محكيات الطاكسي في زمن كورونا 14

يوسف الطالبي

ركن سيارته خلف حافلة النقل التي لازالت تفرغ جوفها مما تكدس به من مسافرين وأمتعة، تقدم نحوه شاب كان يريد القنصلية الفرنسية بالحي الشتوي..
لم تكن مسيرة علي الدراسية سهلة، فمنذ أنهى المرحلة الابتدائيية بفرعية تابعة لمجموعة مدارس تارساغت نورجدال، ستبدأ صعوبات الأقسام الداخلية بالمرحلتين الاعدادية والثانوية بآيت اورير، إيواء سيء وتغذية مقرفة ومشرفين يفتقرون إلى عاطفة الحب التي يحتاجها طفل، ونزلاء لا تتوقف مناوشاتهم وشجاراتهم وسرقة أغراض بعضهم.
حين اجتاز امتحان الباكالوريا، اختار علي التسجيل بشعبة اللغة الفرنسية وآدابها، كان شغوفا بالقراءة لأدباء فرنكفونيين ،قرأ لفيكتور هيكو وألبير كامو وكوستاف فلوبير، والطاهر بن جلون وعبد اللطيف اللعبي وادريس الشرايبي ومحمد الديب، كان يضع تحضير شهادة دكتوراه هدفا لدراسته. خلال سنوات الجامعة تفتحت عيناه على الفكر الماركسي واختار أن يكون ماركسيا يساريا، ناسب ذلك ميله إلى السؤال وعدم الاستكانة للجاهز، ووجد فيه انتصارا وإنصافا لأهله المنسيين في تارساغت إنورجدال، حيث لا يحظى الناس بأي نصيب من ثمرة الانتاج الجماعي، مدارس كيفما اتفق، لا مشافي لا مواصلات لا إنارة ولاصرف صحي. في معمعان النضال الطلابي سيلتقي علي بسمية التي ملأ حبها عليه عالمه وأعطى وجوده معنى وشحن آماله، جسدا في علاقتهما القيم التقدمية التي كانت أرضية لقائهما، كان يجدها جميلة جدا، كانت أحسن الأوقات هي حين يخرجان للتسكع في أحد شوارع المدينة، يتناولان وجبة نقانق حارة بجامع الفنا أو يجلسان إلى مقهى بحي جليز، كانت تلهمه فينظم لها قصائد بالفرنسية والعربية.
كان على علي أن يجد عملا بعد حصوله على الاجازة ليمول دراسته بسلك الماستر والدكتوراه، لم يوفق في المباريات التي تقدم إليها، لم يفهم أبدا كيف استطاع متواضعون انتزاع فرصة من الفرص المتاحة بينما عجز عن ذلك، يميل من لم يوفقوا مثله إلى تعليق ذلك على مشجب الرشوة والزبونية لكنه لا يجد في نفسه استعدادا لاختزال الأمر بهذه الطريقة، شيء ما خطأ، كان كلما خرج من قاعة الامتحان خرج راضيا عن الإجابات التي دونها، كان أكثر ميلا إلى أن ما يواجهه هو انتقام سياسي بسبب نشاطه الطلابي وظهوره كأحد الوجوه البارزة في حركة عشرين فبراير، فقد انتشرت أحداث تؤكد حرص الأجهزة السرية للدولة على إقصاء محسوبين على اليسار الراديكالي وجماعة العدل والإحسان من الوظائف والمسؤوليات.
استطاع علي عبر قريب له أن يتدبر شغلا في أحد رياضات الضيافة بمراكش، ساعده إتقانه للغتين للفرنسية والانجليزية في ذلك، في الرياضات ليس هناك من تخصص، يجب على علي أن يعمل كموظف استقبال ونادل وحامل أمتعة وحتى طباخ، إذ يحضر وجبة الفطور للزبناء المغادرين باكرا قبل أن يحين موعد وصول المكلفة بالمطبخ، عمل يذر عليه أجرا صغيرا، لكن لطفه وخفة دمه يمكنانه من كرم الزبناء، ثم صار بعد ذلك يوجه الزبناء إلى محلات بعينها ويتقاضى مقابل ذلك عمولة، لكن مقابل المال حمله شغله الجديد شيئا فشيئا بعيدا عن حلم كبر معه.
كانت إيفلين، الزبونة الفرنسية ذات الستة والخمسين سنة حسب ما هو متبث في جواز سفرها، تقضي معظم ساعات اليوم تأخذ حمام شمس فوق سطح الرياض، لا تغادره إلا بعد غروب الشمس، كانت زبونة جيدة، تتناول وجبة الغذاء بالرياض ولا تتوقف وهي ممدة تحت أشعة الشمس عن طلب مرطبات كحولية، كانت توقع عند نهاية إقامتها على شيك قيم، وتجامل المستخدمين بإكرامية سخية، وكانت بالاضافة للهدايا التي تحملها معها لعلي عند وصولها، تخصه أيضا على انفراد بمبلغ من المال.
جاءت إيفلين إلى المغرب بنصيحة من صديقتها فابيين التي تزوجت من شاب مغربي التقت به عبر شبكة الانستغرام، أنقذته من حياة البؤس والعطالة فيما أنقدها هو من أزمة الوحدة في منتصف العمر، كانت فابيين وإيفلين قد تعرفتا على بعضيهما في إحدى مجموعات العلاج السيكولوجي تضم أشخاصا لم يستطيعوا التأقلم مع العيش وحيدين، فقدوا لسبب ما شركاءهم، لم ينجبوا أو انفض من حولهم أبناؤهم، كانوا في حاجة لمن يملأ عليهم عالمهم، يشعرهم أنهم لازالوا على قيد الحياة. فلا شيء يشعر الانسان بعلاقته بالعالم والوجود من حوله أكثر من أناس يحبونه، أن تغيب عن الأنظار دون أن يوجد هنالك في مكان ما من الأرض شخص يقلق لغيابك ويسأل عنك هو أقسى من الموت الطبيعي والطمر تحت التراب.
كانت إيفلين تتعمد التعامل مع علي، تطلب أن يسهر هو على خدمتها، وفي حال أوكل الأمر لآخر غيره، تعبر عن عدم الرضى على مستوى الخدمة المتدني، لا تغادر إلا مساء، وغالبا ما كانت تدعو عليا لمرافقتها إلى مطعم فاخر لتناول العشاء واحتساء بعض كؤوس النبيذ، كانت تتذرع بصعوبة العودة وحيدة عبر أزقة ودروب المدينة العتيقة في ساعة متأخرة. وفي يوم راحته الاسبوعي كانت تجعله يكتري سيارة ويذهبان إلى مدينة الصويرة، حين طلب إذنها يوما في اصطحاب سمية، كان رفضها قاطعا
– oh ..non..tu sais.. les choses sont très compliquées chez vous ici…comment va t on expliquer ça aux gendarmes ?
فكر علي، ربما تكون إيفلين على حق، كم أمسية حاول أن يشرح لها أمورا غير قابلة للشرح، كيف يكون الخمر حراما وممنوعا, لكنه معروض للبيع في المتاجر والبارات والناس تتزاحم على اقتنائه أمام أنظار الشرطة؟ وكيف أن العلاقة بين رجل وامرأة ممنوعة إذا لم يكونا متزوجين، بينما المقاهي والفنادق يرتادها خليلون وخليلات أكثر من الأزواج، حتى المراهقون يسترقون الملامسات والمداعبات في الحدائق العمومية؟ ثم ما دخل الشرطة في شأن امرأة ورجل راشدين تبادلا الإعجاب وقررا تطارح الغرام؟
لم يعودا قط للموضوع، أدركت إيفلين أن في الجوار عنصرا يستوجب تعديلات مهمة على خططها، لا بد أن تكون هذه السمية شابة جميلة بعينين لا يحتاج سوادهما لكحل، الشرقيون لا يحبون إلا بناتا أصغر منهم، في منافسة بين غواية المال وغواية الطبيعة، لا بد أن تنتصر هذه الأخيرة. أما علي فلم يعلق، ليس فقط لأن مبررها مفحم، ولكن لأن الزبون في منطق التجارة ملك.
كانت إيفلين لا تحب أن يقضيا يومهما بشاطىء مدينة الصويرة، حسب تعبيرها تجده مكتظا، تدخلات الناس والبلدية تشوه جمال الطبيعة، تقول أنها تفضل الأماكن الخلاء التي لاتزال عذراء لم تطلها جرافات الانسان، كانا يقصدان شواطىء خارج المدينة، لا حركة بها غير حركتهما وبعض الصيادين وطيور النورس، هناك تتمدد وتطلب من علي دهن كامل جسمها المترهل بمضادات الآثار الجانبية لأشعة الشمس.
كان علي قد تحدث إلى إيفلين بخصوص مشاريعه وأحلامه في مواصلة دراسته المجهضة، شرح لها كيف أنه يتعرض لعقاب سياسي بسبب أفكاره الثورية، حين عادت بعد شهرين، حملت معها ملفا ضخما به الكثير من المعلومات وشروط التسجيل بجامعة ديكارت بباريس خمسة، بشرته أنها يمكن أن تتدبر أمر تسجيله بها و أن الجامعة غير بعيدة من مسكنها كما أنه يمكنه استعمال سيارتها.
شعر علي أنه كمن يجتاز ممرا ضيقا حيث لا يحظى بحيز كاف للمناورة، حين عاد بذاكرته إلى الوراء، بدت له السنوات الست التي باتت تفصله عن تاريخ حصوله على الإجازة طويلة جدا، فجأة أدرك كم استسلم لليومي وسمح لحلمه أن يتسرب من بين أصابعه كرمل دقيق، ليس هناك من سلاح أكثر فتكا بالأحلام من المال السهل والروتين، لقد نضج بما يكفي ليقدم بعض التنازلات، التنازلات علامة على الرشد والحكمة، و “قسوحية الراس” دليل تأخر في النمو وطيش وطفولية، مر طيف سمية بباله، أغمض عينيه وحرك رأسه.
كان علي يريد الذهاب إلى القنصلية الفرنسية بالحي الشتوي، يحتاج لأن يجدد الإذن بدخول مجال الاتحاد الأوروبي، فقد سبق وأن حصل على إذن سار لمدة شهر لكنه انصرم قبل أن يتمكن من السفر، وضاعت معه قيمة ثمن التذكرة المضاعف، فقد قررت الحكومة تعليق كل الرحلات من وإلى فرنسا لمنع وصول حاملين للفيروس، يشعر علي بقلبه منقبضا، قرار تعليق الرحلات صار اليوم إغلاقا للحدود، كأن الأجهزة السرية تتعقبه حتى وهو يسعى إلى الهروب. ما يضخم مخاوفه أن لا مؤشر على نهاية الجائحة يلوح في الأفق، يخشى أن يكون ضحى بكل شيء من أجل لاشيء.