روبورتاج

“العربي بامبار”.. بحار صويري خاض مغامرة الإبحار إلى البرازيل على متن قارب تقليدي

تعود تفاصيل هذه المغامرة إلى بداية التسعينيات من القرن الماضي، حينما قدم شخص يُدعى "محمد فوزي" من مدينة الدار البيضاء إلى الصويرة يحدوه حلم الوصول إلى القارة الأمريكية

حسن البوهي

يتداول الصيادون التقليديون بميناء الصويرة تفاصيل قصة مثيرة أقرب إلى الخيال، لكنها حقيقية وبطلها ما زال حيا يرزق من أبناء مدينة موكادور، يقصد الميناء بين الفينة والأخرى ويمد يد العون والمساعدة ويسدي النصيحة لكل من يطلب مشورته من أصدقائه “البحارة”، يسرد الصيادون التقليديون تفاصيل قصة صديقهم “سي العربي بامبار” أو “با عروب مريكان” (بفتح الميم) كما يلقبونه بذلك، بنوع من الفخر والاعتزاز، قبل أن يعمد الكاتب “حسن الرموتي” إلى تدوينها وطبعها في كتاب موسوم ب”الامتداد الأزرق” سنة 2013، نستعيد في هذه الفسحة جوانب من هذه المغامرة البحرية المثيرة.

يسترجع “باعروب” تفاصيل مغامرته التي قادته على متن زورق صغير رفقة صديقه بداية سنوات تسعينات القرن الماضي إلى إحدى جزر البرازيل قائلا: “حين أعود بذاكرتي إلى ذلك اليوم الذي أبحرنا فيه نحو المجهول وتركت ورائي مدينتي، أهلي، أصدقائي، أتذكر اندفاع صديقي أشعر بالخوف… أعترف أن ذلك لم يكن تهورا فقط بل جنونا، جنون أقرب إلى الخيال، انتحار بكامل الإرادة، كيف لزورق صغير لا يتعدى طوله خمسة أمتار أن يبحر عبر المحيط دون أن يغرق أو تحطمه الأمواج العاتية”.

كتاب الامتداد الأزرق الذي يوثق مغامرة العربي بامبار
تعود تفاصيل هذه المغامرة إلى بداية التسعينيات من القرن الماضي، حينما قدم شخص يُدعى “محمد فوزي” من مدينة الدار البيضاء إلى الصويرة يحدوه حلم الوصول إلى القارة الأمريكية، قصد أول الأمر شرطة الميناء فأبلغهم رغبته في ركوب البحر والوصول إلى مبتغاه، لكنه عاد خائب الوفاض بعدما تم رفض اقتراحه الجنوني.
شاع الخبر بين البحارة وكان من بينهم ” باعروب” – ابن البحر والموج- الذي قضى جل حياته في مجابهة أمواج المحيط، قائلا “إرادتنا أقوى من هذا الامتداد الأزرق يمكن قطع هذا المحيط” لا يعلم كيف تسلسلت الأحداث ومن أخبر محمد فوزي بما صرح به سي العربي.

ويضيف أنه كان جالسا في إحدى المقاهي العتيقة فإذا برجل يسأله:
أنت سي العربي؟ أأنت من قلت للبحارة أن إرادتنا يمكن أن تهزم المحيط؟ هل نغامر معا ونصارع هذه الزرقة اللامتناهية؟دون تردد أو أي تساؤل عن عواقب ذلك وافق “با عروب”

مرسى الصيد بمدينة الصزيرة

بدأ الاستعداد للرحلة بشكل سري مادامت سلطات الميناء كانت قد رفضت الفكرة بشكل قطعي، فكانت الانطلاقة في ” ذكرى 20 غشت” واختيار هذا اليوم كان مقصودا لأن كل مرافق الميناء تغلق أبوابها احتفاء بذكرى ثورة الملك والشعب.
يذكر سي العربي أنه حظر في توديعهما بعض الأصدقاء الذين كانوا يعلمون بأمر الرحلة، ركبا  القارب وتولى القيادة إلى اليوم الثاني دون توقف، وحينما أحس بالعياء طلب من محمد فوزي مساعدته، ليتفاجأ بأن صديقه لم يسبق له أن ركب البحر، لكن يملك الإرادة والرغبة لخوض التحدي، فانتاب سي العربي شعور بالخيبة وتأكد بأن مطبات الرحلة ستكون ملقاة على عاتقه…استمرا في الإبحار وبعد مرور شهر في غياهب المحيط، نفذ ما كان بحوزتهما من الأكل، وبدأ اليأس يدب إلى نفسيهما لأن تخمينهما عن مدة الرحلة كان خاطئا، فغيرا وجهتهما البحرية  صوب مغرب الشمس على أمل تطأ أقدامهم اليابسة في أقرب وقت، يضيف “با عروب” أنه في أحد الأيام استلقى للنوم طلبا للراحة، وبرزت في الأفق البعيد مؤشرات عاصفة هوجاء قادمة،  فأيقضه محمد فوزي لتولي القيادة…وبأعجوبة تمكنا من الخروج من مكان العاصفة، وفي الأفق البعيد بدت لهم سفن صيد ضخمة تعقباها لكن لم يتمكنا من اللحاق بها.. بعد مرور أزيد من ثلاثة أشهر تمكن منهما اليأس والملل ولم يعودا قادرين على تحديد الاتجاه الصحيح، ولم يجدا ما يسدان به رمقهما دون الأسماك التي كانا يصتادانها ويأكلانها نيئة.
لكن سرعان ما بدأت تظهر لهما علامات اليابسة وبعض المراكب الصغيرة…عرفا فيما بعد أنها جزيرة “غويانا” وهي مستعمرة فرنسية قرب البرازيل بمنطقة “سان جورج”، قضيا الليلة الأولى هناك في ضيافة صيادين من أبناء المنطقة وفي الصباح اقترحا عليهما الذهاب إلى شرطة الميناء، التي اندهشت من مغامرتهما وأرسلتهما إلى المستشفى لتلقي الإسعافات الأولية، وقدمت لهما أوراق إقامة مؤقتة، شاع خبرهم فأصبح زورقهم محط زيارات أهالي المنطقة، ليتم  نقله إلى أحد المتاحف في “غويانا.”
سيفترق المغامران بعد مدة، حيث اتجه “محمد فوزي” نحو مدينة ” كورو” مستغلا مهاراته في البناء، في حين استغل “با عروب” خبرته ليشتغل في البحر… بعد مرور سنة ونصف قرر العودة إلى الوطن لاسيما بعد مغادرة صديقه فوزي، يسترسل “با عروب” في سرد تفاصيل عودته إلى المغرب عبر باريس، والمضايقات التي تعرض لا في مقر الشرطة بالدار البيضاء والأسئلة المستفزة التي طرحوها عليه بخصوص رحلته لجزيرة
غويانا، ليطلق سراحه في اليوم الثالث من تاريخ الاستجواب الأمني ويقفل عائدا إلى الصويرة، وهناك كان على موعد مع مضايقات ومشاكل أخرى أسرية عمّقت من معاناته المعيشية بعدما حُكم على أسرته الصغيرة بإفراغ المنزل الذي يكتريه وإيداع زوجته السجن.

بعد انقضاء أزيد من عشرين سنة ما زال “با عروب مريكان” يتردد على ميناء الصويرة، ويركب أمواجه بحثا عن لقمة العيش…تلك إذن جوانب مختصرة من مغامرة الصياد التقليدي “العربي بامبار” في الامتداد الأزرق.

حسن البوهي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى