بأي حال جئت يا بابا نويل؟

لوسات أنفو؛ عادل ايت واعزيز

بابا نويل أو سانتا كلوز أو القديس نيقولا، كما تشاؤون تسميته، فهو يحتمل الكثير كما يحمل الكثير. يأتي هذه السنة بنفس سياسي، تلازمه أعراض من انفصام الشخصية، وبالرغم من أنه لايشيخ أكثر، فهذا لايعني أنه محصّن ضد الزهايمر.

تارة يبكي ويضحك، لاحزنا ولافرحا، وليس كعاشق ولهان ولامحب، بل مما تعرض له من صدمات في عالم أقل ما يمكن أن يقال عنه، أنه عالم مجنون.

لم تسنح الفرصة لأجري معه استجوابا صحافيا كافيا، لكنه قال لي؛«هناك اجتماع يعقد الآن تحت خيمة بين تمثال الحرية وحدائق بابل المعلقة، يتدارس فيه أطفال غزة الهابطون من السماء مصير دولة الاحتلال بعد انتهاء الحرب على غزة!».

لم أتمالك نفسي من الضحك حتى القهقهة، لكن سرعان ما انتبهت أن الوقت بعد منتصف الليل، وهناك أطفال نائمون في الجوار تحت خيمة تلعب بها رياح الحوز وتارودانت وورزازات كما تشاء، يدفئون أياديهم في هذه الاثناء القارسة التي تنتظر هدية بابا نويل، وتحت رحمة الطبيعة.

لم يستغرب نويل من ضحكتي، بل اكتفى بنظرة عامة وفارغة من أي شعور، عادت بي إلى بعض النظرات التي رمقتني بها إحدى المسنات وقد نال منها الزهايمر، وهي تنتظر دورها وسط طابور طويل من الوطنيين لتقترح نفسها في عملية الاستفادة من برنامج الدعم الاجتماعي.

تابع كلامه؛«أين اختفت المنازل؟ جميعها محطمة وأطلال، وطريقي مسدود، وأنا لا أدخل من الابواب، ولا أتلقى أي دعوة من ضحكات الاطفال التي تلاشت. هناك ابتسامات ملطخة بلون ثيابي الحمراء». ثم بدأ بالبكاء، وتملكني العجز في أن أقوم بشيء ما، أو أقول أي شيء لأنتشله – ساد الصمت- ناولته منديلا فرماه بعيدا حيث لم تكن هناك دموع، حينها عرفت أن بابا نويل يبكي دون دموع.

بعد هنيهة من عودة الوعي، بدا فيها واثقا مما يقول، تحدث إلي بهدوء؛ في بداية هذا العام، ذهبت إلى إحدى البنوك وطلبت فرضا بفائدة معقولة لأستثمره وأصبح قادرا على شراء الهدايا لهذا الموسم، هي هدايا خاصة جدا، فالقلوب الفرحة، فرحها هديتها، لذلك خططت لشراء هدايا مختلفة، يعني؛ بعض الأكفان، وبعض الطعام الذي لايفسد سريعا، فالأموات كثر، والأحياء الأموات أكثر، تركها لنا جبران خليل جبران؛” ثم نحو مدينة الاموات وقلت هذه للأغنياء الأقوياء، فأين موطن الفقير الضعيف يا رب؟

ذلك في جميع أنحاء العالم، الآن أنا هارب يقول وليس لدي سوى كيس صغير، إذ مع التضخم، ارتفعت الفائدة وأصبحت عاجزا عن سداد القرض، وانخفضت قيمة العملة إلى أسفل السافلين وحجز البنك كل الهدايا التي لدي، وأرادوا أن يأخذوا ثيابي فهربت (يضحك). فهمت فهمت أنه لايستطيع الذهاب إلى أي مكان، فقد أصبح مطلوبا من البوليس الدولي ولا يمكنه التحرك إلا خفية.

حاولت تهدئة روعه بعبارات يحبها ويطمأن لها؛ أن العيد لايكتمل إلا بحضوره وبروح الفرح التي تسكن فيه، ولكن قاطعني؛ « هل هناك حانة قريبة من هنا، أريد بعض الشراب!». مشينا قليلا ودخلنا الحانة وطلب من أول رجل زجاجة من الشراب، كأس من هنا وكأس من هناك. مضت ساعة وأصبح من الصعب أن أراه ويراني، ولكن لا زلت أسمع صوته يحاول غناء بعض الأغاني والأناشيد الوطنية.

طارت السكرة، حينما جاءت سيارة الشرطة وطلبت منا المغادرة، فخرجنا بكرامتنا مرفوقين ببعض الشتائم، ثم صلينا صلاة ليست من هذا العالم ولسنا واثقين من أن أحدا سيستقبلها. ومع حلول الصباح همس لي؛ لا أعرف أين أذهب، أنا مجرد هارب ومطلوب وليس لدي تأشيرات دخول.

هكذا هو قدرهم يا سانتا كلوز، لا حق لهم في أن يتأففوا أو يحتجوا، كما لا حق لهم في أن يغضبوا أو يبدو فيهم ما قد يربك الحركة الرتيبة للكبار، وإلا لفظتهم الجحور والعلب والسجون والمقابر. لم يعودوا يَقْوَو على استقبال الهدايا، أو على مجرد الهمس بمآسيها وضنكها، كلهم أجساد أُنهكت قهرا وترويعا وتجويعا، حتى أنها لم تعد تقوى على مجرد الهمس بمآسيها وضنكها.

ورغم الإحساس بأنهم ينفخون في قرب، تنفتح ثقوبها على جيوب الكبار مباشرة، هؤلاء الذين لا تعركهم رحى الأسعار بثقالها، ولم تملك عليهم الزيادات المتلاحقة في الأسعار وأنفاسهم أو تصادر تفكيرهم، ولم تزعجهم فواتير الماء والكهرباء يوما، لأنهم لا يؤدونها أصلا. معفون من التدافع بالمناكب أمام شبابيك وكالات توزيع الماء والكهرباء، معفون من جحيم الانحشار والتكدس في حافلات الموت والجنون والصفاقة، ومن هوى الخواص الذين لا يجيدون إلا التفكير في نهب أجرة المستضعف اليومية.

وتهرب ثروة الامم خارج الحدود، كما يهرب البابا النويل، حيث لاتطاردها عيون الجياع الذين تعبوا من أن تتجمع، ورغم ذلك، رغم كل ذلك فهم الوطنيون الخلص الذين تنهار أمام سحنهم وأسمائهم كل الحواجز والعوائق، في هذا الزمن الرديء وفي كل الأزمنة التي لا يلوح إلا أنها ستكون فادحة.

وتسقط علينا أنشودة واحدة ووحيدة لميخائيل نعيمة من تلقائها، إسقاطا أزماتيا وسياسيا؛

 سقف بيتي حديد **ركن بيتي حجر

 فاعصفي يارياح ** وانتحب يا شجر

واسبحي يا غيوم ** واهطلي بالمطر

باب قلبي حصين ** من صنوف الكدر

ثم أسال نفسي إلى أي مدى كان سقف بيتنا من حديد؟ وركنه من حجر؟ فحين هطلت الأمطار السوداء من أنحاء العالم، لم يكن السقف من القوة ليجابه هذا النوع من المطر، ليتهالك السقف و الركن معه! ونحن لا نعرف إلى الآن أصل تسمية “رأس السنة” ولكن عندما أفكر في التسمية، أسأل نفسي؛ هل رأس هذه السنة أصلع أم مصفف؟