب السوائل على قبور الأجداد، ويطلبون من خماسيهم أن يأتوهم بالبغلة صباحا، ثم يذهبون إلى المكتب ليطلبوا القرض الفلاحي جماعيا ” نحن أمام نماذج منعددة،مجتمع صناعي، ومجتمع قائدي، ومجتمع قبلي، ومجتمع لاهوتي، ومجتمع بطريريكي.إنه المجتمع المركب حسب تصنيف بول باسكون  المنبثق من عمق  التحليل للواقع الملموس وضبط تمفصلاته وتمظهراته الاجتماعية. إنها أحد أكثر المفاهيم المؤسِسة لسوسيلوجيا بول باسكون . يقول محمد الدهان في مفهوم المجتمع المركب: ” إن باسكون منذ 1967 اطمأن لهذا المفهوم بدلا من المجتمع النامي أو المجتمع التابع أو غيرها من التوصيفات، التي كانت حينها أكثر تداولا في النقاشات السياسية والعلمية، وذلك لاقتناعه بأنه المفهوم الأكثر تعبيرا عن خصوصيات الأطروحة.”

 المجتمع المركب عند بول باسكون، تأسس وفق الباحث العطري:” على التجاور والتداخل لمجتمعات عدة في المجتمع الواحد، بحيث تصير أنماط العيش والسلوك والثقافات متجاورة فيما بينها على الرغم من التناقض الصارخ الذي يبصم ثنائياتها المحتملة.” العطري يوضح هذه الأطروحة قائلا:” إن ثنائيات المجتمع المزيج، كالمقدس والمدنس، والأسطوري والواقعي، والعلمي واللاعلمي، والتقليدي والحديث وما إلى ذلك، تجد نفسها حاضرة فيه، في نفس اللحظة، دون أن يثير هذا الحضور المركب أي إشكال على مستوى سيرورة الحياة الاجتماعية، بل إن هذا التركيب يصير مع الوقت شرطا وجوديا لاستمرارية للتشكيلات الاجتماعية بالمغرب.”

إن خلاصة المجتمع المغربي لدى باسكون، وفق الدهان:” أنه مجتمع قائدي مخزني يسيطر على نظام قبلي في طور الاندثار، ويسيطر على نظام أبوي بطريركي ما زال قائما ضمن الخلية العائلية ومن خلال وضعية المرأة. لكن هذا النظام الإقطاعي برمته يدخل تحت سيطرة النظام الرأسمالي العالمي كما يتجلى ذلك في ميدان الإنتاج والتبادل.”

شكل بول باسكون نقلة نوعية ومتميزة في مسار العلوم الاجتماعية بالمغرب. تراث أغنى المكتبة الوطنية ببحوث ودراسات نظرية و ميدانية. رجل ذا خبرة متراكمة طبعت بحوثه بقوة ودقة وعمق في فهم و تحليل بنية المجتمع المغربي ، بهدف صياغة الحلول الحقيقية لخدمة التغيير الاجتماعي.

إن العودة اليوم الى إنجازات الرجل المعرفية هو رجوع الى مبحث علمي رصين تأسس في السويسيولوجيا الحديثة.والحديث هنا عن سوسيولوجيا الخبرة والتجريب والميدان. معرفة تقدم خدمة لصانع القرار وتأتي بأجوبة فعالة ودقيقة عن أسئلة الواقع وإشكالاتهأ.

ظلَّ بول باسكون ملتزماً بالقضايا الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة للسكَّان، وقدم الخبرة والحلول للعديد من هذه القضايا، بل وشارك في مشاريع تنموية عدّة وإنجازه العديد من الدراسات والأبحاث في مناطق مختلفة من المغرب تلامس مواضيع مهمَّة بالنسبة إلى الساكنة القرويَّة والدولة ومسألة التنمية في مجتمع شكَّل فيه العمل الفلاحي والأرض والماء محاور أساسيَّة للاقتصاد الوطني.