فن

أسامة أنور عكاشة.. مجد الدراما المصرية

عبد الإله إصباح

من يشاهد الدراما المصرية حاليا، سواء كانت مسلسلات أو أفلاما، لابد أن يتحسر على الزمن الذهبي لهذه الدراما التي أدركت مجدها مع الكاتب والسيناريست أسامة أنور عكاشة. بداية هذا المبدع الكبير كانت مع القصة القصيرة، ومجموعة من المسلسلات الإذاعية، غير أنه سرعان ما ضاق به الحال كموظف، فقرر التخلص نهائيا من قيود الوظيفة وإكراهاتها، فقدم استقالته منها في بداية الثمانينات ليتفرغ للإبداع الدرامي. منذ بدايته مع التلفزيون كان متميزا بتقديم دراما جديدة ومختلفة من حيث بناء الشخصية وطبيعة القضايا التي يعالجها من زاوية نظر مثقف، منحاز ومدافع عن العدالة والمساواة وكرامة الإنسان في وجه جشع الرأسمال ومؤسساته. يتضح هذا التوجه من أول مسلسلاته ” وقال البحر لا” الذي اقتبسه من رواية  ” اللؤلؤة” لجون شتانبيك. يضعنا المسلسل في قلب قرية بحرية هادئة يعيش سكانها على صيد السمك إلى أن يتم اكتشاف اللؤلؤ من طرف أحد الصيادين، وتعلم إحدى الشركات الدولية بالأمر فتتدخل للسطو على هذه الثروة مستعملة قوة المال ونفوذه، فتحدث تفرقة بين السكان وتغذي أطماع بعضهم وتؤجج الصراع بينهم وتقود بطل المسلسل إلى المأساة.

توقف في العديد من مسلسلاته عند محطات هامة من تاريخ مصر، بدءا من الفترة الملكية ومروا بالفترة الناصرية تم مرحلة السادات ومبارك، وفيها كان ينتصر دوما لرؤيته الناصرية هو الذي لم يكن يخفي كونه ناصريا في العديد من الحوارات الصحفية، وقد ظهر هذا التوجه في مسلسله الرائع ” ليالي الحلمية” المكون من خمسة أجزاء.

يحرص في كل مسلسلاته على قيمة النبل والنزاهة في مواجهة الجشع والابتذال والفردانية وفساد الذمم، أبطاله يخوضون صراعا مريرا من أجل تكريس ما هو جميل ونبيل من قيم ومبادئ. ولعل شخصية أبو العلا البشري في مسلسله المعروف بهذا العنوان خير ما يجسد هذا النموذج من الشخصيات التي تعيش أزمة أفول القيم في مجتمع أصبح أفراده يلهتون وراء مصالحهم الشخصية بشتى الأساليب القذرة. وقد برع اسامة أنور عكاشة في استلهام شخصية دون كيشوت لسرفانتيس وألبسها ثوبا مصريا من خلال شخصية أبو العلا الذي جسد دوره باقتدار كبير الممثل المبهر محمود مرسي.

ووفاء لتيمة الفن والجمال في مواجهة سطوة المال، قدم مسلسه “الحب واشياء أخرى” الذي ابرز فيه كيف يدوس الرأسمال على مشاعر الحب الجميلة، ولا يعطيها أي اعتبار في حساباته، فالربح والمصلحة هما القيمة الأساس ولا شيء غير ذلك. بل إن الرأسمال يتمادى في جشعه و يتطاول على رموز الإبداع والفن المصري، هذا الرأسمال الذي ترمز إليه شخصية فظة المعداوي في مسلسل ” الراية البيضا”

التي تسعى إلى اقتناء تحفة معمارية تحيل إلى فيلا كوكب الشرق أم كلثوم، غير أنها تواجه بمقاومة شخصيات مثقفة ترفض أن يؤول إرث فني لفرد من البورجوازية الطفيلية ليس أهلا لإدراك قيمته، بما أن هدفه هو بناء عمارة بدله. وقد قدم هذا المسلسل الرائع مع المخرج محمد فاضل الذي سبق وأن قدم معه مسلسلات أخرى لا تقل جمالا وروعة، كما تعاون مع المخرج إسماعيل عبد الحفيظ في خماسية ليالي الحلمية، لآنه كان يحرص على التفاهم التام مع المخرجين على كل التفاصيل، وكان هو من يقترح  أبطال مسلسلاته، ولا يقبل التنازل للنجوم عن أي جزئية تهم عمل الإبداعي، ولذلك رفض أن يتدخل عادل إمام في تعديل مجريات مسلسل “ارابيسك ” فاقترح تعويضه بالممثل المتميز صلاح السعدني الذي أتقن دور ” حسن” في هذا المسلسل، وكان من أروع أدواره في مساره الفني. كان يكتب أعماله برؤية وشغف كبير ويناقش مع المخرج كل التفاصيل ويحضر أثناء تصوير المشاهد، ويتدخل إذا لم تعجبه لقطة أو أداء مشهد، كان يتعب المخرجين كما صرح بذلك مخرج ” ارابيسك” جمال عبد الحميد.

في مجال السينما، أظهر مجددا انحيازه لجمال عبد الناصر عندما قدم فيلم ” كتيبة الإعدام” من إخراج عاطف الطيب وبطولة نور الشريف ومجموعة من النجوم. في هذا الفيلم أدان الفترة الساداتية التي شكلت انقلابا على كل منجزات الحقبة الناصرية في المجالين السياسي والاقتصادي، وسمحت للخونة أن يصبحوا هم أغنياء ورموز المرحلة، والفيلم في مجمله هو انتقام من أحد هذه الرموز التي بنت ثروتها على خيانة الوطن والعمالة للعدو الصهيوني. و قد واصل أنور عكاشة هذا التوجه المدين لحقبة السادات في فيلمه ” دماء على الأسفلت ” الذي تعاون فيه مرة أخرى مع عاطف الطيب ونور الشريف، ولم يكن ذلك صدفة، لآن الثلاثة يجمعهم تقديرهم الكبير للفترة الناصرية، فطالما اعترف عاطف الطيب ونور الشريف بفضل سياسة عبد الناصر في مجال التعليم عليهما، فلولا المجانية التي أقرها في هذا المجال ما كان لهما أن يحظيا بفرصة دراسة السينما والتمثيل ويبدعان في ذلك.

و بما أن الإبداع الدرامي هو حصيلة تكامل مجموعة من العناصر وانسجامها، وخاصة الجانب المرتبط بالموسيقى التصويرية الذي يساهم في تخليد الأعمال الدرامية في الأدهان، فقد عمل أنور عكاشة على إسناد موسيقى أعماله لكل من الموسيقار مشيل المصري في ” ليالي الحلمية” و الموسيقار عمار الشريعي في مجموعة من المسلسلات والأفلام، كان يعطي أهمية بالغة لجنيريك البداية و النهاية، لأن الجنيرك هو العنوان الموسيقي لهذه الأعمال الخالدة ، وهو جنيرك يستند في الغالب على أشعار سيد حجاب، واستند مرة واحدة على أشعار أحمد فؤاد نجم في مسلسل ” زيزينيا ” الذي يحتفي فيه الشاعر في جنيرك المقدمة بمدينة الإسكندرية وأمجادها.

لقد بنى أسامة أنور عكاشة بالفعل مجد الدراما المصرية، و شكل ذائقة جيل بكامله استمتع بإبداعه وعايش شخوصه وتعاطف مع قضاياه، وآمن بنبل المبادئ والقيم التي كرس فنه للدفاع عنها. و لحسن الحظ، فأغلب أعماله أصبحت متاحة اليوم على منصة اليوتوب، يستطيع كل من يرغب في اكتشافها أو إعادة الاستمتاع بها، أن يشاهدها من جديد.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى