مراكش.. من يحفظ حقها في أن تُحكى؟
باسم الشغوف
ليس هناك ماهو أكثر إقلاقا لمدينة ما، من حظها في سرد نفسها. و مراكش من طينة هذه المدن التي تعاني هذا القلق بحدة، فالمكان يستعير قيمته مما يحكى عنه، و غير ذلك فهو شمس وموت.
إقامات و قصور بالملايير و طائرات خاصة و سيارات ليموزين و حفلات أسطورية تسمع الأذن عنها ما لا تصدقه العين ، حكايات و أسرار .. إنها بعض علامات حياة المشاهير و النجوم من الأثرياء الذين يسبقهم مجدهم و نفوذهم و شهرتهم إلى مراكش التي تحولت في السنوات الأخيرة إلى جنة عالمية لهؤلاء الذين تتحرك في كل خطوة يخطونها أموال طائلة . في كل يوم يزداد اسم إلى رصيد المدينة من العشاق : أمراء و رجال دولة و رؤساء مجموعات مالية ضخمة تتصرف في المصير الاقتصادي للعالم بكامله و تدبر تعاسة أغلب سكانه، و نجوم يصنعون فرجته..ينفقون ثروات يصعب على الخيال رسم حدود معقولة لها من أجل امتياز امتلاك جنة صغيرة بها .. تلك قصة مراكش اليوم .. جنة للمشاهير .. و عروش تتكئ على الملايير ..
لم تكن مراكش حلما طارئا في مخيلة مشاهير العالم و نجومه ،فتحولت فجأة معه إلى موضة تنسخ في مشاريع إقامة، و زيارات متكررة، و رغبة في قضاء وقت أطول بها . بل كانت دائما و منذ عقود طويل رغبة حقيقية لأسماء كبيرة ذوت شهرتها في فضاء السياسة العالمية و المال و الأعمال و الفن و الرياضة . ربما أكثرهم شهرة ، كان هو الرئيس تشرشل الذي زارها لأول مرة سنة 1943 فصار يقضي أوقات طويلة بالمدينة الحمراء مترجما عشقه للفن في لوحات كان يرسمها قرب السور التاريخي باب دكالة قبالة حي الحارة وسط النخيل و ممر الخطارات ، تلك الجسور المائية تحت أرضية التي كانت تؤمن حاجة المدينة و جنانها من الماء الصافي المستقدم من العيون المتدفقة من الجبال المحيطة بها ، مستمتعا بإقامة هادئة بفندق المامونية معبر المئات من قيادات العالم و نجومه .
منذ دخول الفرنسيين عقب التوقيع على معاهدة الحماية سنة 1912 ظلت مراكش دهشة حقيقية في عيون الأجانب الذين اكتشفوا سحرها مبكرا . فكتبوا عنها في مذكراتهم و وصفوا مغامراتهم بها ، و منهم الذين اكتووا بفتنتها فلم يقدروا على مغادرتها مقررين البقاء بها . و الآخرون حولوا العودة إليها إلى إدمان لا يشفون منه ..من أولئك حالة دونيس ماسون المزدادة سنة 1901 التي ما أن وضعت رجلها بالمدينة الحمراء سنة 1938 حتى قررت البقاء بها إلى أن توفيت بها سنة 1994 برياضها الشهير بدرب زمران بباب دكالة في قلب المدينة العتيقة الذي ورّثته للدولة الفرنسية ، و به كتبت أعمالها الاستشراقية ، و تحول اليوم إلى مزار ثقافي . حالها كحال جاك ماجوريل الذي استغل صداقة والده للمارشال ليوطي فزار مراكش للاستشفاء من مرض الربو فإذا به يستقر بها و يوظف سحرها لصالح موهبته في الرسم ، مخلفا بها إحدى التحف العالمية الجميلة ، و المتمثلة في حديقة ماجوريل التي تعهدها بعده إيف سان لوران و شريكه بيير بيرجيه ، و التي تستقطب لوحدها سنويا أزيد من 700 ألف زائر .
أسماء كثيرة من المشاهير تتزاحم في ذاكرة مراكش منذ العقود الأولى من القرن العشرين . نذكر منهم الفنان و الكاتب ” رونيه أولوج ” الذي استقر بها منذ العشرينات من القرن العشرين ، محققا اندماجا استثنائيا مع سكانها حيث كان يجيد التحدث باللغة العربية و الأمازيغية لأنه كان يرغب في مخاطبة أبناء البلد بلغتهم . و بمراكش أنجز أهم لوحاته التي استقطبت اهتمام كبريات صالات العرض و الأروقة و جامعي التحف و الأعمال النادرة ، و بها أيضا كتب مؤلفاته و منها عمله الشهير عن ثقافة المنطقة .
و كانت “فيلا الكونتيستة” لوحدها نقطة جذب لكثير من المشاهير لزيارة مراكش . و هناك كانت تستقبل أصدقاءها القادمين إليها من مختلف أنحاء العالم و منهم الرئيس الأمريكي روزفلت و رئيس الوزراء البريطاني تشرشل اللذين زاراها بنفس الفيلا عقب انتهاء مؤتمر أنفا ،و كذا الفنان الاسطورة شارلي شابلن ..و غيرهم كثيرون .
كل هذه المعلومات معروفة، و صارت أشبه بشعار دعاية رخيصة لمنتوج حضاري عظيم، لكن لائحة هؤلاء المشاهير الذين سيطرت مراكش على هواهم طويلة جدا و يصعب حصرها في هذا المقام ، فهناك أسماء ظل صداها يتردد كثيرا بفضاءاتها ، منهم “لاشوفيير” حفيد ألفريد دوميسيه ، و الكاتب و المفكر الإيطالي إمبرتو إيكو ،و تينيسي وليامز ،و أرملة الشاه إيران، و الممثل ألان دولون، و الكاتب برنار هنري ليفي، و دوقة النمسا التي رممت سقاية “شرب و شوف”، و المخرج ألفريد هيتشكوك الذي يذكر سكان حي المواسين إلى اليوم ارتياده لمقهى “زروال ” الذي يوجد بمدخل الصباغين على مقربة من السقاية التاريخية لهذا الحي ، و احتسائه لكؤوس النعناع به ، دون ان ننسى ميشال بوتور، و رولان بارث و جورج موستكي، و جان بول سارتر وسيمون دوبوفوار التي وصفت في أحد أعمالها بإعجاب كبير مطعم ” لوبوتي بوسي” الذي يتحسر عليه زبناؤه إلى اليوم..
و من الصعب أن ندرج ضمنهم أسماء كخوان غوتصيللو و برت فلينت و هانس كيرتس لأن هؤلاء أضحوا مراكشيين حقا، لا مكان يتصورون فيه أنفسهم أحياء عدا مراكش ..
هناك من مر بها منهم، فرسخ عبوره هذا في أعمال أدبية، خزّنت سحر المدينة الذي بدده أهلها في لامبالاة قاتلة، حتى تحولت مراكش إلى حسرة في قلوب سكانها. الكثير من هذه الأعمال التقطتها عين النقد المغربية، و بعضها صارت الكتابة عنها أشبه بالموضة ك” أصوات مراكش” لإلياس كانيتي و ” مراكش المدينة” لكلود أوليي”..لكن هناك نصوص أخرى قلما انتُبه لها، مثل رواية ” راوي مراكش” للكاتب الهندي المقيم في نيويورك جويديب روي باتاجاريا، الذي يقنع القارئ أنه لم يمر من مراكش أو قطن بها، و إنما عاشها كحالة روحية امتزجت فيها أنفاسها بنبضات قلبه، وامتلأت حواسه بروائحها و ألوانها وضوئها. فهو يقدم في روايته هذه هندسة الحلقة، و تفاصيل الأداء السيميائي للحكواتي، مثلما يبسط أمامه الساحة حية مع وصف دقيق لدرب ضبشي و رياض الموخى و باب فتوح، و يموقع شخصياته في المكان انطلاقا من معلم محدد كمقر البريد أو جامع خربوش، كل ذلك يدمج في بنية لولبية للحكي تمتد تقاليدها إلى عوالم ألف ليلة و ليلة.
يبدو هذا النص الذي نحن بصدد كتابته، ضحية للهوس المرضي الذي يتملكنا جميعا بتمجيد كل اهتمام غربي بنا، لكن ذلك لا يعفينا من التذكر أن مراكش، التي قال عنها الفنان العراقي طه سبع إنها بغداد الغرب، كانت أيضا محظوظة مع أساطير الثقافة العربية المعاصرة، الذين مروا منها أو ترددوا عليها. يصعب حصرهم، سعدي يوسف، سميح القاسم، جمال الغيطاني . بل حظيت معهم بأعظم نص كتب عنها، كما هو الأمر بالنسبة لقصيدة أدونيس الشهيرة ” مراكش / فاس” المنشورة في ديوان ” و الفضاء ينسج التأويل” و التي تتضمن هذه الصورة التي ذاع صيتها ” طفلا تدخل إلى مراكش في حاشية من توابع الشجر و العشب، تحييك طلائع النخيل، و كل غصن تاج من نار”
يروج الأثرياء أموال طائلة، و يخلقون المظاهر المبهرة، لكنهم لا يخلقون مجد المدن. هذه مهمة حصرية للفنانين والكتاب، الذين يصنعون أسطورة المدينة، بجعلها مستوطنة في المتخيل الكوني، تتجول في وجدان الناس بعيدا عن نفسها، متحققة كحلم متجدد. و طالما لم يُجِد أبناء مراكش سرد مدينتهم، فهي محظوظة بأن وجدت من يسردها نيابة عنهم مع ضرورة دفع الضريبة المترتبة عن ذلك. لأن السهو عن المكان جد مكلف، و في أغلب الأحيان يكون غير قابل للتعويض.
( الصور من حساب مراكش مدينة الألف سنة)