الحوار

الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي (5): أثناء تنصيبي رئيسا لتونس فاضت دموعي وأنا ألقي خطاب التنصيب، تذكرت الشهداء وكل من أدى فاتورة النضال

"اقترحت على الحكومة نهاية عام 2011 بيع القصور الرئاسية ماعدا قصر قرطاج. ليس معقولا وجود أناس يسكنون في بيوت شبيهة بالأكواخ وسيادة الرئيس يمتلك أربعة قصور فاخرة."

لوسات أنفو: حمزة الضيفي 

انتخبت رئيسا للبلاد في 12 ديسمبر 2011. حدثنا عن الشعور الذي انتابك في تلك اللحظة؟

لم أستطع التحكم في نفسي فاضت دموعي وأنا ألقي خطاب التنصيب، تذكرت الشهداء وكل من أدى فاتورة النضال، فلولا البوعزيزي وشهداء القصرين وسيدي بوزيد وجل الشهداء الذين سقطوا في ساحة معركة الحرية لما كنت في هذا المكان. توجهت إلى قصر قرطاج مباشرة بعد أداء القسم أمام المجلس الوطني التأسيسي حيت حصلت على 153 صوتا من أصل 217.

هل كانت أول مرة تدخل فيها قصر قرطاج؟

لا سبق أن زرته مرتين في بداية حكم بن علي لما دعاني إلى الحديث عن وضعية حقوق الإنسان. عندما ولجلت القصر في 13 ديسمبر 2011 تسلمت مهامي من الرئيس المؤقت للبلاد فؤاد المبزغ بعد أن تحدثنا مدة قصيرة، ومنذ ذلك الحين ترسخ تقليد تسليم السلطة الذي كان الأول في تاريخ تونس والوطن العربي. وهنا لا بد من أن أفتح قوسا مهما: طوال فترة رئاستي البلاد والإعلام الموالي للنظام القديم يستعمل عبارة “الرئيس المؤقت” بجانب اسمي، حتى أن تلك العبارة أصبحت لصيقة بي وترسخت في ذهن عدد من الصحفيين ولو بحسن نية، مع أن لا أساس لها قانونيا، وكان هدف ذلك هو التشكيك في شرعية انتخابي.

قبل الثورة كان قصر قرطاج يمثل في أذهان التونسيين والتونسيات “القصر الأسود”، لم يكن في وسع الفرد حتى أن يمر من أمامه. كيف عملت على تجسيد مفهوم الرئيس المواطن، وهو المفهوم الذي دافعت عنه قبل رئاستي للجمهورية وبعده؟

أول شيء قمت به عند وصولي لرئاسة الجمهورية هو أني قلت لموظفي القصر افتحوا النوافذ عن آخرها. كان باب القصر مفتوحا للأطفال والفقراء وكل فئات الشعب. في كل يوم كانت المدارس الابتدائية تنظم رحلات للأطفال إلى القصر، وقد توافد عليه آلاف الأطفال من جميع مناطق تونس.

فتحت أبواب القصر أيضا للمثقفين؛ ففي كل أول سبت من كل شهر كنا نقيم مناظرة في القصر، دعوت على سبيل المثال جورج قرم ليتحدث لنا عن الاقتصاد السياسي للانتقال الديمقراطي في الحالة العربية، وعزمي بشارة ليتحدث عن السياقات التاريخية لنشوء العلمانية وأنماطها. بينما كان مساء كل جمعة مخصصا للقاء المعارضين السياسيين، أما في منتصف النهار فكنا نقيم غداء على شرف المواطنين، خصوصا الذين يعيشون في الأحياء الفقيرة.

• هناك من يرى بأن هذه اللقاءات المتتالية تفريطا في هيبة الدولة، وقد تشكل خطرا على شخص يترأس البلاد؟

غايتي الأولى كانت تتمثل في كسر التابوهات المحيطة بالرئيس وشخصه. أختلف تمام الاختلاف مع مفهوم الزعامة المطلقة الذي يولد تمجيد الشخصية والنرجسية. كما لا أطيق مقولة “العاجز من لا يستبد”. كل إنسان يعتمد على أنموذج ويحاول تقليده، ليس بالمعنى الدوغمائي الجامد، وإنما من خلال الأخلاقيات المتوافرة فيه. عندما لا أجد حلا لبعض المشكلات والقضايا، أو تنتابني الحيرة، أحتكم إلى الثلاثي المقدس في ثقافتنا العربية الإسلامية: محمد رسول الله وعمرو بن الخطاب وعمرو بن عبد العزيز، ثم إلى اثنين خارج الثقافة العربية الإسلامية هما نيلسون مانديلا والمهاتما غاندي.
لا أؤمن بهيبة السلطة، ولا بفخامة واستبعاد الناس. نعم، لا أرتدي الثياب الفاخرة، ولا الساعات باهضه الثمن. أتساءل: هل سعى كل من النبي محمد أو عمر بن الخطاب أو عمر بن عبد العزيز إلى امتلاك الجاه والثروة؟ الجواب: لا. لقد عملت على فتح أبواب القصر لتدخله فئات الشعب المختلفة. إن القصر بيت للشعب، ولا يجب أن يكون حكرا على رئيس الجمهورية.

من جهة أخرى كنت قد اقترحت على الحكومة نهاية عام 2011 بيع القصور الرئاسية ماعدا قصر قرطاج، إذ كنت ولا زلت أعتبر أن رئيس الجمهورية له قصر واحد، هو قصر قرطاج، وإذا أحب الاستجمام فعليه أن يغادر إلى منزله أو الفندق. ليس معقولا ولا من المنطق وجود أناس يسكنون في بيوت شبيهة بالأكواخ وسيادة الرئيس يمتلك أربعة قصور فاخرة. إنها فكرة، بل واقع لا يتماشى ومبادئ المساواة والعدل الاجتماعي.

هل تم بيع القصور؟

قانونيا يعود اختصاص التصرف بالقصور الرئاسية إلى وزارة أملاك الدولة التي كان على رأسها شخص مقرب مني هو سليم بن حميدان، عضو حزب المؤتمر من أجل الجمهورية. اجتمعت آنذاك إلى سليم وطلبت منه الشروع في التفكير في كيفية بيع القصور، لكن رئيس الحكومة رفض الفكرة، فلم تطرح للبيع مع كامل الأسف، على الرغم من تكاليفها المرتفعة.

تم تأليف حكومة حمادي الجبالي في 23 شتنبر 2011، من أحزاب النهضة والمؤتمر والتكتل. كيف كانت علاقتك بالجبالي؟

في البداية كنت حريصا على عقد اجتماع دوري بيني وبينه، للتباحث في الأمور المتعلقة بإدارة البلاد، لكن سرعان ما رفض الحضور، عكس علي العريض الذي كنت أجتمع وإياه أسبوعيا. أراد الجبالي أن يقتسم الرئاسة معي، بل حتى قصر الرئاسة، إذ نادى بتخصيص جناح خاص لرئيس الحكومة في قصر قرطاج.

أبديت اعتراضي الشديد على هذا الرأي لاعتقادي برمزية منصب رئيس الجمهورية، وطابعه السيادي فيما يخص الجمهورية التونسية. وما زاد من تأزم الوضع بيني وبينه هو قرار تسليم البغدادي المحمودي إلى ليبيا.

من كان وراء قرار تسليم البغدادي المحمودي إلى ليبيا؟

قرار تسليم رئيس وزراء ليبيا البغدادي المحمودي كان وراءه رئيس الحكومة حمادي الجبالي ووزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي، ومعهما رئيس أركان القوات المسلحة رشيد عمار، دون إذن مني وفي مخالفة صريحة لأوامري. أعتقد من خلال هذا القرار أن هناك نية لدفعي للاستقالة. إنها عملية تتضمن مزيجا من الغباء والمغامرة، وكأنهم كانوا يودون القول: يجب أن نكسر شوكة المرزوقي، إما أن يستقيل ونرتاح منه، أو يظهر في مظهر الضعيف.

هناك من يرى بأن النهضة خلال فترة حكمك كانت تتحكم فيك؟

هذا غير صحيح. لقد اعترضت على جميع محاولات السيطرة على صلاحيات رئيس الجمهورية، في مقابل عدم التدخل في صلاحيات رئيس الحكومة. إن أهم سلطات رئيس الجمهورية تكمن في الخارجية والجيش، وقد عملت على تحديد معالم السياسة الخارجية للدولة وتوجهاتها من دون تدخل حركة النهضة أو غيرها، فلم أسمح لشخص أو لجهة معينة بإملاء علي ما يتناقض مع مواقفي وأفكاري.

مارست مهامي بكل استقلالية، إذ إن جل القرارات التي كنت أقرها كانت سيادية، بل فردية في بعض المرات، كما حدث عندما استقبلت خالد مشعل وإسماعيل هنية في قصر الجمهورية. كنت أعلم أني سأدفع الثمن باهظا نتيجة ذلك الاستقبال، لأن الإدارة الأمريكية كانت تصنف حماس حركة إرهابية.

ولم أستغرب فيما بعد الدور الكبير الذي أداه سفير الولايات المتحدة الأمريكية جاك والس في التنسيق بين راشد الغنوشي والباجي قايد السبسي لإبعادي عن رئاسة الجمهورية في انتخابات 2014.

أعتقد أن المعركة المقبلة تتمثل في الدفاع عن السيادة الوطنية. لا يمكن السماح لدول بعينها أن تتدخل في سياساتنا الداخلية لفرض موقف أو خيار معين على رئيس الدولة. دائما أحذر من “لبننة” تونس، ففي لبنان من غير الممكن تسمية رئيس الجمهورية من دون موافقة طهران والرياض، وهو الأمر الذي يتنافى مع مبدأ الاستقلال. كوبا مثلا، وهي دولة صغيرة، حافظت على استقلالها التام عن أمريكا، على الرغم من جغرافيتهما المتحاذية، لأن فيها رجالا مؤمنين بالاستقلال، ورافضين للتبعية، لكنهم مع الأسف قاموا بتثبيت نظام ديكتاتوري لا علاقة له بالقيم الديمقراطية التي نناضل من أجلها.

حدثنا عن تفاصيل الهجوم على سفارة أمريكا بتونس؟ ومن كانت له المصلحة في ذلك الاقتحام؟

كانت مؤامرة من الدولة العميقة لضرب الثورة. آنذاك هاجم بعض السلفيين السفارة الأمريكية في العاصمة تونس، ولم تكن الشرطة متمركزة حولها بالعدد الكافي، فلو قتل السفير الأمريكي كما وقع في ليبيا لتدخلت أمريكا بقوة ونزل “المارينز” إلى تونس.

لكني بعث الأمن الرئاسي إلى السفارة لتعويض الأمن الغائب أفشل العملية. وأتذكر اتصالات وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون بنا خوفا على سلامة الأمريكي وبقية أعضاء البعثة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى