الحكاية اسمها مكان

اليهود المغاربة.. رافد أساسي قوي في مجتمع ديانته الإسلام

إ.المجداوي بنصالح.

مدخل:

نفر كبير مِن المغاربة اليهود مَن اعتنق الاسلام طوعا، والعديد من دخله كرها. لكن هذه الخطوة لم تشفع لعدد منهم وسط مجتمع مسلم متشدد. إذ لما قدِم الفتح الاسلامي إلى المغرب، كان سكانه يتوزعون مذاهب وشيعا، ومنهم من كان من أصحاب الديانات السماوية، وهكذا بدأوا يدخلون في دين الله أفواجا وفرادى. ومع ذلك تميزت المرحلة الأولى من الفتح الاسلامي بدرجة كبيرة من التسامح، الذي أتاح لأصحاب الديانات السماوية الأخرى أن يحتفظوا بمعتقداتهم ويمارسوا شعائرهمالدينية بحرية لم تكن دائما معهودة ومتوفرة في المجتمعات الغربية. بمعنى أن اليهود والمسيحين كانوا يعيشون جنبا إلى جنب مع المسلمين. وحينقدوم الموحدين الذين أقاموا دولتهم على العصبية القبلية والدعوة الدينية، شهدت هذه المرحلة تواري مبادئ الإسلام السمحة إلى الخلف، وحلت محلها سياسة الإقصاء والاضطهاد ضد من استظلوا بحماية المجتمع الإسلامي.

فما هي الظروف التي اعتنق فيها المغاربة اليهود دين الإسلام؟ وكيف هي طبيعة العلاقات التي ربطتهم بمواطنيهم المسلمين؟ ثم ما موقف السلاطين والفقهاء من المسلمين الجدد؟ أسئلة وأكثر سنجيب عنها في سلسلة مقالات عن الرافد العبري بالمغرب..

الإسلام دينا للمغاربة اليهود في العصر الوسيط..

في أواسط القرن الثاني عشر، أصدر الخليفة الموحدي عبد المومن مرسوما مفاده ألا يبقى فوق أرض الدولة إلا من هو موحدي، وهنا اعتنق كل اليهود بشكل ظاهري الإسلام، وعقب اكتشاف قبر ادريس الثاني، أصبح المكان “حرم”، مما نتج عنه منع غير المسلمين من دخوله، أي تحريم الولوج للمكان الحرم والذي لم يكن سوى”قيسارية فاس”! وبهذا تم منع اليهود عمليا من ولوجها وحرمانهم من المكاسب. وقد كان هذا السبب كفيلبإسلام الكثير من اليهود أنذاك، فيما اضطر النفر الآخر ممن تمسكوا بدينهم الذين شبوا عليهإلى الابتعاد والسكن في أحياء منعزلة، وهو الأمر الذي لم يعهده المغرب إلا مطلع العصر الحديث في حدود سنة ١٤٣٨ للميلاد.

“اختار عدد من المغاربة اليهود الاسلام دينا وقتذاك، وتبوء الكثير منهم مكانة ومنزلة رفيعة، وبالرغم من ذلك استمرت الشكوك تحوم تجاههم”.وكما هو معروف منذ القدمأن اعتناق بعض المغاربة اليهود للإسلام خلال عصر الدولة الموحدية، جاء نتاجاللتضييق الذي مُورِس عليهم، وقد برز هذا الأمر أكثر في مدينة فاس لاعتباريناثنين، أولهما أن فاس كانت تضم أكبر طائفة يهودية في المغرب، وثانيهما لأن المادة المصدرية متوفرة أكثر عن هذه المدينة ذات الإشعاعين الاقتصادي والعلمي. سيفهم القارئ أن بعض الخلفاء الموحدين لم تكن لديهم الثقة التامة في إسلام بعض المغاربة اليهود، بل كان الظن في صحة اعتقادهم هو الأصل، وعليه بنيت مبادئ التعامل معهم، وظلوا يعتقدون أن إسلام بعضهم أوجميعهم، هو إسلام على التقية لا الحقيقة. وهذا من بين الأسباب التي دفعت الخليفة أبو يوسف يعقوب المنصور (٥٨٠-٥٩٦ه /١١٨٥٤-١١٩٩م)، إلى تمييزهم على مستوى اللباس، وقد فسر المراكشي صاحب مؤلف “المعجب” هذا الإجراء بشك الخليفة في إسلامهم، إذ اعتاد على القول: [لو كنت متيقنا من إيمانهم لتركتهم يختلطون مع المسلمين ويتزوجون منهم، ولو كنت متأكدا من عدم إخلاصهم لقتلت رجالهم وأسرت أطفالهم ووهبت أملاكهم غنائم للمسلمين، لكني لدي شكوك بشأنهم]. وقد عقب المراكشي على هذا الأمر بقوله، [إن اليهود يتظاهرون بإسلامهم، فيصلون في المساجد، ويقرأ أبناؤهم القرآن، ويتبعون ديانتنا وسنتنا ولكن الله يعلم ما في صدورهم].

سيفهم القارئ أن الشك في صدق إسلام اليهود كان يسبب بعض الضيق لهم، وقد أكد أبو الحجاج يوسف بن إسحاق بن عقنين السبتي اليهودي الأصل(توفي ٦١٧ه /١٢٢٠م)، في كتابه “طب النفوس”، على الآلام والتمييز الذي تعرض له المغاربة اليهود الذين أعلنوا إسلامهم، وهو ما ظهر جليافي منعهم من العديد من الحقوق التي كان يتمتع بها باقي المغاربة المسلمين منها امتلاك العبيد وتنفيذ الوصايا والزواج من مسلمات “أصيلات”…

{إن بعض الظن إثم} لكن يمكن القول أن ظن بعض الموحدين في إسلام المغاربة اليهود لم يكن كله إثما! فمع صعود الأسرة المرينية للحكم، وتغير تعامل المخزن مع اليهود بشكل جذري منذ عهد أبي يوسف يعقوب، عاد الإسلاميون بكثافة إلى الديانة اليهودية بما يظهر أن اعتناقهم الاسلام كان مجرد تقية لا غير، حتى إن منهم من أقر بذلك بكل صراحة ووضوح في كتاباته مثل ابن عقنين المذكور سلفا..وتجدر الإشارة أن هؤلاء لم يتحملوا التبعيات والنتائج الناجمة عن هذه الردة، وإن كان عدد منهم فضل المحافظة على عقيدته الجديدة.

في ظرفية تاريخية مضطربة، اعتنق بعض المغاربة اليهود الاسلام، خاصة الأغنياء منهم، حفاظا على مصالحهم الاقتصادية، ومارس بعضهم التجارة في قيسارية فاس القلب النابض للمدينة. لاسيما أن من حافظوا على دينهم، نقلهم السلطان المريني إلى فاس الجديد محل إقامته الجديدة. ووفق بعض الروايات التي يصعب التحقق من مصداقيتها ولا تستبعد فيها شبهة الدعاية المغرضة والتحامل، لوحظ أنهؤلاء أكثروا بشكل مبالغ فيهمن الغش في المعاملات التجارية والتعامل بالربا، مما دفعبسكان المدن والقرى إلى رفع تظلمات وشكاوى لولاة الأمور، غير أن المعضلة هاته استعصت على القضاة والمفتين في محاولة لإيجاد حلول لبعضها فقط، حتى إن قاضي المدينة هدد بتقديم استقالته من سلك القضاء وقدم طلب إعفائه للسلطان، فما كان من هذا الأخير تحت الضغط سوى أن استفتى الفقهاء في شأنهم، فأفتوا بإخراجهم من القيسارية، وخصهم بحِرف يقل فيها منسوب الغش، أو غير مدرة لأرباح مهمة، فضلا عن مراقبتهم الشديدة من قبل المحتسب، وكذلك كان.

وخلال عهد المرينين، تعززت صفوف اليهود المسلمين او لنسميهم بالإسلاميين، بعناصر جديدة حديثة العهد بالإسلام مما عضد قوتهم، فعلى إثر اكتشاف قبر المولى ادريس وإقامة ضريحه سنة ٨٤١ه /١٤٣٧م، وتحوله إلى حرم ومكان مقدس، بل تحول فاس القديمة كلها إلى حرم، طلب من اليهود إخلاءها، والالتحاق بذوي جلدتهم في فاس الجديد، وهنا اختار الأغنياء منهم خاصة، مرة أخرىاعتناق الاسلام حفاظا على مصالحهم الاقتصادية للبقاء في المدينة القديمة، وقد عرفت مدن مغربية أخرى، خلال هذه المرحلة، خاصة مدينتي الرباط وسلا اعتناق بعض المغاربة اليهود للإسلام.

يتبع…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى