بورتريه

ألان دونو: فضيحة التافهين و نظام حكمهم

التفاهة توهم بأرقام خبرائها الجافة وااستشاراتها العامة والتقارير المصاغة تحت وطأة التوصيات

لوسات أنفو: حسن أوزيادي

… كل ذلك لأن السياسيين احتكروا “الشأن العام” وأبعدوا الملتزمين بالقيم الانسانية عنه.

 

الحقارة والخسّة، و الدناءة والرداءة.. سمات طبعت و تطبع عصرا افتُضَّت فيه بكارة الإنسانية وانتُهك فيه المسار الطبيعي لحياة البشر والحجر و سُحل فيه الفكر و العقل وتم تعليب السلوك وتسليع الوجود.. هي المقولات التي أصبحت اليوم تؤثث الفضاءات العامة والخاصة في تركيبة سريالية غارقة في التفاهة المفرطة.

ظاهرة غريبة، تم إنتاجها بترتيب محكم وإحكام وتحكُّم غير مسبوق، ظاهرها تحول وتحديث، وعمقها طلاسم من الفظاعة والفضاضة والشناعة، استحال تفكيك شفراتها والتصدي لها في ظل اختلال توازن القوة بين القاهر والمقهور، تحكمت في صميم الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والفكري والأخلاقي. كُرِّست لها ترسانة من الآليات والأدوات المرئية و اللامرئية واستثمر الرأسمال المتوحش اليوليبيرالي كل طاقاته المالية والمادية والبشرية لتوطيد أسس وأركان نظام التفاهة.

كل الأدوات، ثقافية و وسائل الاتصال الاجتماعي و الإعلام و الفن والسياسة والاقتصاد، استُنفرت وجُندت لترسيخ  التفاهة  بقيمها المبتذلة القائمة على البهرجة و الانحطاط الأخلاقي والمجتمعي وتتحنيط الفكر  والقيم و تبخيس التعلم في كل أسلاكه وجعل الإقبال عليه لغرض الوجاهة والترقي الاجتماعي، بدل المعرفة وتطوير الفكر النقدي. ذلك هو مضمون ومرتكزات فلسفة آلان دونو الذي تعتبر إنتاجاته الفكرية بمثابة  الصرخة المدوية في وجه النيوليبرالية المتوحشة.

ألان دونو

من هو آلان دونو؟

آلان دونو..أستاذ فلسفة بجامعة كيبك الكندية، أكاديمي وناشط معروف بتصديه  للنظام الرأسمالي، يعتبر دونو:

أننا نعيش مرحلة غير مسبوقة”، أدت إلى زوال المفاهيم العميقة، وحلول السطحية مكانها، وهذا لا يحدث على مستوى الأفراد، بل على مستوى الدولة الحديثة ككل، إذ تدهورت المستويات الرفيعة للمفاهيم والقيم، وحل مكانها نظام سطحي هش يُعلي من شأن الرداءة، ولا يستنكر التفاهة، لأن كل هذا يخدم في النتيجة أغراض السوق“.

ولد آلان دونو في أوتاوا بكندا، في 26 سبتمبر 1970.بعد تخرجه من الجامعة، عمل دونو كصحفي لفترة وجيزة، ثم انتقل إلى فرنسا لدراسة الفلسفة في جامعة باريس الثامنة. هناك، درس تحت إشراف المفكر السياسي الفرنسي جاك رانسييه.

في عام 2004، نشر  دونو كتابه الأول، “بول مارتن وشركاته: ستون نظرية حول شرعية الملاذات الضريبية”. يتناول الكتاب دور الشركات متعددة الجنسيات في النظام المالي العالمي، ويسلط الضوء على الدور الذي تلعبه في التهرب الضريبي.بعد نشر هذا الكتاب، بدأ دونو في نشر سلسلة من الدراسات حول الممارسات المثيرة للجدل للمؤسسات الخاصة والعامة التي تشارك في العولمة الصناعية والاستهلاكية. كما نشر العديد من الكتب والمقالات حول الاقتصاد والشركات متعددة الجنسيات. من أهم أعماله :”كندا الأسود: النهب والفساد والجريمة في إفريقيا” (2008)، يتناول هذا الكتاب دور الشركات الكندية في الفساد والجريمة في إفريقيا.”الملاجئ الضريبية: المسار الكندي” (2014): يبرز فيه دور الشركات الكندية في النظام المالي السري.”ما هي المجموع؟ الشركات متعددة الجنسيات وتحريف القانون” (2017): يظهر فيه القوة المتزايدة للشركات متعددة الجنسيات وتأثيرها على النظام القانوني الدولي.

يركز آلان دونو في أعماله على دراسة الاقتصاد والشركات متعددة الجنسيات، وتأثيرهما على المجتمعات في جميع أنحاء العالم. تتسم أفكاره بالحدة والجرأة في الطرح حيث يعتبر الاقتصاد الرأسمالي نظاما غير عادل وغير مستدام. والدور الذي تلعبه الشركات المتعددة الجنسيات في تقوية سلطة  الرأسمال وتمدده في استباحة مقدرات العالم . ولهذا يوصي آلان دونو في كل كتاباته بضرورة إخضاع هذا النظام الاقتصادي العالمي لمزيد من الرقابة الديمقراطية. تتركز بحوث دونو على الفلسفة السياسية والفلسفة القانونية والفلسفة الاجتماعية. وهو مؤلف للعديد من الكتب والمقالات حول هذه الموضوعات، من بينها: الديمقراطية الراديكالية (2008)،السيادة الزائفة (2010)،الرأسمالية المتوحشة (2012)، الأزمة البيئية (2020).

تتميز شخصية دونوبالجرأة والشجاعة،فهو لا يخشى التعبير عن آرائه، حتى لو كانت تلك الآراء غير شعبية أو غير مقبولة. وقد أدى ذلك إلى تعرضه للعديد من الانتقادات والمضايقات، لكنها لم تثنيه عن مواصلة نشاطه. يتمتع دونو بالتزام قوي بالمبادئ، فهو يؤمن بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة بين جميع الأفراد. وقد دافع عن هذه المبادئ في جميع أعماله ونشاطاته.قدرة تحليلية نقدية كبيرة في فهم الواقع الاجتماعي والاقتصادي المعاصر بعمق. وقد استخدم هذه القدرة في نقد المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة. قدرة تواصلية فعالة في إيصال أفكاره ومواقفه إلى الجمهور بوضوح ودقة. وقد استخدم هذه القدرة في نشر أفكاره ونشر الوعي بقضايا العدالة الاجتماعية والمساواة.

ألان دونو

آلان دونو  القيلسوف الذي يشرٍّح  “نظام التفاهة”

يربط  آلان دونو “نظام التفاهة “في العالم كنتاج مباشر لنظام العولمة الذي أنتج مجتمعات غير قادرة على إعادة بناء منظوماتها وتوازناتها على أسس جديدة ملائمة. يحلل ألان دونو، “نظام التفاهة”. كنظام رأسمالي احتكاري استغلالي، يعتبر المِهن كنوع من العبودية بالأزمنة الحديثة. قام بتفكيك آليات سلطة التفاهة باعتبارها تعمل على ترميز الأشياء، وتغيير نسق العلاقة الاجتماعية والسياسية. هذا التحول يربطه دونو بعاملين أساسين: أولهما السوسيولوجيا والاقتصاد، وثانهما  بالسياسة، كحكم التكنوقراط، واستبدال الإرادة الشعبية بالمقبولية الاجتماعية حيث أضحى العالم في يد تكتل تافه يدير التفاهة ويساهم في فساد اللغة والأفكار والمثقفين، والوسط الجامعي والاقتصادي، والفني والثقافي و  مفاصيل الدولة ككل. وهنا يسائل آلان دونو الطلاب ويضعهم أمام أختيار حاسم  بطرح السؤال الحقيقي على أنفسهم: هل يريدون أن يصبحوا خبراء أم مثقفين؟ الخبرة، حسب دونو، في كثير من الأحيان هي بيع الأدمغة لممثلي الشركات الذين يستفيدون منها، هذا هو الجانب السياسي لسيطرة التافهين على السلطة و الحكم. أما المثقف فيظل محصنا بالمواقف والمبادئ والمثل الإنسانية العليا.

في الثمانينيات، تولى تكنوقراط في عهد رئيسة وزراء بريطانيا مارجريت ثاتشر إدارة هيئة الحوكمة التي تم تطويرها أولاً في نظرية المشاريع الخاصة، لإخضاع الدولة لثقافة القطاع الخاص. تحت ستار الإدارة الأفضل للمؤسسات العامة، كان الأمر يتعلق بتطبيق الدولة على أساليب إدارة الشركات الخاصة، التي كان من المفترض أن تكون أكثر كفاءة. في نظام الحكم، حلت الإدارة محل الفكر السياسي، ليتم عكس كل المفردات التقليدية، فتغيرت المفاهيم  وتم ربط الحوكمة للسياسة، والمقبولية الاجتماعية للإرادة الشعبية، والمواطن بمفردة الشريك والشأن العام بتقنية إدارة. فتم تبخيس منظومة القيم والمثل والمبادئ، فتحولت الدولة بكاملها إلى شركة استثمار ومجلس إدارة.

 التفاهة توهم بأرقام خبرائها الجافة وااستشاراتها العامة والتقارير المصاغة تحت وطأة التوصيات وخدمة أجندات وخيارات سلطة الرأسمال.

يعتبر دونو نظام التفاهة لعبة تهيمن على كل نشاط إنساني، سواء في السياسة أو الإعلام أو التجارة، أو غير ذلك، إذ لا تُجرى المجاهرة بقوانين هذه اللعبة أو الأطر العامة لها، بل تُمارس فعلياً حين تُستبعد القيم من الاعتبار، ويهيمن مقياس الربح والخسارة، ويُدير اللعبة أولئك الأشخاص الطامحون إلى النجاح السهل والسريع.ويرى دونو أن لورنس ج بيتر وريموند هال هما أول من لاحظ التطور التدريجي للتفاهة، الذي شق طريقه بعد الحرب العالمية الثانية، ويتجلى بوضوح في ترك الموظفين ذوي الكفاءة الاعتيادية على الترقي حتى شغل مواقع السلطة، مُبعدين بذلك المنتمين إلى فئة ذوي الكفاءة العالية، وأيضاً فئة غير الأكفاء. يقول دونو: “ما جوهر الشخص التافه؟ إنه القادر على التعرف إلى شخص تافه مثله، إذ يدعم التافهون بعضهم بعضاً، فيرفع كل منهما الآخر، لتقع السلطة بيد جماعة تكبر باستمرار، ومع ذلك يجب التنويه إلى أن التافهين لا يجلسون خاملين، بل إنهم يؤمنون بأنهم يعرفون كيف يعملون بجهد“.

ينتقد دونو الجامعات الأميركية والكندية والغربية عموماً، معتبراً أنها لم تقم بالدور المنوط فعلاً، وهو مصالحة الطلاب مع ذاك الجزء من أنفسهم القادر على إيجاد الأسئلة الأولية، والأوضاع الجمالية المثيرة للقلق، إلى درجة عميقة تدفع بهم إلى البحث والدهشة، واختبار حقول المعرفة التي ربما يظن البعض أنها باردة، مثل الفيزياء. في المقابل يوجد هوس بالحصول على الشهادات الجامعية العالية من ماجستير ودكتوراه، فالجامعة لا تركز على ترسيخ القيم العلمية في مطالبة الطلاب بالتفكير النقدي والفضول المعرفي، “إنما تسطح المعارف من خلال اهتمامها بتعميقها بدلاً من توسيعها”، بالتالي فإن الفقر الفكري في ازدياد، وهذا من أهم أصول التفاهة، لينتهي الأمر بهذه المؤسسات الأكاديمية العليا إلى إنتاج متخصصين ذوي التخصص الضيق، لا علماء ذوي أفق واسع قادرين على التعامل بجدية مع المشكلات الحياتية التي تواجه الإنسانية. فالجامعات أيضاً أصبحت أحد مكونات الجهاز الصناعي والمالي والأيديولوجي. ويقدم دونو مثالاً على ذلك تصريح رئيس جامعة مونتريال، في خريف 2011، حين قال: “إن العقول يجب أن تُفصل وفق حاجات سوق العمل”، ومن هذا المنظور يمكن القول إنّ الجامعات لا تبيع نتاج بحوثها، إنما علاماتها التجارية. ويرى آلان دونو أن الفساد يلاعب نفسه بنفسه، في هدا الإطار يستشهد بأرسطو لتوضيح فكرته عن الفساد، ففي كتاب أرسطو المعنون “حول الكون والفساد”، يوضح كيف “أن الفساد لا يحدث ببساطة بمجرد أن يتحول الشيء أو يُبلى. بل إن الفساد يقع عندما يتغير الشيء بشكل عميق، حتى لا يعود من الممكن التعرف إلى طبيعته”. هنا يظهر عمل الفلسفة التي عليها أن تخرج بمفاهيم جديدة، تُمكن من استيعاب ما أدى إليه الفساد من وجود كيانات جديدة، ومن ثم العمل على عرقلتها مرة أخرى.

كما لم يتغافل جونو في كتاباته  وضعية الثقافة ، “لقدحدثت تحولات كبيرة لها، حين قلبت إلى مجرد صناعة للترفيه، واستعمار العقول من قِبل الإعلان التجاري، وسيطرة نظام التمويل على الاقتصاد، ويبدو الخطر الذي يواجهه مثقف اليوم، بالغرب كما في بقية أنحاء العالم

لا يبدو دونو متفائلاً، رغم كونه مقاتلاً عنيداً تعرض لملاحقة قضائية من قِبل بعض أقطاب صناعة التعدين بعد إصداره كتاب “كندا السوداء النهب والإفساد والإجرام في أفريقيا”. دونو لا يرى أنه سيكون هناك شخصية نيتشويه سوف تقوم بشجب التفاهة، فالاحتقار الذي كان يشعر به الناس في السابق نحو الجبناء والسطحيين والتافهين أصبح مكتوماً إن وجد، وأصبحت التفاهة تتجسد الآن بالمعايير المهنية، وبروتوكولات البحث، وغيرها من قوانين السوق المفروضة فرضاً على الإنسان.

إن كتاب “نظام التفاهة” يقودنا إلى التفكير بكل ما يحيط بنا: السياسة، والاقتصاد، والتجارة، والكتب، والتلفزيون، والعمل، والصحافة، والشبكات الاجتماعية، واللغة، واضمحلال الحرفة، وظهور المهنة، وسيطرة النظام الرأسمالي، وحرصه على تنظيم السوق، وضبطه على هواه.

ألان دونو .. كيف يراه الآخرون؟

يقول المفكر السياسي الفرنسي جاك رانسييه في حق دون:” آلان دونو فيلسوف مهم، يطرح أسئلة صعبة حول الاقتصاد والشركات متعددة الجنسيات. أعماله تساهم في زيادة الوعي بالآثار السلبية لهذه القوى على المجتمعات في جميع أنحاء العالم.” أما الفيلسوفة الكندية هيلين سيجور:”آلان دونو صوت مهم في الفكر النقدي في كندا. أعماله تكشف عن طبيعة النظام الاقتصادي العالمي غير العادل وغير المستدام. إنها تدعو إلى إصلاحات ضرورية لجعل النظام العالمي أكثر عدلًا وشموليًة.”

أما الناشط الاقتصادي الكندي جون كرامر:” آلان دونو فيلسوف اقتصادي مهم، يساهم في تطوير فهمنا للاقتصاد العالمي. أعماله تقدم رؤى جديدة حول كيفية إصلاح النظام الاقتصادي لجعله أكثر عدلًا واستدامة.” أما الناقد الثقافي الكندي جيرارد جانت:” آلان دونو كاتب ذكي وحاد، يطرح أسئلة صعبة حول الثقافة والمجتمع. أعماله تساهم في إثراء الخطاب العام حول القضايا المهمة.”

 

تحذير آلان دونو

إن الأمر يتعلق بـ”ثورة تخديرية”، تدعونا إلى الوسطية. الوسطية التي تعني التفكير برخاوة ورمي القناعات في القمامة لنصبح كائنات طيعة يسهل اقتيادها ومبادلتها أو ركنها جانبا. وهذا لتسيير النظام الاقتصادي ـ الاجتماعي السائد والذي وصل إلى انهيار لا محدود. أما على صعيد العالم فلقد سمح بتوحش رأس المال الذي ألغى الحدود على الكرة الأرضية دون عائق“. وضع نظام حكم التافهين ثمانين في المئة من أنظمة الأرض البيئية عرضة لأخطار سياسة تمجد الاستهلاك والاحتكار وسمح لواحد بالمئة من السكان في العالم الاستحواذ على خمسين بالمئة من ثروات الكوكب. لأن السياسيين احتكروا “الشأن العام” وأبعدوا الملتزمين بالقيم الانسانية عنه.

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى