مذكرات

ّ”هذا اسمي يسرد تفاصيله” سيرة فاطمة تزوت (الحلقة العاشرة: البحث عن التوازن لمحاربة المحتلّ)

فاطمة تزوت/ كاتبة و مناضلة يسارية

استجاب محمد وبعض أقرانه من الشباب والشابات من سكان الحي لدعوة أطلقتها مجموعة من المتطوعين لتعليم القراءة والكتابة بالمجان ومحاربة الأمية، فكان من بين المستفيدين من هذه العملية التي استهدفت أيضا مختلف الأجيال ممن حرموا في صغرهم من التعليم، وقد عرفت هذه المبادرة استجابة واسعة،وإقبالا منقطع النظير. وبالفعل فقد تمت هذه العملية بدورها، على مدار كل أسبوع، وضمن مجموعات صفية صغيرة، وفي شروط استثنائية تفاديا لإثارة انتباه دوريات العدو التي تجوب الدروب والأزقة بين الفينة والأخرى.

   شهور قليلة بعد انضباط صارم لحضور الدروس، تمكن محمد من تخطي عتبة الأمية، ومن اكتساب مهارة القراءة والكتابة. ولأنه أحس بالأثر القوي للتعلم الذي بصم شخصيته، فقد تمنى في قرارة نفسه، أن تشمل هذه النعمة كل القاطنين من جيرانه الذين يعانون من وطأة الأميّة، وبما أنه مفعم بالحيوية وقوة العزيمة، فإنه لم يكتف بمجرد التمني، بل سارع بدوره إلى حث سكان الحي على الانضمام إلى ورش، سهر عليه بنفسه، من أجل محاربة الأمية. وبالفعل فسرعان ما انخرط أغلب سكان الحي، ذكورا وإناثا، في هذا الورش.

   كان الدافع الأساسي الذي حفز محمد على تعلم القراءة والكتابة، هو تكليفه بنقل منشورات الفدائيين وتوزيعها في الأحياء، لكنه كان بالرغم من قيامه بهذه المهمة،  عاجزا تماما عن معرفة فحواها.وقد كان أحيانا يضطر للاحتفاظ بنسخة منها إلى أن يعرضها على بعض المتعلمين،  ليطلعوه على مضمونها. وقد تسببت له هذه المهمة السرية في الاعتقال، وهو الشخص الذي لم يسبق له قط أن تعرض في حياته لما يشبه ذلك. حدث ذلك لأنه سلم منشورا، عن حسن نية، لأحد الجيران؛غير أن هذا الجار، لسوء الحظ، كان عميلا، ولذلك وشى به لدى السلطات، فاعتقلته إحدى الدوريات العسكرية الفرنسية. قضى محمد أياما في المعتقل تحت تعذيب وترهيب الشرطة العسكرية قصد انتزاع اعتراف يدلهم على مصدر المنشور.لم يفلح كل ذلك في ثني محمد على الاحتفاظ بالسر، ولم يشفع له غير صبره، وإصراره العنيد على الإدلاء بنفس الجواب:لا علم لي بشيء، كل ما أعرفه هو أني عثرت عليه ملقى على الأرض ” لقيتو طايح “…

 غادر محمد المعتقل وعلم الفدائيون منه قصة المنشور. وما أن حلت نهاية الأسبوع حتى تمت تصفية ذلك العميل الخائن أو بالأحرى ذلك” البياع “، وهذا هو النعت الذي يطلقونه على كل عميل خائن يتعاون مع العسكر الفرنسي، كونه يبيع قضية الوطن المقدسة، ويقدم على عمل شنيع يعرض من خلاله المواطنين الوطنيين لأذى المستعمر الغاشم.

 

 بعد مرور شهور معدودة على انطلاق ورش محاربة الأمية، بدأت تظهر النتائج التي انعكس أثرها الإيجابي على مجموعة من المستفيدين الذين تميز بعضهم بكيفية لافتة، وقد كانت عمة محمد الأرملة ذات الخامسة والثلاثين ربيعا علامة على هذا التفوق، وذلك بتميزها على الجميع في اكتساب القدرة على القراءة والكتابة، وتمكنت من إتقان العمليات الأولية للحساب، كالجمع والطرح والضرب والقسمة. مما جعل القيمين على التنظيم السياسي لحزب الشورى والاستقلال فرع درب الفقراء الذي كانت تنشط به صحبة العديد من نساء الحي أن يستعينوا  بها كأمينة  للمال بالفرع. وهذا ما حفزها بدورها على إطلاق ورش لمحاربة الأمية لدى النساء بفرع الحزب،مستعينة ببعض المتطوعين من أساتذة التعليم العمومي.

أما محمد فقد ارتقى درجة أخرى من التحدي في سلم المعرفة بتعلّمه للغة الفرنسية لغة المستعمر،قراءة وكتابة وسلاسة في النطق. وسرعان ما بدأ في هزم الصعاب  بعد كد ومثابرة  وعصامية نادرة استطاع بعدها متابعة ما تنشره الصحف الناطقة بالفرنسية وبالعربية، كالتحرير وهي جريدة سرية،وLe Maroc Rougeوهي جريدة شيوعية سرية، أما جريدةClarté فهي شيوعية علنية. كما يتابع جريدةLe courrier du Maroc وlibération “ElWafa“، ومن الجدير بالذكر أن الصحف التي تنشرها المعارضة فقد كانت سرية.

كان محمد شغوفا بالمعرفة، متعطشا لإرواء ظمأه الفكري، ولهذا فهو يحاول ما أمكنه الفهم استيعاب الأحداث خاصة تلك التي تتعلق بالصراع الحاد بين المقاومة والاحتلال  الفرنسي. وبحكم اختلاطه بالكثير من الشباب فقد صارت له اهتمامات إضافية أخرى كالملاكمة وسباق الدراجات الهوائية، لاسيما وأنه كان يرافق، بصفته هاويا، مجموعة من الرياضيين المحترفين في طواف الدرجات،ومنهم على سبيل الذكر: محمد الكرش ،مصطفى النجاري، بلقاضي، العدلاوي.

خلال الجلسات الليلية بفناء الدار، وبعد الاستماع إلى صوت العرب، وبعد الاطلاع أيضا على أهم مستجدات الصحف والمجلات العربية والفرنسية العلنية منها والسرية، ينهض الجميع للنوم،ويستمر الشباب منهم أو بالأحرى العزاب في سرد مغامرتهم العجيبة،والحديث عن المقالب التي ينصبونها للجنود الفرنسيين، أو في سرد البطولات وملاحم المقاومة الشرسة ضد الغزاة، أو التصفيات الجسدية لأذيال الاستعمار من الخونة الذين يطلقون عليهم عامة الشعب “البياعة”، والتي تحصل من حين لآخر وسط الأحياء الشعبية.

ويمر بهم الحديث عن مسقط رأس كل منهم، وعن أسباب الترحال ومغامراته ومفاجآته، مرورا بذكر المعاناة والمآسي، وصولا إلى طموحات كل منهم. تشكيلة غريبة بلهجات مختلفة وعادات وتقاليد متباينة، تباين خريطة الوطن بتلويناته الفريدة، من جبال وسهول خصبة إلى صحراء قاحلة، ووديان سخية أحيانا ومتمردة لحد الموت أحيانا أخرى. لكنهم استطاعوا خلق نقط  للتلاقي، وطّدت فيما بينهم عرى المحبة حتى بدوا وكأنهم أبناء رحم واحد، وهم بالفعل من رحم واحد، هو رحم الوطن الذي تعاهدوا على التضحية لأجله وجعلوه من أولوياتهم والإسهام في كل ما من شأنه أن يقتلع جذور الاستعمار الغاشم من بين شرايينه.

كان سكان الطابقين السكنيين يسترزقون قوتهم اليومي من الاشتغال ببعض الحرف، بالنسبة للنساء مثلا يساهمن في كسب قوتِهن ب”التطريز “الخياطة “عاملات في البيوت “وهناك من تفضل العمل في بيوت المقيمين أو المعمرين الفرنسيين إن أتيحت لها الفرصة “لسخاء العطاء”. بينما الذكور يعملون في أشغال البناء أو النجارة أو مساعدين في دكاكين تجارية ومن لم يجد يشتغل حمالا في الأسواق، والبعض الآخر كان ينهض من نومه قبل الفجر فيستقل عربة ذات الحصان إلى سوق الجملة ليبتاع منه بعض الخضر والفواكه بثمن الجملة يعيد بيعها داخل الحي مضيفا بعض الربح في الكيلوغرام الواحد، وقد يصبح له دكان في بعض الأسواق وتتوسع تجارته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى