الحوار

الفنان بوجمعة الناصري: هذه اسرار فن ” الموازنية”.. خرج من أقدام الدباغين و تطور في ملاحم البهجة بالأحياء الشعبية

هكذا طور الحرفيون ميزان الكلباوي احتفاء بهذا الحيوان الوفي

أجرى الحوار: حسن البوهي

عُرفت مدينة مراكش بفن الدقة المراكشية، لكن قلائل من هم يعرفون أن هناك ألوانا غنائية شعبية غنية تغوص في الذاكرة الجماعية للأوساط الشعبية المراكشية، وتختزن في كرونولوجيتها قصة سكان مدينة احترفوا فن الاحتفاء والاحتفال بنزعة فطرية…إنه فن الموازنية الذي جادت به قريحة الصناع التقليديين بين أزقة ودروب المدينة العتيقة.

 في هذا الحوار يتحدث الفنان المبدع بوجمعة الناصري الذي يعد من الرواد المعاصرين القلائل لهذا الفن إلى جانب الفنان حميد الزاهر عن أصول نشأة هذا الموروث الفني في الأوساط الشعبية المركشية، وأهم التطورات التي عرفها والآلات التي ألحقت به قبل أن يستقر على وضعيته الحالية، متوقفا على إيقاعاته الموسيقية وأنواع الموازين وخصائصها التركيبية الناظمة له، مشيرا إلى أهم رموز هذا الفن الشعبي الذين طالهم النسيان، مستعرضا واقع حال هذا اللون الفني الذي يتعرض وفق وجهة نظره في السنوات الأخيرة للإساءة والتشويه من طرف بعض الدخلاء على الفنون الشعبية، مضيفا أن دور الإنتاج الفنية تتعامل مع فرق الفنون الشعبية بنوع من الإزدراء مُعبرا عن الأفق المستقبلي ل”فن الموازية” في ضل الإكراهات والتحديات التي تواجه حاضره.

1- تؤدي رفقة فرقتك الفنية لونا غنائيا موسوما ب”الموازنية” قربنا أكثر من أصول هذا اللون الغنائي وامتداداته  في الأوساط الاجتماعية للمراكشيين؟

ارتبط فن “الموازنية” الشعبي بصناعة تقليدية عتيقة هي “الدباغة”، والدباغون هم من أخرجوها إلى حيز الوجود، إذ كانوا أثناء دلكهم بأرجلهم للجلد في الصهاريج يُحدثون إيقاعات متوازية، فتنافس الحرفيون في جو من النكتة والمرح  في ضبطها، وفي نهاية اليوم كانوا يقولون فيما بينهم “كرف شي ميزان” فيستعملون “الأيدي” وينظمون إيقاعا متوازنا من التصفيق مصحوبا بترديد بعض اللوازم الشفوية فرحا بإتمام أشغالهم اليومية ، ثم ترسخ هذا الايقاع وداع صيته من خلال حفلات “النزاهة” التي كان يقوم بها الحرفيون والصناع آنذاك عصر كل يوم جمعة ب”عراصي وحدائق مدينة مراكش.

وموزاة مع ذلك كانت الأوساط الشعبية المراكشية تجلب “فرقة الطبالة” لإحياء مناسباتها الاحتفالية كالأعراس والختان وغيرها، وكانت تنادي على الدباغين بدورهم، فأدى ذلك في وقت لاحق إلى انصهار هاتين الفرقتين في فرقة واحدة، وقد ساهمت في خلق الفرجة الخلاقة بين سكان الحومات العتيقة بمدينة مراكش، وتتكون معداتها الفنية من “الطعريجة” “والرق” المعروف ب”الطريّر” والسويسي المعروف ب”الكنيبري”، مصحوبة بكلام موزون وقصائد شعرية تتغنى بفصل الربيع، بالزواج، بأعلام الصناعة التقليدية، بسبعة رجال وخصالهم، وفي بعض الأحيان تكون هناك نكث هادفة لإضفاء جو من الفرحة والبهجة، وكنت آنذاك رفقة أبناء جيلي صغار السن نستمتع كثيرا بهذا الفن الشعبي ونحاول أن نتقرب أكثر من رواده …استمرت فرقة الموازنية على هذا الإيقاع إلى سنة 1961 حين أدخل عليها الفنان والمبدع الكبير الراحل “حميد الزاهري” آلة العود، وقد ساهم  رحمه الله في التعريف بهذا اللون داخل الوطن وخارجه، ويمكن أن أقول بأنه “الأب الروحي” لهذا الفن الذي أصبح أحد أبرز معالم الثقافة والهوية المراكشية.

2- من هم أهم رموز فن الموازنية الذين رحلوا إلى دار البقاء أو الذين ما زالوا على قيد الحياة ولم يحظوا بوقفة اعتراف أو التفاتة رمزية من طرف القائمين على الفنون الشعبية؟

رموز فن الموازنية كثر، والغالبية العظمى منهم رحلوا في صمت ولم ينالوا أدنى التفاتة، أحبوا فن الموازنية حتى النخاع وساهموا في إشاعته والتعريف به، وأدخلوا البهجة والحبور على سكان المدينة الحمراء، إلا أن ذلك لم يشفع لهم بتصدر المشهد الفني، فبقوا في الهامش من هؤلاء أستحضر على سبيل المثال لا للحصر: المعلم كاوا، المعلم الرمخ، المعلم لشهب، الوشام، مولاي احمد الروينبة، عباس ولد الرحالية، المعلم قشقاش، محمد غراف، ابراهيم العذيرة، با جلول، بابطي، باكرو، عبد الله ولد الرحمانية…وطابور طويل من الأسماء التي مارست الفن الشعبي بمدلوله ومفهومه الحقيقي، وكانت هذه الأسماء الرنانة تنتظم في إطار مجموعة من الفرق، إذ كان آنذاك في سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي لكل حي من أحياء المدينة العتيقة فرقته الخاصة، وأبرز هذه الفرق وأكثرها إبداعا كانت بأحياء: باب دكالة، درب ضباشي، رياض العروس، القصبة، الموقف وبنصالح، باب إيلان.

3- كيف تنتظم الإيقاعات الموسيقية في فن الموازنية؟

بالنسبة للإيقاع فهو يتوزع بين ثلاثة أشخاص يقومون بالتصفيق بالأيدي ويكونون في المقدمة وثلاثة أشخاص آخرين في الخلف يقومون بقرع “الطعريجة” و”الرق” و”السويسي”، وفي بعض الأحيان يمكن أن يتغير هذا التوزيع ويصبح أربعة أشخاص في الأمام وثلاثة أشخاص في الخلف، وقبل أن يدخل العود على هذه الايقاعات مع مجيء الفنان المقتدر “حميد الزاهر”، كان الفنان المبدع “بوجمعة باقبو” قد أدخل عليها آلة “الكنبري”، إلا أن إيقاع العود كان أكثر ملاءمة من هذه الأخيرة.

يحدث في بعض الأحيان أن يتغير الإيقاع الشعبي لفن الموازنية عندما يمرون بالقرب من ضريح ولي صالح، فيتباطأ الإيقاع ويصبح قريبا من إيقاع عيساوة أو الحمادشة…وتغيير هذا الإيقاع في هذا السياق هو من باب الاحترام والتقدير للولي دفين ذلك الضريح… يُختتم الإيقاع بما يصطلح عليه بين الرواد ب”كريف الميزان” وهو التصفيق بالأيدي وفق إيقاع مرتفع مصحوب بمتلازمات شفوية تزيد من ذروة الايقاع، وتضفي حماسا كبيرا على أعضاء الفرقة والجمهور على حد سواء.

4- تسمية فن الموازنية تمتح دلالتها من “الميزان” أي بمعنى أن هناك ضابط إيقاع معين. ما هي أنواع الموازين في فن الموازنية؟ و ما هي خصوصيتها؟

بالنسبة للموازين الإيقاعية هناك 5 أنواع: – الميزان الحوزي: نسبة إلى “الحوزي ولد ابن حمامة” الذي كان خلال سنوات الأربعينات من القرن الماضي يقيم حلقته الشهيرة بساحة جامع الفنا، ثم “الميزان الحريزي”. يشترك هذان الميزانان في كونهما لهما “ندهة واحدة”، ثم هناك ميزان ثالث هو الميزان الحدادي: نسبة إلى صناع الحدادة الذين كانوا ينافسون الدباغين، وأوجدوا هذا الميزان من خلال أشغالهم اليومية في تطويع الحديد وبرده، ورابعا هناك الميزان الدباغي، وهذان الميزانان الأخيران لهما ثلاث ندهات “. ثم هناك الميزان “الكلباوي” وقد أوجده الصناع والحرفيون لتخليد ذكرى هذا الحيوان “الكلب” الوفي وهناك من يقول أن هذا الميزان ظهر نتيجة الغزل وأجواء المزاح التي كانت تحدث بين الصناع التقليدين. وإيقاعها قريب إلى حد ما من نباح الكلب، ومن كثرة ترديدها ترسخت في الأذهان، وتم تداولها بين فرق الأحياء العتيقة إلى أن أصبحت من موازين “فن الموازنية”.

  • قربنا أكثر من تجربتك الفنية ومن معين الينبوع الفني الذي تشرّبت منه؟

بدأت عندما كنت أقطن في حداثة سني بحي باب دكالة القريب من حي “الكماخين” وكان هذا الحي سنوات الستينات يتجمع به جهابدة الفنون من طرب الملحون، الموسيقى الأندلسية والمسرح وغيرها من بينهم الطاهر أمنزو، بالفاطمي، الطاهر منيارة…كنت من المتابعين لنشاط نادي الطلاب الثقافي، وساهمت إلى جانب مجموعة من الأصدقاء في إعداد عدة مسرحيات وندوات…ثم في مرحلة الأخرى اتجهت إلى المعلم والفنان الطاهر أمنزو رحمه الله واشتغلت معه كمتعلم، وكانت تشد انتباهي ألة العود الموجودة بالدكان وكنت جد متشوق للمسها وتجريبها، وكان بين الفينة والأخرى يعلمني قاعدة أو قاعدتين من أبجديات العزف الموسيقي… بقيت على ذلك الحال إلى أن تعرفت على أستاذ كبير وعبقري في المجال الموسيقي وهو الأستاذ “عبد الله العصامي” وكان يشتغل آنذاك في الإذاعة الوطنية، فأسدى لي نصيحة قيمة ووجهني إلى تعلم الموسيقى بأصولها بالمعهد الموسيقي الكائن آنذاك ب”دار سي السعيد” الذي كان يشرف عليه وقتئذ الأستاذ بنسالم”، بعد انخراطي اتجهت إلى “قسم العود” الذي كان يشرف عليه “مولاي عبد الله الوازاني”.

 ثم انخرطت إذاك مع فرقة ضمت مجموعة من الشباب المبدعين في الثمانينات من القرن الماضي قمنا بتسجيل أغنية بالإذاعة الوطنية بعد أن نالت إعجاب العديد من المتتبعين، غير أن ازدراء أحد المسؤولين لنا وتعامله المجحف معنا، دفعني إلى التفكير بمغادرة الوطن، وفي سنة 1988 حصلت على عقد عمل لتدريس الموسيقى بالإمارات العربية المتحدة، فغادرت الوطن وفي حلقي غصة حول الطريقة المجحفة التي يتعامل بها بعض المسؤولين المغاربة مع الفن والفنانين.

قضيت في الإمارات العربية 24 سنة كمدرس في إحدى المعاهد هناك، وعندما شدني الحنين لأرض الوطن عزمت على العودة وكان ذلك سنة 2012، غير أني صدمت كثيرا لأن الساحة الفنية المغربية والمراكشية منها على وجه التحديد تفاقم وضعها أكثر من السابق وأضحت في وضع يرثى له، بحيث تصدرت المشهد الفني ألوان غنائية هجينة لا تمث بصلة إلى رونق وأصالة الفن المغربي الراقي…فأنشأت رفقة مجموعة من الزملاء الفنانين الشعبيين جمعية سميناها “جمعية العروبة للموسيقى والفنون الشعبية” من أجل رد الاعتبار للفن الشعبي الأصيل.

6- كيف يمكن توصيف واقع حال فن الموازنية بمراكش؟

يتعرض هذا الفن في السنوات الأخيرة للإساءة من طرف بعض الدخلاء على الفنون الشعبية الذين يدّعون الانتساب إليه، بحيث ظهرت فرق تصطلح على نفسها تسمية “التقتيقات” وتقدم نفسها على أنها امتداد ل”فن الموازنية” ول”فن الدقة المراكشية” وهي لا تمث إليهما بصلة لأن هذين الفنيين الشعبيين لهما أصولهما وطقوسهما وقواعدهما الخاصة، كما أن تسمية “تقتيقات” لا نجد لها أي امتداد في الثقافة الشعبية المراكشية ولا أعرف من أين جاء بها أصحابها، كما ظهرت في السنوات الأخيرة بعض الممارسات وأشكال الاحتفال التي تنسب لفن الموازية وهو بريء منها، كالحفلات التي تقام على سبيل المثال من التاسعة ليلا إلى مطلع الفجر. هل هذا في نظرك فن؟.. الرواد المؤسسين لفن الموازنية لم يمارسوا احتفاليتهم بهذا الشكل الذي يصادر حرية الآخرين في النوم. بالإضافة إلى الكثير من الممارسات التي لا يتسع المجال لذكرها.

كما أن هناك مشاكل أخرى مرتبطة بضعف الإمكانيات المادية لتسجيل مجموعة من الأعمال الفنية الجديدة، فدور الإنتاج تتعامل مع الفنون الشعبية بصفة عامة بنوع من الازدراء.

  • كيف تنظرون إلى مستقبل فن الموازنية في ظل اكراهات الاشتغال التي يعرفها؟

رغم هذه المشاكل والإكراهات إلا أني ما زلت متشبثا ببارقة الأمل، وأعتقد أنه من خلال جمعية “العروبة للموسيقى والفنون” وبفضل تعاون العديد من الفعاليات الغيورة على الفن الأصيل سيعود لفن الموازنية سابق عهده من الإبداع والفرجة الخلاّقة التي تنهل من ينبوع الثقافة المغربية الأصيلة والمتجددة، وفي هذا السياق فقد أنتجت فرقتنا مجموعة من الأعمال الفنية التي تعالج مواضيع هادفة من قبيل “لا للرشوة” ، “التلقيح”.”القلم”، “مرض السيدا” ، “مرض الثدي” ، “القدس السليبة”، “لا للمخدرات” و”الليلة الكبيرة” وغيرها من الأغاني الهادفة التي نالت استحسان العديد من المتتبعين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى