مذكرات

الفنانة الألمانية أولريكه بركهوفت: في دروب مراكش أحس بأنني في زمن أسطوري

لوسات أنفو: باسم الشغوف

عند حدوث زلزال ليلة الجمعة 8 شتنبر 2023، كان الانشغال العام ينصب على أسئلة إعادة بناء المباني التي دمرت و ترميم تلك التي أصابها ضرر جزئي، لكن لا أحد تساءل عن الجهة التي سترمم الذاكرة التي أصيبت بدورها بأضرار كبيرة. فالدروب و الدور التي عمها الخراب بمراكش العتيقة، لم تكن مجرد أبنية تشكلت من مواد يمكن تعويضها بما هو أمتن منها، و إنما كانت تارخا كبيرا و أمجادا مشعة ارتبطت بمن عبروا منها في أجيال متلاحقة. نهدي  هذا النص لكل من تحسر على ما  أصاب مراكش العتيقة، و لكل من يؤمن بحقنا الجماعي في الذاكرة، و بالدور الحيوي للمثقف في توثيقها و حمايتها طالما ليس هناك مشروع عمومي لتأمين ذلك. لأن الأمكنة حكايات تطالب بحقها في أن تكتب و تروى.

أولريكه بريكهوفت موسيقية و نحاثة ألمانية . ولدت بمدينة بيدنغن سنة 1947و تابعت دراستها في الفنون بمدينة بيدنكوف ثم برلين . و درست الإيقاع الهندي الكلاسيكي بكلكوتا . ساهمت الى جانب موسيقيين عالميين في عدة أعمال موسيقية و مسرحية . عرضت أعمالها في مناطق مختلفة من العالم كلوس أنجلس و ليما و برلين و باريس و سيول .. سحرتها مراكش فاتخذتها مقرا لإقامة نصف سنوية تقضيها بمنزل صغير بحومة أسول  في تخوم المدينة العتيقة …  التقيناها في سنة 2000 و دونا انفعالها بروح الحمراء الجميلة…

تقول عن مراكش :

سافرت كثيرا . ارتحلت بين مناطق مختلفة من العالم من بيدنغن الى برلين الى كلكوتا و لوس أنجلس و باريس و ليما و سيول و سان شونغ .. عادة أمكث في المكان الذي أسافر إليه ستة أشهر أو سنة أو سنتين . و هذا ليس من أجل السياحة و إنما من أجل عملي الفني . فأنا أتعلم من أساطير سكان هذه المناطق و أحاول أن أغذي تجربتي في العالم برؤيتهم و فهمهم و إحساسهم . و اليوم لا أعرف بالضبط أين أقيم . فأنا كائن مرتحل ، و كل العالم وطني .

تجربتي مع السفر و خاصة قدومي إلى مراكش مكنني من إدراك أن سفري لا يتم فقط في المكان و إنما عبر الزمان كذلك . كنت قبل أن أجيء إلى مراكش بوقت قليل بسيول . و عندما حللت بالمدينة الحمراء لم تكن نظرتي لها أوروبية بحثه بل كنت أراها بعين مركبة : أروبية و أفريقية و آسيوية .

الزمان بمراكش مختلف جدا عن مثيله بأوروبا . فهو لحسن الحظ أكثر بطءا هنا . و هذا أهم مبرر جذبني الى هذه المدينة ، إذ أن السرعة فيها سرعة إنسانية عكس أروبا التي يسود فيها زمان  تكنولوجي تهيمن عليه سرعة فوق إنسانية . فالكل يجري وفق إيقاع شبه ضوئي يتجاوز الإمكان الإنساني .

قضيت طفولتي في مدينة قروسطية . الأشياء و العمارة التي كانت تحيط بي متنت ألفتي و قوت ارتباطي بهذا التمظهر الرمزي للماضي متحققا في بعض الأشياء و العلامات التي تقاوم الحاضر . بعد ذلك قضيت فترة طويلة بكلكوتا أدرس الموسيقى . وجدت فيها نفس الفضاء القروسطي في مظاهره العامة كالملابس و العمارة و علاقات الناس بعضهم ببعض و الطرق الترابية غير المعبدة . و في أحد الأيام قررت الاحتفال بعيد ميلادي بمدينة تسمى مراكش و التي كانت في طفولتي تحمل ككلمة إيقاعا موسيقيا مثيرا يستفز خيالي .. و كم كانت دهشتي عندما وجدتها متسمة بنفس الطابع القروسطي . فالطرقات ترابية تمتلئ أوحالا  عندما تسقط الأمطار ، و الدور و البيوت طينية بهيئة معمارية قديمة ، و الدروب ضيقة ، و النساء و الرجال بملابس تقليدية تحمل تاريخا عريقا معها . كانت هذه المظاهر أول ما أثارني فيها . ففكرت بأنه سيكون رائعا إذا تمكنت من كراء دار قديمة بحي عتيق .

في أحيان كثيرة عندما أمشي في دروب و طرقات مراكش أحس بأنني في زمن أسطوري ، أرى صورا ذات عمق ميتي لا مثيل له . و هناك مئات من السنين التي تتواجد في نفس الوقت . و هذا شيء يشبه السحر تختص به هذه المدينة و حدها .

مراكش خزان لا ينضب من  الرموز القديمة . اقضي ساعات طويلة في التحدث مع سكانها و المسنين منهم على الأخص في محاولة فهم هذه الرموز .. و بفعل هذا الإغراء قررت الاشتغال على التراب . في البداية كان الأمر عاديا جدا لكن بعد ذلك بدأت أدرك أنني أمر من تجربة استثنائية . حيث أنني من خلال الاشتغال على هذه المادة و محاورتها فنيا ، أحسست بأنها ليست مادة فقط . إنها حية ، تتحدث ، تقول شيئا ما . فبدأت أتساءل : أليس هذا التراب حيوات سابقة ؟ عندها تغير كل شيء أمامي . فقد وجدت أنه شخصيات حية تنمو و تتحرك و تحس و لها وجوه و إيماءات ..

هناك شيء جميل و نقي و صافي في الإنسان يجب الحفاظ عليه . هذا المطلب يتحقق بمراكش ربما بغير وعي أهاليها ، فالإيثار و التواضع يميز علاقة الناس ييعضهم البعض . لقد عشت عدة حروب و مررت من ذكرى مؤلمة مازالت ماثلة أمامي الى اليوم  جعلتني أقدر هذه الميزة و أعرف أهميتها . حيث سقطت قنبلة أثناء الحرب اليوغسلافية على أناس كانوا على مقربة منا . كان أول رد فعل نفسي عن الانفجار هو إحساسي بالارتياح و الفرح لكون القذيفة لم تسقط علي . لكن بعد ذلك أصابتني صدمة كبرى جراء إحساسي الفظيع بهذه الأنانية المتضخمة . و هو ما دفعني إلى إعادة التفكير في أمور كثيرة تهم وجودنا الفردي  و الجماعي . و هذا بالضبط ما أسعفتني عليه مراكش من حيث هي إنسان يتحرك في العالم من دون أية مبالغة أو تصنع أو تضخم في الأنانية .. مراكش هي ما ينقص أروبا ….

جمعنا هذا التصريح و دوناه و ترجمناه  في دجنبر 2000

الصورة من صفحة مراكش مدينة الألف سنة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى