الحوار

الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي(3): قضيت 4 أشهر في السجن وخرجت بعد تدخل نيلسون مانديلا

لوسات أنفو 

حاوره: حمزة الضيفي.

الجزء الثالث:

 

• أطاح زين العابدين بن علي بالرئيس الحبيب بورقيبة بانقلاب يوم 7 نونبر 1987. كيف تلقيت الخبر؟

جاء انقلاب بن علي لأتلقاه بترحاب، لكل الأسباب السياسية المعروفة، ولسببين خاصين أولهما توقف المتابعات ضدي وإطلاق سراح كتابي دع وطني يستيقظ، وثانيهما رجوع والدي الحاج محمد الذي اقسم أنه لن يطأ أرض تونس ميتا أو حيا تحت حكم بورقيبة وكانت المبادرات الأولى التي أخذها بن علي تجعلني أتساءل هل من الممكن أن تصدق نظرية ‘”هيجل” حول ما في التاريخ من سخرية أي هل بإمكان جنرال البوليس هذا أن يرسخ النظام الديمقراطي. والحق أنني لم أكن مناهضا للرجل وإنما كنت حذرا دون إفراط. ولا شك أنه لو جاءني أحد اليوم ببعض مقالاتي في تلك الفترة لأنكرت نسبتها إلي، خاصة تلك التي نشرتها في جريدة الصباح سنة 1988 على ما أذكر، والتي عنونتها (تصوروا)، ”الجنوب يا بن علي” وكنت أقصد بالجنوب كل المناطق الفقيرة المنسية من البلاد. نعم سأرفض نسبتها إلي، حتى تحت التعذيب، مدعيا أنها مؤامرة خبيثة لتشويه سمعتي سنة 2000.

وليس لي في الواقع أن أخجل من حسن نيتي وحتى سذاجتي، بقدر ما يجب على بن علي أن يخجل بما فعله بكل الأماني التي علقها عليه رجال نزهاء والتي لو أطهر جدارته بها، لدخل التاريخ من أوسع أبوابه بدل أن يطرد منه من الأبواب الخلفي. ثم تزايد ابتعادي عن النظام وتصاعدت حدة نقدي له يوما بعد يوم أمام ما كنت أراه من عودة تدريجية لأركان النظام البورقيبي إلا أن القطيعة الحقيقية لم تحصل إلا بمناسبة انتخابات 1989 وكان لتزييفها وقع الصاعقة على نفسي، رغم أنني كنت آخر من يود أن يفوز بها الإسلاميون.

كان الخط الأحمر ولا يزال مبدأ سيادة الشعب وقد رفضت ولا أزال بكل قوة ترهات ”النضج” و”التمشي” والقطرة قطرة فمن هم هؤلاء الناس الذين يحق لهم تقييم ”النضج” وتحديد سرعة المسار الديمقراطي إنهم جزء ضئيل من الشعب نصبوا أنفسهم أولياء وأوصياء عليه وليست لهم أدنى شرعية أو حق في تنصيب أنفسهم وليس في النظم السياسية المعاصرة غير شرعية تاريخية في الأنظمة الملكية وشرعية الصندوق في الأنظمة الجماهيرية. وكل ما ينتج عن تزييف إرادة الشعب هو بالنسبة لي الخيانة العظمى ولا خيانة عظمى غيرها لأنه مصادرة حق مقدس وإذلال الناس والسخرية منهم. ومنذ ذلك التاريخ أصبحت خصما صلبا للنظام. أنظر باستياء متعاظم إلى دخول قيادات الرابطة إلى الوزارة وتصاعد ضرب المؤسسات الهشة التي استطاع شعبنا تكوينها ضد بورقيبة في بداية الثمانيات، واستتباب النظام الدكتاتوري بأركانه المعروفة من شخصانية وتزييف الانتخابات وتقييد الصحافة ثم تدميرها وبداية انتشار الفساد والاستيلاء على المؤسسات أولها اتحاد الشغل.

في سنة 1994 قررت الترشح للانتخابات الرئاسية، هل تعرضت لضغوطات من طرف نظام بنعلي؟

عندما قررت الترشح لرئاسة الجمهورية قمت باستئجار قاعة أحد الفنادق في تونس العاصمة لتنظيم ندوة صحفية، وبعثنا أنا وصديقي عمر المستيري الدعوات للصحافيين. وبعد أن جاءني عمر إلى البيت انطلقنا سوية في اتجاه مكان تنظيم الندوة الصحفية، وإذ بالشرطة تلقي القبض علينا في الطريق. ركبنا سيارة الأمن وفي بالنا أنهم سيأخذوننا للسجن. الغريب في الأمر أن السيارة الشرطة التي كنا في داخلها لم تتوقف عن السير حوالي خمس ساعات. بعد مرور جميع هذا الوقت سألتهم عن سبب الاعتقال فقالو لنا: “هناك بلاغ قدم ضدك عن سرقة سيارة”. بعدها عادوا بنا إلى البيت وأطلقوا سراحنا، كل ما في الأمر أنهم كانوا يرغبون في تفويت حضوري أنا وعمر للندوة الصحفية.

وهنا أشير إلى أن مشاركتي في الانتخابات كانت لسبب رئيس هو إظهار كذب بن علي وزيفه، لأنه يتفاخر طوال الوقت في الإعلام بتبنيه الديمقراطية، أتذكر أني بعثت له برسالة بأسلوب ساخر أقول فيها: “بما أنك شخص ديمقراطي يؤمن بنزاهة الانتخابات، فإني أدعوك لحث نواب البرلمانيين التابعين لك ولحزبك على الشروع في تزكيتي لدخول الانتخابات الرئاسية”، وذلك لأن القانون كان يلزم المترشح بالحصول على تزكية ثلاثين نائبا برلمانيا، وبالتالي لم أحصل على التزكية البرلمانية لاستكمال إجراءات الترشح.

مباشرة بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية وضعت تحت مجهر المراقبة، وكان البوليس السياسي يلاحقوني طوال الوقت إلى أن تم اعتقالي في 21 مارس 1994.

• ما هي التهم التي تم توجيهها إليك؟

كانت التهمة الرئيسية بحسب زعمهم، هي تصريحي لجريدة إسبانية: “يتوجب قلب نظام الحكم باستخدام العنف”، مع أن التصريح مختلق وليس صحيح.

مكثت في السجن أربعة أشهر في العزلة الانفرادية، وفي 13 يوليوز 1994 ناداني قاضي محكمة تونس وقال لي: “ماذا ستفعل إذا أطلق سراحك؟”، فقلت له: “سأعود مباشرة إلى النضال ضد الديكتاتورية الحاكمة حتى إسقاطها”. حاول التفاوض معي على أساس الخروج من السجن لكني رفضت.

بعد نهاية الجلسة عدت إلى الزنزانة، وبعد ساعتين أطلق سراحي نظرا للحملة الدولية وخاصة لتدخل مانديلا الذي كنت عرفته في اجتماع للجنة نوبل للسلام دعيت إليه في أوسلو سنة 1991. هكذا خرجت من السجن، لأجد حولي خرابا بلقعا. فقد قررت زوجتي مغادرة تونس نهائيا خوفا على سلامة البنتين. وسقطت وجوه بارزة من المعارضة وحركة حقوق الإنسان في خدمة الدكتاتورية عادت اليوم تعلن التوبة وتطلب العفو.

كيف كانت ظروف السجن؟

لم أتعرض لأي تعذيب أو إهانة، لكن الحياة داخل زنزانة انفرادية قاسية ومن الصعب تحملها.

• عندما خرجت من السجن هل استمر النظام في ترهيبك؟

عند خروجي بدأت أصعب مرحلة من حياة كانت دوما بالغة الصعوبة. فقد منعت من السفر ومن الهاتف وطردت من المستشفى الجامعي ومن مصحات الضمان الاجتماعي في الوقت الذي كانت فيه كل كتبي ممنوعة. وضرب حولي طوق رهيب من العزلة. وكنت أعلم إذا دق الجرس أن الزائر شرطي أو الهاشمي جغام صديق المحن أو شقيقي مخلص وكنت أتمثل دوما بقول أبي العتاهية:
ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها ….. فكيفما انقلبت يومها انقلبــوا يعظمــون أخ الدنيا وإن وثبت ….. يوما عليه بما لا يشتهي وثبوا.

والحق أن هذه العزلة الرهيبة التي دامت من 94 إلى 97 كانت أغزر السنوات كتابة وتفكيرا. فقد أغلقت الكلية أمامي كل أبواب البحث العلمي ورفضت لي خلق شهادة التخصص في الطب الجماعي فلم يبق أمامي سوى الكتابة السياسية. و خلال هذه العزلة كتبت ”الاستقلال الثاني” الذي طبع ببيروت ولاحقته السلطة حتى في لبنان ثم ‘الإنسان الحرام” الذي نشره أصدقاء في المغرب بتمويل من الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي.

هل سبق أن التقيت بالأستاذ عبد الرحمن اليوسفي؟

التقيت اليوسفي وهو صديق قديم للوالد بعد خروجه من الوزارة الأولى بمدة وجيزة، وسألته عن أهم شيء حاول فعله عندما كان في موقع القرار، فوضع يده على ذراعه وقال: “حاولت قدر ما استطعت أن أضع يدي لوقف نزيف الفساد”.

خلال ذلك اللقاء حكي لي اليوسفي قصة غريبة ومضحكة حدثت في عام 1994: مباشرة بعد اعتقالي على خلفية إعلاني الترشح للانتخابات الرئاسية، بعث النظام برئيس حزب الاشتراكين الديمقراطيين الذي ما عاد له أي أثر في الخريطة الحزبية التونسية، في مهمة خاصة إلى المغرب للقاء ببعض زعماء المعارضة ومناضلي حقوق الإنسان بالمغرب الذين تجمعني وإياهم علاقة وثيقة، لمحاولة إقناعهم بما مضمونه: “المرزوقي مختل عقليا ومصاب بالجنون”. يحكي لي اليوسفي هذه الواقعة وهو يضحك، إذ أتى هذا الشخص إليه وحاول إقناعه، لكن الأخير علم بأمره.

الأجهزة الأمنية التونسية كانت تعلم عن الصداقات المتينة التي كانت تربطني بالكثير من ناشطي حقوق الإنسان في المغرب، خصوصا أني كنت دائم التردد على المغرب بحكم زيارة العائلة، ولحضور الندوات العلمية، ومقابلة الأصدقاء، فقاموا بالعمل على التشهير بي وفبركة أحداث غير صحيحة لتشويه سمعتي، لكن لم يصدقهم أحد.

• كيف تنظر إلى حركة حقوق الإنسان المغربية؟

لدي ملاحظة عنها: كنت دائما أتساءل عن سبب عدم وجود منظمة مركزية للدفاع عن حقوق الإنسان، كما هي حال الرابطة التونسية، إذ إن الحركة الحقوقية المغربية الرئيسة وقتذاك كانت مقسمة بين الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، والمنظمة المغربية لحقوق الإنسان والعصبة المغربية للدفاع حقوق الإنسان. أتذكر أن ياسر عرفات الذي كان مقيما في تونس كلفني في عام 1991 تنظيم مؤتمر عن فلسطين اختير له اسم “للفلسطينيين أيضا حقوق” باسم الحركة الحقوقية المغاربية. انطلقت إلى الجزائر، وبعد ذلك إلى المغرب، وهناك لاحظت بعض الخصومات في النقاش بين مكونات الحركة الحقوقية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى